أحمد تمام

صورة مقال الراجكوتي.. لسان العربية في الهند (في ذكرى وفاته: 26 من ذي القعدة 1398هـ)

شارك العلماء المسلمون في الهند في إحياء التراث العربي، ونشر كنوزه، ولهم في ذلك أياد بيضاء على الرغم من ضعف المال وهزال الإمكانات، ولم يقف ذلك عائقا دون موالاة الصدور، ونشر أمهات الكتب في التاريخ والحديث.

وكان يقف وراء ذلك الإنتاج قلعة كبيرة من قلاع نشر التراث العربي المعروفة باسم دائرة المعارف العثمانية التي تأسست سنة (1306هـ = 1888م) بحيدر آباد الكدن، معتمدة على ريع وقف عليها، ومنحة مالية من الحكومة الهندية، ثم ألحقت هذه الدائرة سنة (1337هـ = 1918م) بالجامعة العثمانية بحيدر آباد عند إنشائها.

وقد بلغ ما نشرته حتى الآن حوالي مائتي كتاب في مختلف ميادين الثقافة العربية والإسلامية، ويعد ما نشرته من كتب الحديث ورجاله من أوسع وأعظم ما نشرته الدائرة، وهو ما لم تقم به هيئة أخرى في العالم العربي أو خارجه، وحسبك أن تعلم أنها نشرت السنن الكبرى للبيهقي في 10 مجلدات، ومستدرك الحاكم في 4 مجلدات، وكنز العمال في سنن الأقوال والأعمال في 22 جزءا، ولسان الميزان لابن حجر في 6 مجلدات.

وإلى جانب هذه الجهود الجماعية المخلصة، برز اسم “عبد العزيز الميمني” الذي أوقف عمره على البحث عن التراث العربي ونشر نوادره، ووقف بمفرده يواصل جهده المبارك في تحقيق التراث.

المولد والنشأة

ولد عبد العزيز الميمني سنة (1306هـ = 1888م) ببلدة راجكوت، ومنها جاء نسبته الراجكوتي، وهي تقع في إقليم كاتهيا دار (التي تعرف الآن باسم سوراشترا على الساحل الغربي للهند)، ونشأ في بيت عريق في التجارة.

التحق عبد العزيز الميمني بالكتاب، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، ثم استكمل دراسته العالية في “لكهنو” و”رامبور” و”دهلي”، والتقى بشيوخ كثيرين من أمثال الشيخ حسين بن محسن الأنصاري الخرزجي السعدي، وقد أجازه برواية الحديث النبوي، ونذير أحمد الدهلوي، ومحمد طيب المكي.

وشغف الميمني بالعربية، فتعمق فيها وعكف على الشعر العربي قراءة وحفظا، حتى إنه حفظ ما يزيد على 70 ألف بيت من الشعر القديم، وكان يحفظ ديوان المتنبي كاملا.

في رحاب الدرس

وبدأ الميمني حياته بالكلية الإسلامية ببيشاور، حيث قام بتدريس العربية والفارسية، ثم انتقل منها إلى الكلية الشرقية بمدينة لاهور عاصمة إقليم البنجاب، ثم استقر بالجامعة الإسلامية في عليكرة، وظل يتدرج بها في المناصب العلمية حتى عين رئيسا للأدب العربي بالجامعة، ومكث بها حتى أحيل إلى التقاعد. لكنه لم يركن للراحة فلبى دعوة جامعة كراتشي بباكستان، ليتولى رئاسة القسم العربي بها، وأسندت إليه مناصب علمية أخرى، فتولى إدارة معهد الدراسات الإسلامية لمعارف باكستان، وظل يعمل في هذه الجامعة حتى وفاته.

الرحلة لتركيا والمشرق العربي

صورة مقال الراجكوتي.. لسان العربية في الهند (في ذكرى وفاته: 26 من ذي القعدة 1398هـ)

غلاف-كتاب-للميمني

وكان الميمني واسع الثقافة العربية، وأتاح له دأبه الشديد في مطالعة خزائن الهند التي تحوي آلاف الكتب العربية المخطوطة، أن يقف على النوادر منها، وأن يتحف المكتبة العربية بما تيسر له طبعه فيها.

ولم تشف خزائن الكتب في الهند ظمأه العلمي، فاتجه إلى البلاد العربية وتركيا سنة (1354هـ = 1936م) بحثا عن المخطوطات، ووفق في الوقوف على النادر منها، فطاف بخزائن إستانبول وزار مكتباتها التي تضم أكبر مجموعة خطية من التراث العربي، وزار القاهرة وتوثقت صلته بعلمائها، واتصل بلجنة التأليف والترجمة والنشر التي كان يرأسها الأديب الكبير أحمد أمين، كما زار سوريا، واستعانت به وزارة الثقافة بدمشق للاستفادة من خبرته في مجال المخطوطات، وكان المجمع العلمي العربي بدمشق قد اختاره عضوا مراسلا به في سنة (1347هـ = 1928م) وهو في الأربعين من عمره تقديرا لنبوغه المبكر، ومعرفته العميقة بالعربية وآدابها، وظل في المجمع 50 عاما أو يزيد.

اتصال بالمؤسسات الثقافية المصرية

وكان لمصر فضل التعريف بالشيخ عبد العزيز الميمني وإظهار علمه فقد نشرت له لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة كتاب سمط اللآلي لأبي عبيد البكري، وقد صدر الكتاب في مجلدين سنة (1354هـ = 1936م)، والكتاب في شرح كتاب الآمالي لأبي علي القالي.

وقد أبان العلامة الميمني في تحقيق هذا الكتاب عن “علم غزير وإحاطة جامعة بالتراث العربي، وبخاصة ما يتصل بالشعر ورواياته، وأخبار الشعراء والرواة ومداخلة الكتب وبراعة التعامل معها، ويعد تحقيق الكتاب آية من آيات الإبداع في تحقيق النصوص وتوثيقها”.

وكان الشيخ أثناء إقامته بالقاهرة يمضي أكثر وقته في دار الكتب المصرية عاكفا على نسخ المخطوطات التي يرى أهميتها، وكذلك كان يفعل في أثناء زيارته للشام والعراق وتركيا، باحثا عن النفائس، ومنقبا عن النوادر مما لم يسبق نشره، ولم يسمع به إلا العدد القليل من العلماء.

وقد تهيأت له عدة رسائل صغيرة نادرة شملت ديوان الأفوه الأودي، وديوان الشنفرى، وديوان إبراهيم بن العباس الصولي، والمختار من شعر المتنبي والبحتري وأبي تمام للإمام عبد القاهر الجرجاني، وقد نشرت له لجنة التأليف والترجمة هذه الرسائل سنة (1356هـ = 1937م) تحت عنوان الطرائف الأدبية.

وكان لهذا الجهد العلمي الرفيع في أن يعمق صلاته بعلماء مصر من أمثال محب الدين الخطيب ومحمود محمد شاكر، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، ورجال دار الكتب المصرية، الأمر الذي ترتب عليه أن قام الميمني بنشر إنتاجه العلمي في القاهرة التي كانت تعرف قدر الرجل وسعة علمه، وظهر ذلك في اختيار مجمع اللغة العربية بالقاهرة له عضوا مراسلا، اعترافا بفضله وجهده.

الإنتاج الفكري والعلمي

دار إنتاج الميمني حول التراث العربي تعريفا به وتحقيقا له، ومن هذا الإنتاج:

* ديوان حميد بن ثور الهلالي، وهذا الديوان جمعه الميمني وأعاد بناءه ونشرته دار الكتب المصرية بالقاهرة.

* ديوان سحيم عبد بني الحسحاس، وقد حققه الميمني ونشرته دار الكتب المصرية، ثم أعيد طبعه في القاهرة سنة 1384هـ.

* الوحشيات وهي الحماسة الصغرى لأبي تمام الطائي، وقد نشرت دار المعارف تحقيقه لهذا الكتاب في سلسلتها ذخائر العرب المعروفة سنة 1383هـ، ويذكر أن العلامة محمود محمد شاكر قد راجع هذا التحقيق وزاد في حواشيه.

* الفاضل في اللغة والأدب لأبي العباس المبرد، وتولت نشره دار الكتب المصرية وهو ثالث الكتب التي حققها الميمني وقدمها لدار الكتب لتقوم بطبعها بعد ديوان سحيم وديوان حميد بن ثور الهلال، وقد طبع في القاهرة سنة (1357هـ = 1955م).

وهذا الكتاب لم ينشر من قبل، ولم يكن معروفا أو متداولا بين العلماء، وقد عثر عليه الميمني في أثناء تطوافه في مكتبة أسعد أفندي بإستانبول.

* أبو العلاء وما إليه، فائت شعر أبي العلاء، ونشر هذا التحقيق في القاهرة سنة 1344هـ بالمطبعة السلفية.

* نسب عدنان وقحطان لأبي العباس المبرد، وهي رسالة صغيرة حققها ونشرتها لجنة التأليف والترجمة سنة 1354هـ.

* المنقوص والممدود للفراء والتنبيهات على أغاليط الرواة لعلي بن حمزة، ونشر الكتابان معا في سلسلة ذخائر العرب التي تصدرها دار المعارف بالقاهرة سنة 1397هـ.

ومن تآليفه النافعة كتاب إقليد الخزانة، وهو فهرس للكتب الواردة في خزانة الأدب لعبد القادر البغدادي، وقد طبعته جامعة البنجاب بالهند سنة 1927م.

وقد جمعت مقالاته وبحوثه في اللغة والأدب بعد وفاته في مجلدين تحت عنوان بحوث وتحقيقات قام عليها محمد اليعلاوي، ونشرته دار الغرب الإسلامي ببيروت.

وفاته

وقد امتد به العمر حتى بلغ التسعين من عمره، وهو موفور النشاط حتى توفي في يوم (الجمعة الموافق 26 من ذي القعدة 1398هـ = 27 من أكتوبر 1978م) بعد حياة حافلة، وأصدرت مجلة المجمع العلمي الهندي عددا ممتازا عنه، وقام شاكر الفحام رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق بدراسة مؤلفاته وتحقيقاته، ونشر هذه الدراسة في مجلة المجمع في المجلد الرابع والخمسين سنة (1399هـ = 1979م).

مصادر الدراسة:

* محمود محمد الطناحي – مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي – مكتبة الخانجي – القاهرة – 1984م.

* محمد خير رمضان يوسف – تتمة الأعلام – دار ابن حزم – بيروت – 1418هـ = 1998م.

* عبد العزيز الميمني: الطرائف الأدبية – لجنة التأليف والترجمة والنشر – القاهرة – 1937م.