تعد قرطاجنة من أقدم ثغور إسبانيا الشرقية، أنشأها “هزدرويال” القائد القرطاجني المعروف سنه (243 ق.م)، وتمتاز بمناعة موقعها البري والبحري، وهي تقع جنوب مرسية على شاطئ البحر المتوسط، وظلت تتمتع بأهمية تجارية وبحرية في ظل الوجود الإسلامي بإسبانيا، وكانت مركزًا من مراكز الجهاد والغزو، تخرج منها الحملات الحربية، وبقيت تحت حكم المسلمين حتى سقطت نهائيًا في أيدي “خايمي الأول” ملك أراجون سنة (675هـ = 1276م) ولأن أكثر من مدينة سميت بقرطاجنة، فقد حرص العلماء على تسمية هذه المدينة بقرطاجنة الأندلس؛ تمييزًا عن أختها التي توجد بتونس.في هذه المدينة الأندلسية ولد “حازم القرطاجني”.
المولد والنشأة
ولد “حازم القرطاجني” سنة (608هـ = 1211م)، ونشأ في أسرة ذات علم ودين، فأبوه كان فقيهًا عالمًا، تولى قضاء قرطاجنة أكثر من أربعين عاما، وقد عني بولده فوجهه إلى طلب العلم مبكرًا، فبعد أن حفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، تردد على حلقات العلماء في بلده، ومرسية وغرناطة، وإشبيلية، وغيرها من المدن التي نجت من غزو النصارى، وتتلمذ على عدد كبير من العلماء، ولزم “أبا علي الشلوبين” شيخ علماء العربية في عصره، وكانت فيه نزعة إلى الفلسفة، فأوصاه بقراءة كتب ابن رشد بعد أن توسم فيه النبوغ والذكاء.
الهجرة إلى المغرب
وبعد أن سقطت قرطاجنة ومرسية في أيدي القشتاليين للمرة الأولى في سنة (640هـ= 1243م) غادر عدد كبير من العلماء والأدباء الأندلس، ووجهوا شطرهم إما إلى بلاد المشرق الإسلامي أو إلى بلاد المغرب، وكان حازم القرطاجني ممن استقر به المقام في “مراكش”، والتحق بحاشية الخليفة الموحدي أبي محمد عبد الواحد الملقب بالرشيد، وكان بلاطه عامرًا بالأدباء والشعراء، ثم ما لبث أن ترك مراكش إلى تونس، واتصل بسلطانها “أبي زكريا الحفصي”، فعرف له فضله وعلمه، فقربه منه، وعينه كاتبًا في ديوانه.
وكان أبو زكريا الحفصي محبًا للعلم مقدرًا العلماء، يدعوهم إلى دولته للإقامة بها ويحيطهم برعايته؛ فقدم إليه كثير من العلماء والشعراء الأندلسيين من أمثال ابن الأبار، وابن سيد الناس، وابن عصفور النحوي المعروف، وابن الرومية عالم النبات، وابن سعيد الأندلسي وغيرهم.
وبلغ من حب أبي زكريا الحفصي للأدباء والشعراء أن جعل لهم بيتًا يقيمون به، ويجدون فيه كل وسائل الراحة، ولما توفِّي أبو زكريا الحفصي خلفه ابنه “أبو عبد الله محمد المستنصر”، وكان على شاكلة أبيه في احترام العلماء والأدباء وتقديرهم، ولهذا وجد حازم القرطاجني في ظل حكمه كل عناية وتقدير، وكان المستنصر يثق به وبذوقه الأدبي، فكان يدفع إليه ببعض المؤلفات ليرى فيها رأيه ويقرر مستواها العلمي.
حازم القرطاجني شاعرًا
كان حازم القرطاجني شاعرًا مجيدًا، ووصف بأنه خاتمة شعراء الأندلس، مع تقدمه في معرفة لسان العرب، وتعددت أغراض شعره فشملت المديح والغزل والوصف، والزهد والحنين إلى الأوطان وبكاء الديار والدعوة إلى تخليصها، واحتل المديح مكانًا كبيرًا في ديوانه، وقد خص أبا زكريا الحفصي وابنه المستنصر بمدائح كثيرة.
وأهم قصائده مقصورته التي مدح بها المستنصر، والمقصورة هي قصيدة طويلة تأتي على روي الألف المقصورة، وقد بلغت مقصورة حازم القرطاجني ألف بيت وستة، وقدّم لها بمقدمة نثرية أثنى فيها على الخليفة المستنصر، ثم حدد ما اشتملت عليه مقصورته من أغراض وفنون، مثل: المديح والغزل والحكمة والمثل، والوصف، وقد استهلها بالغزل منشدًا:
لله ما قد هجت يا يوم النَّوى *** على فؤادي من تباريح الجوى
ويطيل في الغزل فيستغرق منه خمسين بيتًا، ناسجًا أكثر المعاني التي ألمّ بها شعراء الغزل، ثم ينتقل إلى مديح المستنصر في مائة وعشرين بيتًا، ويظل متنقلاً من غرض إلى آخر، حتى يصل إلى الحنين إلى الأوطان، فيذكر مأساة الأندلس التي انفرط عقدها، وسقطت مدنها في أيدي النصارى مدينة بعد أخرى، ويستصرخ الناس لنجدة الأندلس واستعادتها فيقول:
ولو سما خليفة الله لها
لافتلّها بالسيف منهم وافتدى
ففي ضمان سعده من فتحها
دين على طرف العوالي يقتضى
فقد أشادت ألسن الحال به
حي على استفتاحها حي على
وتعد مقصورة حازم إلى جانب قيمتها الفنية، وثيقة مهمة تتضمن كثيرًا من الحقائق التاريخية عن الدولة الحفصية، وتشمل على تفصيلات تاريخية وجغرافية تتصل بالواقع الذي عاصره الشاعر في المغرب والأندلس، وقد كافأه الخليفة الحفصي المستنصر بألف دينار من الذهب.
وقد حظيت المقصورة بتقدير الأدباء والنقاد، ونالت شهرة واسعة في حياة صاحبها وبعد وفاته، وقام بشرحها عدد من العلماء، ومن أشهر تلك الشروح: “رفع الحجب المستورة عن محاسن المقصورة”، وقد طبع هذا الشرح في سنة (1344 = 1925م) بالقاهرة.
منهاج البلغاء وسراج الأدباء
وهو كتاب في النقد والبلاغة تناول فيه حازم القول وأجزاءه، والأداء وطرقه، وأثر الكلام في السامعين، وقد وصل إلينا من الكتاب ثلاثة أقسام، تتناول صناعة الشعر، وطريقة نظمه، وتعمق في بحث المعاني والمباني والأسلوب، وكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة موزع على أربعة أبواب يسمى كل منهما باسم “منهج”، وكل باب أو منهج يتألف من فصول يطلق حازم عليها اسم “مَعْلم” أو “مَعْرف”، وكل فصل تتناثر فيه كلمتا إضاءة وتنوير، ويقصد بالإضاءة بسطًا لفكرة فرعية، والتنوير بسطًا لفكرة جزئية.
وقد مزج حازم في كتابه بين قواعد النقد الأدبي والبلاغة عند العرب، وقواعدهما عند اليونان، فقد عقد فصلاً طويلاً عن نظرية أرسطو في الشعر والبلاغة، معتمدًا على تلخيص ابن سينا لكتاب أرسطو في الشعر، الذي ضمنه الفن التاسع من كتابه “الشفاء”، وهذه هي المرة الأولى التي يعرض فيها أحد علماء البلاغة من غير الفلاسفة لنظريات أرسطو في البلاغة والشعر، والإفادة منها في فهم وبصيرة.
وقد نشر الكتاب محمد الحبيب بن الخوجة وحققه تحقيقًا علميًا، وقدم له بمدخل علمي تناول فيه حياة حازم، وتناول كتابه بالتحليل، وأبان عن قيمته بين كتب البلاغة العربية.
ولحازم القرطاجني كتب أخرى فُقد معظمها، مثل: “التجنيس” و”القوافي”، ومنظومة نحوية تعليمية.
ونشر عثمان الكعاك ديوانه في بيروت سنة (1384هـ= 1964م)، ثم استدرك محمد الحبيب بن الخوجة على الديوان، فنشر عدة قصائد أخرى لم ترد في ديوان حازم بعنوان قصائد ومقطعات سنة (1392هـ = 1972م).
وفاته
ظل حازم القرطاجني في تونس ولم يغادرها، محاطًا بكل عناية وتقدير من حكام الدولة الحفصية، موزعًا وقته بين العمل في الديوان وعقد حلقات العلم لتلاميذه، حتى تُوفِّي في ليلة السبت (24 من رمضان 684هـ = 23 من نوفمبر 1285م).
أحمد تمام
ابن الأبار: التكملة لكتاب الصلة– مكتبة الخانجي– القاهرة– 1963م.
المقري (أحمد بن محمد): نفح الطيب– تحقيق إحسان عباس– دار صادر– بيروت– (1388هـ = 1968م).
كيلاني حسن سند: حازم القرطاجني حياته وشعره– الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة – 1986.
شوقي ضيف: تاريخ الأدب العربي– عصر الدولة والإمارات (الأندلس)– دار المعارف– القاهرة – 1994