أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تهتم بصيام يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى -وزاد مسلم في روايته- شكرا لله تعالى فنحن نصومه”، وللبخاري في رواية أبي بشر: “ونحن نصومه تعظيما له” قال: “فأنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه” وفي رواية لمسلم: “هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرّق فرعون وقومه”.

إن ما ورد في هذا الحديث الصحيح يشير إلى سبب مشروعية صيام يوم عاشوراء، وهو شكر الله تعالى بأن أهلك الطاغية فرعون ونجى موسى ومن آمن معه من بني إسرائيل، فكان ذلك اليوم جديرا بالتعظيم والتخليد، وأن تكون وسيلة تعظيمه الصيام والشكر لله تعالى.

في هذه القصة وغيرها من قصص مصارع الظالمين الواردة في القرآن الكريم دلالة واضحة على أن الإسلام لا يريد أن يكون هلاك الطغاة حدثا عاديا عابرا يمحى من الذاكرة بمرور الأيام والسنين، إنما يريده أن يكون يوما خالدا معظما يعيش في ذاكرة الأمة ولا ينسى، وهذا معنى قول الله تعالى في ختام الحديث عن مصرع فرعون، وقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وغيرهم في سورة الشعراء {إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين} (الشعراء: 8) وقد كررت هذه الآية بعد كل قصة ولم يكتف بذكرها مرة واحدة في بداية السورة أو ختامها، وقول الله تعالى في مصرع قوم لوط في سورة هود {وما هي من الظالمين ببعيد} (هود: 82)، وفي سورة الحجر {إن في ذلك لآيات للمتوسمين. وإنها لبسبيل مقيم. إن في ذلك لآية للمؤمنين} (الحجر: 75، 76، 77).

تخليد ذكرى

إن تخليد ذكرى مصارع وسقوط الطغاة وإن كان فيه درس وعبرة وعظة للمستكبرين في كل زمان ومكان أن الله لا يهمل وإن أمهل، وأن بروجهم المشيدة ستنهار عليهم، وتكون قبورا لهم، لكن الدرس الأعظم هو لمن استُضعفوا، وظُلموا، فيوقنوا أن الله منجز وعده لا محالة، وأن حق على الله نصرَ عباده المؤمنين، والتمكين لهم في الأرض، ويريهم في الطغاة والمستكبرين ما تقر به عيونهم، وتثلج به صدروهم.

إن النصوص الواردة في تثبيت المؤمنين، ودعوتهم للصبر والاحتساب، وعدم اليأس والقنوط من إنجاز وعد الله لهم جاءت مقرونة بأقوى أساليب التوكيد، كما قال تعالى {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} (الروم: 47) وقوله تعالى في أول سورة الذاريات: {والذاريات ذروا. فالحاملات وقرا. فالجاريات يسرا. فالمقسمات أمرا. إنما توعدون لصادق} وقوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما الذين استخلف من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا…} (النور: 55) وغيرها من الآيات ذات العلاقة.

وكأني بهذه الآيات التي أحكمت وفصلت من لدن حكيم خبير تخاطب نفوسا قد حطمها ظلم الظالمين وطغيان الطغاة، فلم يروا بارقة أمل أمامهم، ولا شعاعا من نور يمشون به يبصرون به طريقهم، زاغت أبصارهم، وبلغت إلى الحناجر قلوبهم، ولم يجدوا من الطغاة إلا علوا في الأرض وفسادا، وبوارجهم وأساطيلهم تجوب البحار والمحيطات تثير الذعر وتنشر الخوف، وقوانين تقيد وتحاكم وتقتل، وأجهزة إعلامية ضخمة تسخر لها جميع الموارد… {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين} (القصص: 4).

لقد أراد الله تعالى بأساليب التوكيد القوية في الآيات المذكورة، وبالقصص المتكرر عن مصارع الظالمين والطغاة، أن يطمئن هذه القلة المبصرة من النفوس التي عرفت طريق الحق، واستجابت لربها، وأجابت داعي الله وآمنت به وما انساقت وراء الدعاوى الزائفة التي يقوم بها الإعلام المضلل ليخوفهم ويرهبهم ويغريهم.

سر صيام يوم عاشوراء!

إن صوم المسلمين ليوم عاشوراء بما فيه من تخليد لذكرى نجاة الله لنبيه موسى عليه السلام هو يوم عيد للمسلمين يفرحون فيه بنصر الله وتحقيق سنته وإنجاز وعده، كما أن الاحتفاء به كل سنة كفيل بأن ينعش الأمل في نفس كل مسلم أن الله سبحانه وتعالى لا يتخلى عن عباده ولا يتركهم لقمة سائغة للطغاة والفراعين، إنما لا بد من يوم -قد يراه البعض بعيدا وما هو ببعيد– يفرح فيه المؤمنون بنصر الله، ويروا بأنفسهم زهوق الباطل واندحاره، وأنه ما كان في يوم من الأيام سوى زبد قد ذهب جفاء، وأن الله كما أهلك فرعون في الغابر سيهلك كل فرعون مثله، وفي كل وقت، وكما نجى الله داعيته موسى عليه السلام ومن آمن معه سينجي كل مؤمن {وكذلك ننجي المؤمنين}.

إن تخليد المسلمين ليوم عاشوراء وتعظيمه إنما هو ليبقى المسلم دائما متفائلا موقنا ذاكرا أن الله منجز لعباده المؤمنين وعده، وموهن كيد الكافرين، وأنه لن يترك الأرض إرثا ولا ضيعة للفاسدين والمستكبرين إنما هي حق لعباد الله الصالحين والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.


الدكتور عطية فياض