بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
هذه بعض أبيات قصيدة عصماء في مدح الرسول ﷺ ، مدح بها كعب بن زهير بن أبي سلمى رسول الله ﷺ، وأتى مسلمًا وتائبًا عَمَّا كان منه من هجاء للمسلمين :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ
مُتيَّمٌ إثرها لم يفد مكبولُ
وما سعاد غداةَ البين إذ رحلوا
إلا أغن غضيض الطرف مكحول
أرجو وآمل أن تدنو مودتها
وما إخال لدينا منك تنويل
نُبئت أن رسول الله أوعدني
والعفو عند رسول الله مأمول
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم
أذنب ولو كثرت فيّ الأقاويل
إن الرسول لنور يُستضاء به
مهند من سيوف الله مسلول
وقد عرفت قصيدة مدح الرسول ﷺ هذه في تاريخ الأدب العربي بـ”البردة” لأن الرسول –عليه الصلاة والسلام- عندما سمعها استحسنها وخلع على كعبٍ بردته لتكون وسامًا لكعب على قصيدته التي أصبحت مَعلمًا، نحاول في عجالة استعراض أهميتها وأثرها:
1 – قصيدة “بانت سعاد” تكتسب أهميتها من ملابساتها التاريخية بما يفوق قيمتها الفنية التي لا نشكك فيها بالطبع، ولكنها تندرج في إطار القوالب العامة لقصائد الشعر الجاهلي؛ حيث حملت من أغراضه الغزل والنسيب والوصف والحماسة والمدح والاعتذار والحِكَم والأمثال، ومن ملامحه فخامة الألفاظ وقوة الجرس الموسيقي، وتسودها ملامح الحياة الصحراوية فترى فيها الرياح والرمال والجمال والسيوف. وهنا ملاحظة لطيفة وهي أن مؤرخي الشعر العربي يقولون: إن الشعر العباسي كان شعرًا نباتيًّا لما فيه من وصف الورود والخمائل والرياحين والبساتين، بينما الشعر الجاهلي كان حيوانيًّا؛ لما يكثر فيه من ذكر الخيول والجمال والظباء والكلاب..إلخ. ويكفي أن تعلم أن هذه القصيدة التي يبلغ عدد أبياتها ستين بيتًا كان نصيب الإبل منها عشرين بيتًا أي الثُلث، فإذا أضفنا ما ذكر فيها من حيوانات أخرى -كالفيل والأسد والظبي وغيرها- لكانت قصيدة “بانت سعاد” مصداقًا لهذه المقولة.. كما ننوه بأن هذه القصيدة على وزنٍ من أكثر الأوزان شيوعًا عند شعراء الجاهلية وصدر الإسلام وهو بحر البسيط ووزنه (مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن) وقد نظم الشهابي هذا الوزن بقوله:”إذا بسطت يدي أدعو على فئةٍ .. لاموا عليك عسى تخلوا أماكنهم .. مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن .. فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم”.
2 – قبل أن نتكلم عن تأثير القصيدة، نتكلم عن تأثرها. فإن “بانت سعاد” تمثل نمط القصيدة الجاهلية، كما أنها متأثرة أيضًا بصورة مباشرة بعدد من قصائد الشعراء السابقين والمعاصرين لكعب بن زهير فللأعشى قصيدة يقول مطلعها: بانت سعاد وأمسى حبلها رابا .. وأحدث النأي لي شوقًا وأوصابا. وللنابغة الذبياني قصيدة يقول فيها: بانت سعاد وأمسى حبلها انجذما.. واحتلت الشرع فالأجزاع من إضما. ولطفيل الغنوي لامية يصف فيها محبوبته “شماء” بصفاتٍ تتطابق مع صفات سعاد كعب حيث يقول:
هل حبل شماء قبل البين موصول
أم ليس للصرم عن شماء معدول
إذ هي أحوى من الربعي حاجبه
والعين بالإثمد الحاري مكحول
إن تمسِ قد سمعت قيل الوشاة بنا
وكل ما نطق الواشون تضليل
فما تجود بموعود فتنجزه
أم لا فيأسٌ وإعراض وتجميلُ
ولا نريد الاسترسال في هذا الميدان الذي تكثر فيه الشواهد؛ لأن التأثير المتبادل بين شعراء العصر الواحد ظاهرة محسوسة تمليها طبائع الأمور؛ حيث تتشابه البيئة وتشترك التجارب وتفرض الأوزان والقوافي صبغتها على الموضوعات.
3 – قصيدة مدح الرسول ﷺ “بانت سعاد” تتفرد بين فرائد الشعر العربي بما أحدثته من تأثير على مر العصور. وظهر هذا التأثير في حرص عشرات الشعراء، إما على معارضة القصيدة أو الاستفادة من صورها أو ألفاظها حتى تكونت مكتبة شعرية وافرة وثرية بتأثير قصيدة كعب. ومن أشهر قصائد المدائح النبوية التي عارضت “بانت سعاد” لامية الحميدي التي مطلعها:
بانت سُليمى ففكر الصب مشغول
وقلبه من لظى الهجران مشغول
ولامية عبد الرحمن بن حسن:
لي في الهوى مذهبٌ ما عنه تحويل
وما لحبي تغيير وتبديل
ولامية النابلسي:
هل في البروق عن الأحباب تعليل
لا والذي ماله في الحكم تعليلُ
أما أشهر هذه المعارضات فهي لامية البوصيري التي يقول مطلعها:
إلى متى أنت باللذات مشغول
وأنت عن كل ما قدمت مسئول
فقد أشار في قصيدته إلى أنه يعارض بها قصيدة كعب، وأنه وإن وازن بها قوله فإنها لا تعادله في حسنه ولا تناظره، إلا كما تناظر المثاقيل ما يوزن بها من الدر، وهذا معنى جميل لم يسبقه إليه أحد إذ يقول:
لم أنتحلها ولم أغصب معانيها
وغير مدحك مغصوب ومنحول
وما على قول كعبٍ أن توازنه
فربما وازن الدرَّ المثاقيلُ
وهل تعادله حسنًا ومنطقها
عن منطق العرب العرباء معدول
ثم يقول بعد هذه الأبيات: إنه لما كان غرضهما واحدًا -وهو مدح الرسول (ص)- فلا بأس من أن يغلبه كعب، فهو إنما يقفو أثره للبركة التي نالته بسببها؛ حيث استحق بها عفو الممدوح وصان بها دمه:
وحيث كنا معًا نرمي إلى غرضٍ
فحبذا ناضلٌ منا ومنضولُ
إن أقف آثاره إني الغداة بها
على طريق نجاحٍ منك مدلولُ
لما غفرت له ذنبًا وصنت دمًا
لولا ذمامك أضحى وهو مطلولُ
رجوت غفران ذنبٍ موجبٍ تلفي
له من النفس إملاءٌ وتسويل
4 – هناك أيضًا من هذه الألوان التأثير العلمي في ميدان الأدب والثقافة الإسلامية، ويتمثل في المؤلفات التي خصصت على مر العصور لشرح قصيدة مدح الرسول ﷺ “بانت سعاد” والتي بلغت عددًا كبيرًا تناثرت وتفرقت في مكتبات العالم بين المخطوط والمطبوع، ولم يبق منه سوى الذكر. على أية حال؛ فالمتوافر الآن من هذه الشروح حوالي خمسين، اختلفت في منطلقها ومنظورها إلى القصيدة؛ فمنها الشروح اللغوية مثل شرحِ السكري وشرح الخطيب التبريزي وشرح الأنباري وغيرها… والشروح النحوية كشرح البغدادي وشرح ابن هشام وغيرهما … والشروح الأدبية وأهمها شرح السيوطي المسمى “كنه المراد في بيان بانت سعاد” وشرح جمال الدين بن هشام، ثم الشروح التي جنحت إلى النهج الصوفي مثل شرح الشيخ القدسي “الإسعاد في تحقيق بانت سعاد” وكذلك شرح محمد القاري وغيرهما… ولكم أن تتخيلوا حجم ما أضافته هذه الشروح للمكتبة العربية من مسائل وشواهد وآراء.
5 – من الأثر الشعري لهذه القصيدة الشهيرة في مدح الرسول ﷺ نجد، بالإضافة للمعارضة، تشطير أبيات القصيدة وتخميسها، ومن التشطير قول الشاعر:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
مدله حائرٌ والعقل معقول
معذبٌ في هواها هائمٌ دنِفٌ
متيمٌ إثرها لم يفد مكبولُ
ومن التخميس قول الشاعر:
قلبي على حب من أهواه مجبول
ونقل شوقي لدى العشاق مقبول
يا لائمي خلني فالعقل مخبول
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
فإذا انتقلنا إلى الطرائف الأدبية والمُلح الشعرية نجد العديد من أرباب الفنون قد وظفوا القصيدة لنظم علومهم؛ فعلى سبيل المثال نظم بعض علماء مصطلح الحديث:
يا من حديث غرامي في محبتهم
مسلسل وفؤادي منه معلولُ
حبي صحيحٌ ومقطوعٌ به ألمي
عشقي حديثٌ قديم فيك منقول
ونظم بعض علماء النحو:
إن ميزوني بعطفٍ فهو بغيتهم
وإن هم خفضوا دمعي فمحمول
هم عرفوني وكان الحال نكرني
فكيف أصرف وجدي وهو معدولُ
وهناك من استعرض سور القرآن الكريم من خلال لامية معارضةٍ لكعب فكان مما قال:
تجمعوا زمرًا في كل واقعةٍ
إلى القتال وجيش الكفر مخذولُ
وبالحديد فكم أبدوا مجادلةً
للكافرين وسيف البغي مفلول
تبارك الله سبحان الإله لقد
وافاه بالنصر عند الصف جبريلُ
والحقيقة أن التوسع في ذكر الأمثلة يحتاج إلى مجلدات، ولكن لا يفوتني هنا -من باب الدعابة – أن أنقل للمشاهد مثالاً لقصيدة لامية شطر فيها “الخفاجي” “بانت سعاد” وحشد في تشطيره ألفاظًا معجميةً غريبة فكان مما قال :
ولن يبلغها إلا عذافرةٌ
صلخدمٌ عسلٌ سجحاء عيهول
قصية شيظمٌ علطوس ساهمةٌ
لها على الأين إرقالٌ وتبغيلُ
غلباء وجناء علكوم مذكرةٌ
عرفاس عرمس ما في اللحم ترهيل
6 – هناك شبهة مثارة حول العاطفة الدينية والروح الإسلامية لكعب بن زهير ومصدر إثارتها سببان: الأول المقارنة بينه وبين سائر شعراء الرسول -ﷺ- كحسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهما وهذه مقارنة غير منصفة لكعب، فهؤلاء من أصحاب السبق والصحبة أسلموا مبكرًا واقتربوا من رسول الله -ﷺ- وصاحبوه طويلا وشهدوا مواقع الإسلام الكبرى وعاصروا نزول القرآن وأنشدوا الكثير من الأشعار التي تؤرخ لعصر النبوة، كانت العقيدة روحها، أما كعب فقد تأخر إسلامه إلى ما بعد الفتح، فلم ينل مثل ما نالوه من الشرف والرفعة، ولم يُتح له أن يسهم مثلما أسهموا بشعرهم في الدفاع عن الإسلام وبيان مبادئه.
أما السبب الثاني لهذه الشبهة فهو أن هؤلاء النقاد يحكمون على كعب فقط من خلال لاميته “بانت سعاد” بينما الرجل له أشعار أخرى تؤكد عاطفته الدينية؛ فهو القائل:
فأقسمت بالرحمن لا شيء غيره
يمين امرئٍ برٍ ولا أتحللُ
لأستشعرن أعلى دريسي مسلمًا
لوجه الذي يحيي الأنام ويقتل
ويقول: أعلم أني متى ما يأتني قدري
فليس يحبسه شحٌ ولا شفقُ
وقوله: لعمرك – لولا رحمة الله- إنني
لأمطو بجدٍ ما يريد ليرفعا
كما أن البردة نفسها لا تخلو من تعبيراتٍ ومضامين إسلامية في مواطن عدة على رأسها تكرار وصفه ومناداته للنبي -ﷺ- وكان مقام الاعتذار والاسترحام يقتضي -ما لم يكن مؤمنًا صادقًا- أن يقول يا سيد العرب أو يا سيد قريش .. ثم انظر إلى حديثه عن القدر في قوله:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يومًا على آلة حدباء محمول
وقوله: “فكل ما قدر الرحمن مفعول”
وحديثه عن جهاد الصحابة في عدة مواطن منها:
إن الرسول لسيف يُستضاء به
مُهند من سيوف الله مسلول
وتعرجه على ذكر الهجرة النبوية المباركة بقوله:
في عصبةٍ من قريشٍ قال قائلهم
ببطن مكة لما أسلموا زولوا
هذه فقط بعض الأدلة على بطلان الشبهة التي تقدح في حسن إسلام كعب بن زهيرٍ رضي الله عنه.
إقرأ أيضا :5>
أعظم آية في كتاب الله (آية الكرسي)