د. جمال الدين عطية
لكل عالم أو مفكر مراحل فكرية وعلمية تمثل قمة نضجه وعطائه، وتمثل مرحلة من هذه المراحل قمة المنحنى في النشاط العلمي والفكري والحركي؛ حيث يكون المنحنى قبلها منخفضا، وبعدها منخفضا أو يكاد يكون منعدما، أما أن تكون حياة العالم أو المفكر في تجدد وتجديد دائم ومستمر، وتنتقل من مرحلة جهادية فكرية إلى مشروعات إصلاحية فكرية وتجديدية شرعية فهذا ما لا نجده إلا عند القليل من مفكرينا وعلمائنا.
ويعد الأستاذ الدكتور جمال الدين عطية من هذا القليل الذي ينتقل من نجاح إلى نجاح، ومن مشروع تجديدي إلى مشروع مثله، ومن موسوعة شرعية إلى أخرى، ومن كتابات تجديدية في مجالات الإسلام المتنوعة إلى مشروعات عملية واقعية تنهض بالأمة وتجدد دنياها بدينها.
المولد والنشأة والتعليم
ولد جمال الدين عطية محمد في قرية “كوم النور” إحدى قرى مركز “ميت غمر” التابع لمحافظة الدقهلية بجمهورية مصر العربية في 22-11-1346هـ الموافق 12-5-1928م لأسرة من الطبقة المتوسطة في ذلك الوقت ولأبوين كريمين، وإذا كان هذا هو تاريخ الميلاد المدون رسميا فإن الدكتور جمال عطية يرجع يوم ميلاده حقيقة إلى ما قبل هذا التاريخ بأربعين يوما؛ حيث كان لقيد الميلاد وقتها ظروف خاصة، ثم انتقل إلى القاهرة بعد الولادة بأسبوعين.
تعلم الدكتور جمال عطية حتى درس القانون في كلية الحقوق بجامعة “فؤاد الأول” (القاهرة حاليا)، وتخرج فيها عام 1367هـ/ 1948م، وحاول أن يتخصص تخصصا شرعيا فحصل على دبلوم الشريعة من كلية الحقوق عام 1369هـ/ 1950م، ثم سافر إلى الكويت بعد تخرجه، ثم إلى سويسرا ليحصل على الدكتوراة من جامعة جنيف عام 1379هـ/ 1960م، ثم عاد إلى الكويت ليعمل بالمحاماة، إلى أن جاء عصر الانفتاح، وبدأ يفكر في مشروعات تحتاج إلى ذلك الانفتاح، فساهم مع آخرين في إنشاء بعض الشركات، وعادوا إلى القاهرة ثم إلى لوكسمبورج، وبدأ نشاطه في مجال البنوك؛ حيث قضى هناك إحدى عشرة سنة.
ثم عاد إلى القاهرة، وبدأ الإشراف على المعهد العالمي للفكر الإسلامي لمدة 4 سنوات منذ 1408- 1412هـ/1988-1992م، وكان يقوم في المعهد بأنشطة ثقافية وعلمية مختلفة، وألَّف كتابًا عن حركة المعهد لا يزال -حتى كتابة هذه السطور- تحت الطبع، ثم التحق بهيئة التدريس في كلية الشريعة والقانون والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، وكان رئيس قسم القانون فيها؛ حيث أنشؤوا تخصص القانون في حضن كلية الشريعة، وظل بجامعة قطر حتى عام 1419هـ/ 1998م، يقول عن هذه الفترة: “لما عملت في قطر شعرت أنني وجدت نفسي، وأنها هي الحياة التي يجب أن أبدأ بها، وكانت علاقتي طيبة بالزملاء والطلاب الذين لم تحدث بيني وبينهم أي مشكلة في هذه الجامعة”.
تأثر الدكتور جمال عطية في أثناء دراسته في الحقوق بالشيخ عبد الوهاب خلاف، والشيخ محمد أبي زهرة، وبعض القانونيين مثل حامد زكي وسامي جنينة.
وفي خطٍّ موازٍ لهذا في الساحة الإسلامية كانت هناك اتصالات مع الشيخ محب الدين الخطيب، وعلي الطنطاوي، ومحمد أبو ريدة، وعباس العقاد، وغيرهم.
مع الإخوان
انضم الدكتور جمال الدين عطية لجماعة الإخوان المسلمين مبكرًا حيث كان يقيم بالسكاكيني أحد أحياء القاهرة، ويحكي عن هذه الفترة: “وكانت أقرب شعبة لنا هي شعبة الظاهر، حيث كنت أصلي الجمعة هناك وأحضر الدرس بعدها الذي كان يلقيه الشيخ جبر التميمي عام 1364هـ/1945م”.
اعتقل الدكتور جمال عطية ضمن اعتقالات الإخوان الأولى لمدة سنتين ونصف بين عامي 1368 – 1371هـ/1949-1952م في سجن مصر بالقلعة الذي تم هدمه فيما بعد.
عاش حياته متنقلا من نجاح إلى نجاح ومن مشروع إلى أخر
وعمن تأثر بهم داخل الإخوان يقول: “تأثرت بالشيخ حسن البنا بالدرجة الأولى؛ حيث كانت له تأثيراته وروحانياته وإشعاعاته فيمن حوله، وكنت دائما أحضر له درس الثلاثاء، ثم بالأستاذ محمد فريد عبد الخالق؛ حيث كان لنا معه درس خاص يوم الخميس، ثم بالدكتور عبد العزيز كامل”.
كما تأثر الدكتور جمال عطية بزملاء وأقران من نفس جيله منهم: الشيخ عبد البديع صقر، وسعيد رمضان، ومصطفى مؤمن، وعبد الحليم أبو شقة، وعز الدين إبراهيم، ويوسف عبد المعطي، يقول الدكتور عن هذه الفترة: “إنها فترة غنية بالتأثيرات؛ حيث تشكلت فيها نفسي وعقليتي”.
وكان هو والشيخ أبو شقة يخططان معا للاهتمام بالجانب العلمي على المستوى الشخصي وعلى مستوى الجماعة كذلك، وكان يسميه بـ”المشروع”، وبلغ اهتمامه بهذا المشروع أن رفض تسلم عمله بالضرائب حتى لا ينشغل عنه
.
مؤلفات علمية وبحوث محكمة
للدكتور جمال عطية عدة مؤلفات وبحوث مهمة تنبئ عن روح علمية تجديدية، ونظرة شاملة عميقة، وتناول فكري رصين، من أبرزها: تراث الفقه الإسلامي ومنهج الإفادة منه على الصعيدين الإسلامي والعالمي، والتنظير الفقهي، والنظرية العامة للشريعة الإسلامية، ونحو تفعيل مقاصد الشريعة، وعلم أصول الفقه والعلوم الاجتماعية، والاستفادة من مناهج العلوم الشرعية في العلوم الإنسانية، والأولويات الشرعية- نظامها وتطبيقاتها، والعلاقة بين الشريعة والقانون، ونحو فلسفة إسلامية للعلوم، وسنن الله في الآفاق والأنفس.
وهناك بعض الكتب التي كانت مذكرات لطلاب الجامعة الليبية مثل: القيم الحضارية في الإسلام، ودور الموسوعات في تقريب التراث الإسلامي من الدارسين، والإطار العام للنظام الاجتماعي في الإسلام، ومفهوم العبادة في الإسلام وارتباطها بالعقيدة والأخلاق، وصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان.
ومن مؤلفاته وأبحاثه: الدفاع الشرعي في القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، ومجموعات الضغط الدولية- ترجمة من الفرنسية لكتاب مينو، ونحو منظور إسلامي معاصر للعلاقات الدولية، وعلى هامش الدولة المسلمة والشريعة الإسلامية والقانون، وأسس الحكم في الإسلام، والنظرية العامة لحقوق الإنسان في الإسلام، والصعوبات التي تواجه البنوك الإسلامية، ومظاهر التعاون بين البنوك الإسلامية في أوربا والبنوك الغربية، والأعمال المصرفية في إطار إسلامي، وتطوير الأدوات المصرفية والاستثمارية الإسلامية، والأوراق التجارية المنشأة، وأساليب التمويل الصناعي المتاحة للبنوك الإسلامية، وحاجة البنوك الإسلامية إلى أساليب إضافية للتمويل الصناعي، والمشاكل القانونية في عقود البنوك الإسلامية، والاقتصاد الإسلامي بين النظرية والتطبيق، والبنوك الإسلامية– سلسلة كتاب الأمة، والجوانب القانونية لتطبيق عقد المرابحة، ومقاصد علم الاقتصاد الإسلامي.
وله بعض المؤلفات والبحوث التصنيفية التي تصنف العلوم وتساعد على استيعابها وتعمل على سهولة البحث فيها مثل: تصنيف العلوم الإسلامية، ودليل الباحث في الشريعة الإسلامية باللغات الأجنبية، ومصطلحات أصول الفقه، ودليل لتكشيف القرآن الكريم وعمل مكانز لأغراض التكشيف (بالاشتراك)، ونحو مكنز إسلامي للمرأة، وأصول العلوم الإنسانية من القرآن الكريم: كشاف موضوعي بالاشتراك، بالإضافة لمجموعة كبيرة من الأبحاث الحيوية والنافعة في مجلة المسلم المعاصر وغيرها من الدوريات والمجلات المحكمة.
وبالنظر في عناوين الكتب والأبحاث نجدها غطت مجالات علمية متنوعة منها: الفكر الإسلامي، والشريعة الإسلامية، والقانون الدولي العام، والسياسة الدولية، والقانون الدستوري، والأعمال المصرفية، والبنوك الإسلامية، والتأمين، وعلم المكتبات والمعلومات.
وعلى عكس المجالات حينما تتوزع كاتبا أو عالما ومفكرا فيحدث له نوع من التسطيح أو التكرار نجد الأمر مختلفا عند د. جمال؛ حيث لا يكرر نفسه في بحث من الأبحاث أو كتاب من الكتب، إنما يتحدث عن قضايا مهمة، ومسائل حيوية بشكل معمق ومركز، تتصل اتصالا وثيقا بعملية الإصلاح العلمي والمنهجي والفكري والقانوني.
مناصب قيادية وأعمال علمية
عمل الدكتور جمال الدين عطية في مجالات عديدة منها: ممارسته للمحاماة في مصر والكويت، وتوليه أمينا عاما للموسوعة الفقهية بوزارة الأوقاف بالكويت، ورئيس تحرير مجلة المسلم المعاصر، ورئيس تنفيذي للمصرف الإسلامي الدولي في لوكسمبورج (بيت التمويل الإسلامي العالمي حاليًا)، ومستشار قانوني وشرعي للمعاملات المالية والمصرفية (مكتب خاص في لوكسمبورج)، ومستشار أكاديمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي (واشنطن) ومدير مكتبه بالقاهرة.
وعمل الدكتور عطية أستاذا زائرًا بالجامعة الليبية سنة 1393هـ/1973م، وزائرًا بكلية الشريعة جامعة قطر في الفترة من 1406–1408هـ/1986-1988، ثم عمل مستقرا فيها من عام1408-1413/1988-1993بالإضافة لعضويته في جمعيات ونقابات ومراكز عالمية مثل: الجمعيات العلمية والمهنية، ونقابة المحامين القاهرة، والجمعية الدولية للقانونيين الديمقراطيين بروكسل، ونقابة المحامين الدولية لندن، والجمعية الدولية للمحامين الشبان ببروكسل، ومركز السلام العالمي من خلال القانون بواشنطن، وعضوية مجلس أمناء معهد تاريخ العلوم العربية الإسلامية بفرانكفورت، وعضوية مجلس إدارة المجلس العالمي للبحوث الإسلامية بفادوتس- لختنشتاين، وعضوية المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
ولقد أكسبت هذه المجالات والمؤسسات مفكرنا بعدًا مهمًّا وهو إدراك الواقع بما أضفى على كتاباته فيها نوعًا من الجدية والعملية والعمق، متجاوزًا التنظير المجرد إلى تقديم حلول لمشكلات حية موجودة في هذا الواقع الذي عايشه وعاناه.
المشروع الفكري
أما المشروع الفكري للدكتور جمال الدين عطية فيتشكل -من خلال النظر في إنتاجه العلمي كتبا وأبحاثا، ومن خلال التأمل في نشاطه الثقافي والفكري والحركي- في ستة محاور تخللت حياته بمراحلها المختلفة؛ حيث كانت نقطة الانطلاق فيها الاهتمام بالجانب العلمي (التربية عموما، والجانب الفكري على وجه الخصوص)، ومن هنا أتت العلاقة بالتخصص العلمي الذي اهتم بالتربية ابتداء من الفرد ومرورا بالأسرة والمجتمع، وانتهاء بالجماعة والأمة.
المحور الأول: مجلة المسلم المعاصر
وكان تتويج هذا الاهتمام -التربوي والفكري- في مرحلة من المراحل بـ”مجلة المسلم المعاصر” التي ينصب اهتمامها الأول على قضايا الاجتهاد المعاصر وإسلامية المعرفة؛ إذ كتب مؤسسها د. جمال الدين عطية في كلمة التحرير لأول عدد صدر منها واصفًا المجلة بأنها: “مجلة الاجتهاد”، وأنها: “تنطلق من ضرورة الاجتهاد، وتتخذه طريقًا فكريًّا، ولا تكتفي بالبحث في ضرورة فتح باب الاجتهاد في فروع الفقه، بل تتعداه إلى بحوث الاجتهاد في أصول الفقه“، وقد أصبحت المجلة مقبولة كمجلة محكمة من عدد من الجامعات في مصر والسودان والسعودية وغيرها.
ولهذه المجلة قصة يحسن بي أن أرويها على لسان الدكتور جمال عطية ـ كما حكاها لي ـ قبل أن نبدأ في محاور مشروعه الفكري.
يقول: “قبل أن أغادر مصر عام 1373هـ/1954م كنت ألتقي يوميا مع نفس المجموعة، ونسهر حتى الفجر نتجاذب أطراف الحديث حول مشكلات الأمة وقضايا الفكر وأعمال الإخوان، ولما وقعت الفتنة في مصر نجونا منها وتفرقنا في البلاد، فكان البديل الطبيعي أن يكون هناك لقاء روحي ثقافي، فجاءت فكرة المجلة، كما كانت فكرتها تلبية لحاجة فكرية عند مجموعتنا، ولكن حصلنا على الرخصة بعد زمن طويل، وحصلنا عليها من لبنان بعد حصولي على الجنسية اللبنانية؛ حيث إن اللبنانيين كانوا يهاجرون خارج لبنان إلى أمريكا وغيرها ثم يعودون بعد زمن لاسترداد جنسيتهم، فاستخرجت الجنسية اللبنانية في هذه الظروف؛ حيث كنا في فترة الضغط الناصرية في مصر، حتى وصل الأمر إلى سحب الجنسية عن سعيد رمضان، وكذلك الشهادات، فجاءت محاولة الحصول على الجنسية اللبنانية من هنا ثم أخذنا الموافقة على الرخصة عام 1394هـ/1974م، وعملت رئيسا لتحريرها حتى الآن”.
المحور الثاني: تجديد الفقه:
يعد الدكتور جمال عطية من أبرز الدعاة لتجديد الفقه الإسلامي، ويمثل كتابه: “تجديد الفقه الإسلامي” بالاشتراك مع الدكتور وهبة الزحيلي -من مطبوعات دار الفكر- أقصى ما وصل إليه فكره في هذا المجال، حيث يقسم فيه التجديد الفقهي القائم على منهج معين إلى نوعين:
الأول: هو التجديد الذي يأتي من خارج النسق الإسلامي.
والثاني: هو التجديد الذي يأتي من داخل النسق الإسلامي.
ويعرض لكيفية تخليص الفقه مما انتهى إليه، ويضع الأسس والقواعد والبدائل المقترحة للخروج به إلى آفاق التجديد والإبداع، ويؤكد الكتاب على ضرورة وجود مشروع فقه إسلامي معاصر يراعي النواحي المتجددة في حياة المسلم المعاصر، كما يتناول العلاقة ما بين الشريعة والفقه والعقل، ويبين الثوابت والمتغيرات في الفقه، وشروط أهلية المجدد، ويعرض لبعض ما يقبل التجديد وما لا يقبله، وضوابط التجديد وطرائقه ومدى الحاجة إلى ذلك، مع الأمثلة والتطبيقات لما يقول.
ومن مجالات تجديد الفقه عند الدكتور جمال عطية مشروع الموسوعة الفقهية التي اقترح مشروعها في أثناء عمله بالمحاماة في الكويت على وزير الأوقاف الكويتي في ذلك الوقت؛ فوافق واستدعى الشيخ مصطفى الزرقا الذي استدعى بدوره الدكتور جمال ليكون أمينا عاما للموسوعة، وذلك في أوائل السبعينيات، وكانت له بصماته في هذا المشروع، لكن سرعان ما محاها الزمن عندما تركها حيث لم يستطع التكيف في العمل بها.
وفي التنظير لها وبيان أهميتها كتب بحثين: الأول بعنوان: مدى الحاجة إلى موسوعة الفقه الإسلامي، والثاني بعنوان: التخطيط التفصيلي لبعض موضوعات الموسوعة، وكلاهما في دار البحوث العلمية بالكويت.
المحور الثالث: تجديد أصول الفقه:
وفي أحد أعداد مجلة المسلم المعاصر مقال رئيس له عن هذه القضية، بعنوان: “تجديد الفكر الاجتهادي”، يستعرض المقال حكم وكيفية توسيع مجال الاجتهاد عن المفهوم التقليدي الفقهي. ويعرض مدى الحاجة إلى تجديد المنهج وبلورة السلطة التشريعية. ويناقش موقف المجتهد من النصوص في العصر الحاضر، مشيرًا إلى مشكلة تكوين المجتهدين والشروط الفقهية والأصولية المتعددة للمجتهد؛ مع التركيز على ضرورة التعرف على الواقع، ويورد المقال بعض مسائل التجديد في أصول الفقه، مثل: العلة والحكمة، كما يبين كيفية تطوير مباحث مقاصد الشريعة والاستنباط من القواعد والاستدلال بالمقاصد، ويختم المقال بتوضيح علاقة أصول الفقه بالعلوم الأخرى وطرق تجديد تبويب مادة أصول الفقه.
كما أن هناك عددين بمجلة المسلم المعاصر (الافتتاحي والذي يليه) خُصِّصا لطرح هذه القضية، وكان التركيز على أن التجديد وارد على علم الأصول، لا سيما في التحقيق والتدقيق وتمحيص المسائل وإعادة الهيكلة، وكان لهذين العددين صدًى واسع في الأوساط العلمية والفكرية.
المحور الرابع: القواعد الفقهية:
حيث بدأ الاهتمام به من منطلق التنظير الفقهي، ويمثله كتابه: “التنظير الفقهي” الذي يعد انطلاقة طيبة في هذا المجال، قسمه إلى مقدمة وثلاثة أبواب وخاتمة؛ ففي المقدمة تناول التعريف والتقسيمات والأنواع، والباب الأول تحدث عن النظريات الفقهية في علم أصول الفقه، مستعرضا مناهج التأليف فيه ومضمون وترتيب هذه المؤلفات، وفي الباب الثاني تكلم عن النظريات الفقهية في علوم التراث الأخرى مثل المقاصد والقواعد بأنواعها، وفي الباب الثالث تحدث عن النظريات الفقهية في الكتابات المعاصرة، وشرح في الخاتمة وظائف هذه العلوم وقدم نظرة مستقبلية لها.
وقد كان هذا الكتاب سببا لاستدعائه لمشروع “معلمة القواعد الفقهية” التابع لمجمع الفقه الإسلامي في جدة المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي؛ حيث تبنى هذا المشروع الدكتور عز الدين إبراهيم خريج قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة.
وهذا المشروع عبارة عن مسح شامل لما جاء في كتب التراث الإسلامي والمؤلفات المعاصرة بشأن القواعد، وتنقسم المعلمة أربعة أقسام: القواعد الأصولية، والقواعد المقاصدية، والقواعد الفقهية، والضوابط الفقهية.
وحسبنا ما قاله أستاذنا الدكتور أحمد الريسوني عن هذا المشروع في أحد الاجتماعات الثقافية حوله: “إنني أعتبر هذا المشروع أهم مشروع في تاريخ الإسلام بعد تدوين السنة النبوية“، وقد سألت الريسوني عن هذه العبارة فقال: “نعم.. فإذا كان تدوين السنة يمثل جانب الرواية للإسلام؛ فإن تدوين قواعد وضوابط الفقه بتطبيقاتها يمثل جانب الدراية”.
المحور الخامس: مقاصد الشريعة:
وهو مجال ضرب فيه الدكتور جمال عطية بسهم طيب، وكان ذروة إنتاجه في هذا المجال كتابه: “نحو تفعيل مقاصد الشريعة” الذي يعد – في تقديري- نقلة نوعية في هذا المجال.
تضمن الكتاب فصولا ثلاثة، تحدث في الأول منها عن قضايا محورية حول دور العقل والفطرة والتجربة في تحديد المقاصد وإثباتها، وعلى ترتيب المقاصد وترتيب الوسائل في كل مقصد وتطبيق ذلك.
وفي الثاني: تحدث عن تصور جديد للمقاصد مناقشا مسألة حصر المقاصد الضرورية في خمسة، وتحدث عن أنواع المقاصد ومراتبها، وعن الانتقال منها إلى مجالات أربعة هي: الفرد والأسرة والأمة والإنسانية.
وفي الثالث: يتحدث بالتفصيل عن كيفية التفعيل مبينا الصورة الحالية لاستخدامات المقاصد، ويتحدث عن علاقة النظريات بالعلوم الشرعية، ثم العقلية المقاصدية للفرد والجماعة، ثم العقلية المقاصدية “المجال الفكري”، ثم العقلية المقاصدية لدى الجماعة “مجال السياسة الشرعية”، وختم بحديث عن مستقبل علم المقاصد هل سيصبح علما مستقلا أم يكون ضمن مباحث أصول الفقه.
المحور السادس: البنوك الإسلامية:
وقد نشأ الاهتمام به عند مفكرنا في فترة مبكرة قبل نشأة هذه البنوك؛ حيث شارك في اللجنة التحضيرية لأول بنك إسلامي عام 1394هـ/1974م، وهو بيت التمويل الكويتي، وبدأ يخوض هذا المجال عمليا فسافر إلى لوكسمبورج لإنشاء مؤسسة على هذا النحو، ثم حصل -مع آخرين- على رخصة في الدنمارك لإنشاء أول بنك إسلامي هناك، وكتب في هذا عن البنوك الإسلامية في سلسلة “كتاب الأمة” بالإضافة لعدد من المقالات التي نشرت في مجلة “المسلم المعاصر”، وبعض المجلات المتخصصة في المملكة العربية السعودية.
بين في هذه البحوث أهم الصعوبات التي تواجه البنوك الإسلامية التي تعمل في محيط البنوك الأخرى، مثل: الصعوبات القانونية، والصعوبات الفقهية والصعوبات المصرفية، والصعوبات المعنوية النفسية والخلقية، والصعوبات الإدارية، والصعوبات الأساسية، وحاول أن يضع ما يتصور أنه حلٌّ لها.
وأكد على أهمية استكمال البنوك الإسلامية لأنظمتها وتطويرها، وكذلك ضرورة تعاون البنوك الإسلامية بدافع من إخلاص النية لله ومن الوعي بالأهداف والمصالح والمخاطر المشتركة، مبينا أهم مظاهر ذلك التعاون لا سيما بين البنوك الإسلامية في أوربا والبنوك الغربية.
إضافة إلى ما تحدث عنه من حماية الفكرة التي قامت البنوك الإسلامية لتحقيقها، وضبط إطار المعاملات الحالية، واستحداث أدوات بديلة وأدوات رائدة، وتقديم مقترحات تهدف إلى حماية صغار المساهمين بتجميعهم وتنظيم جهودهم، وإنشاء بنوك إسلامية تأخذ صورة الشركة التعاونية، واقتراحات كذلك تهدف إلى حماية المودعين، وحماية البنوك من عملائها وتحقيق المصلحة الإسلامية العامة.
وقال: مرت فترة طويلة على نشأة البنوك الإسلامية، ومع ذلك لا نجد في كتب الاقتصاد بابا يتحدث عن البنوك الإسلامية، ولا في كتب الفقه أبوابا تُعنى بهذا النوع من النشاط، ومع هذا فإن معالجة هذا الموضوع تعد نوعا من الاجتهاد المعاصر.
وبعد هذا النشاط الفكري والحركي الواسع للدكتور جمال الدين عطية الذي يعمل مديرًا لمشروع “معلمة القواعد الفقهية” ومسئولا عنه، يقول عن نفسه: “ما زلت أكتشف نفسي، حتى قلت لعز الدين إبراهيم عندما عَيَّنتُ الخبراء في المعلمة: إنني بدأت تدب فيَّ حياةٌ جديدة في هذا المشروع؛ فكان اجتماعٌ عام بالعاملين فيها، واجتماع خاص للخبراء فقط، وبدأتُ أطرح رؤايَ التي كنت أفكر فيها؛ فوجدت تجاوبا كبيرا في كل جلسة، وبدأت أسجل الجلسات والمناقشات في محاضر، فشعرت بأن هناك طاقاتٍ جديدةً تتفجّرُ في نفسي، والمرء لا يزال يكتشف نفسه حتى يموت”.
*
نقلا عن موقع “الوسطية أون لاين” بتاريخ 22-1-2008.