عبد الشهيد عين ذوذة

عبد الله كنون

 مدينة فاس هي العاصمة العلمية للمغرب؛ وقد شكلت هذه المدينة، وما زالت، قبلة لطلاب العلم منذ تأسيسها عام (92هـ)، وتأسيس أقدم الجامعات في العالم عام (245هـ) بتشييد جامع القرويين.

ولا يكتمل الحديث عن فاس دون الحديث عن عائلة “كُنون” (بالكاف المضمومة)؛ فجوّ العلم والعلماء الذي كان سائدًا فيها، جعل بيوتًا كثيرة تشتهر بالعلم في تلك المدينة، وأصبحت بعضًا من هذه العوائل قبلة لطلاب العلم وباحثيه.

ويذكر المؤرخون في هذا السياق، وعلى سبيل المثال، بكثير من الإعجاب والتقدير العالم الفاسي الكنوني المشهور بـ”ابن المدني كنون” الذي أخذ العلم عن شيوخ تصل سلالتهم إلى البخاري في الحديث، وإلى الإمام مالك في الفقه، وإلى سيبويه في النحو. وهو الجد الأكبر لعلامة المغرب “عبد الله كُنون” -رحمه الله- الذي جمع بين العلم والفقه والأدب والسياسة، فكان فقيهًا وأديبًا ومناضلاً سياسيًّا ورجل دولة.

المولد والنشأة

عبد الله كنون في شبابه

فمن سلالة “ابن المدني كنون” الزكية جاءت نبتة “عبد الله كُنون” في (شعبان سنة 1326هـ = سبتمبر سنة 1908م) بمدينة فاس.

وكان للجو الذي خلقه الاستعمار، أن كتم الأنفاس، وأغلق أبواب العلم والتعلم، وملأ الدنيا حروبًا وفسادًا، وفي هذا الجو الخانق لم تجد عائلة “ابن المدني الكنوني” أمامها من سبيل إلا الهجرة إلى بلاد الشام؛ ففي عام (1914م) انطلقت تلك الأسرة إلى مدينة طنجة (شمال المغرب) على شاطئ البحر الأبيض المتوسط؛ للسفر إلى بلاد الشام، وهي تحمل معها الطفل “عبد الله” الذي لم يكن قد تجاوز بعد الست سنوات من عمره.

لكن تسببت ظروف اندلاع الحرب العالمية الأولى في إرغام أسرة كنون على التوقف بطنجة مؤقتًا في انتظار أن تضع الحرب أوزارها، ثم سرعان ما اتخذت الأسرة من تلك المدينة مستقرًّا لها.

وباستقرار شئون العائلة في طنجة بدأ “عبد الله” يأخذ العلم عن والده العالم “عبد الصمد كنون”؛ ويتحدث هو ذاته عن هذه الفترة في مذكراته قائلاً: “… حفظت القرآن الكريم، وزاولت قراءة العلم على مشايخ عدة… وكان مجال دراستي ينحصر في علوم العربية والفقه والحديث والتفسير، وأما الأدب فقد كان تعاطيه هواية”.

كما حفظ كنون الأحاديث النبوية والمتون القديمة، وشروحات النصوص اللغوية والنحوية وحواشيها الثانوية؛ فغدا، في فترة وجيزة، عالمًا بالشريعة وأركانها، وباللغة وأسرارها، ولم يبلغ بعد عقده الثاني.

وما أن انتصف عقد العشرينيات من عمره، حتى صار “عبد الله” ذا شهرة واسعة في المغرب والمشرق، وذلك بفضل كتاباته القيمة في صحف البلاد الإسلامية، وبفضل زياراته المتتابعة لتلك البلاد.

وقد سمحت له كتاباته وزياراته تلك بالتعرف على عدد كبير من علماء المشرق وأدبائه وإعلامييه؛ ليخوض معهم نقاشات فكرية وثقافية تتناول واقع الأمة وأحوالها وسبل إخراجها من الأزمات الاجتماعية والفكرية والسياسية والاقتصادية.

كما اشتهر عبد الله كنون بالدقة في البحث العلمي، وبالصرامة في مجال رواية الوقائع التاريخية وتحليلها؛ إضافة إلى سعة معلوماته، وضبطه لفنون الأدب والتاريخ، وكان يجيد اللغتين الفرنسية والأسبانية.

حياة فكرية حافلة

علم الشيخ “كُنون” أن مقاومة الاستعمار لن تنجح إلا بتكوين جيل جديد متعلم، يعلم حقوق وطنه عليه. لذلك كان أول مشروع اشتغل عليه هو تأسيس مدرسة خاصة عام 1936، أطلق عليها اسم مدرسة “عبد الله كنون الخاصة”. وقد ساعدته في النهوض بمشروعه وضعية مدينة طنجة القانونية التي كانت خاضعة لإدارة دولية.

وشغل كنون عدة مناصب علم ية وتعليمية؛ فشغل منصب مدير المعهد الخليفي، ثم منصب أستاذ بالمعهد العالي بكلية أصول الدين بتطوان. ثم تقلد منصب وزير العدل في الحكومة الخليفية ما بين عام 1954 و1956، ثم عُيِّن محافظًا على مدينته طنجة سنة 1957. لكن وضعه كعالم كان متناقضًا تمامًا مع وضعه كمحافظ؛ لذلك ما لبث أن قدم استقالته عام 1958.

وبين هذا وذاك، ترأس كنون مجلة “لسان الدين”، وعمل مديرًا لجريدة “الميثاق”، وساهم في تحرير مجلة الإحياء. هذا إلى جانب مساهمته في تأسيس وترأس عشرات المجلات والجرائد الأخرى والتي يصعب حصرها.

إنتاج كنون العلمي والأدبي كان غزيرًا، وشمل كتابة المقالات الصحفية، وتأليف الكتب الجامعية إلى جانب إصداره لمنشورات فكرية وثقافية طيلة فترة حياته؛ وهذا ما أهله ليحظى بعضوية مجموعة كبيرة من الهيئات الإسلامية، منها: المجمع العلمي بدمشق عام 1956، ومجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 1961، ورابطة علماء المغرب، وهيئة القدس العلمية عام 1973، ومجمع اللغة الأردني عام 1978، والمجمع العلمي العراقي عام 1979.

وحقيقة يصعب حصر المهام والمناصب التي تقلدها العالم الراحل، كما يصعب حصر المؤلفات والمنشورات التي تركها والتي تنوعت ما بين الفكر والثقافة والأدب والسياسة.والخيط الرابط بين تلك المؤلفات الدفاع عن حرمة الإسلام أولاً، وإبراز الكنوز الأدبية والفكرية التي يتوفر عليها المغرب ثانيًا.

ففي مجال الدعوة الإسلامية ألّف كنون كتاب “فضيحة المبشرين في احتجاجهم على القرآن الكريم” وهو كتاب يرد على دعاة التنصير في البلاد الإسلامية. كما ألف “الرد القرآني على كتيب: هل يمكن الاعتقاد بالقرآن”، وهو كتيب ألّفه سفير الاتحاد السوفيتي سابقًا بموريتانيا. كما ألّف “إسلام رائد”، و”مفاهيم إسلامية”، و”على درب الإسلام”، و”جولات في الفكر الإسلامي.

وفي المجال الأدبيألف “شرح مقصورة المكودي”، و”شرح الشمقمقية لابن الونان”، و”ذكريات مشاهير رجال المغرب”، و”النبوغ المغربي في الأدب العربي”، و”أمراؤنا الشعراء”، و”واحة الفكر”، و”التعاشيب”، و”العصف والريحان”، و”أحاديث عن الأدب المغربي الحديث”، و”لوحات شعرية”.

أما في مجال التاريخ والنقد، فقد ألف “مدخل في تاريخ المغرب”، و”معارك”، و”الجيش المجلب على المدهش المغرب”، و”أربع خزائن لأربع علماء من القرن الثالث عشر”، و”الشيخ أحمد زروق دفين مصراته”.

وبخصوص ما حققه الراحل من كتب ومخطوطات،فنذكر منها: “المنتخب من شعر ابن زاكور”، و”مناهل في أخبار الملوك الشرفا”، و”ديوان ملك غرناطة يوسف الثالث”، و”الأربعين الطبية المستخرجة من سنن ابن ماجه وشرحها للعلامة عبد اللطيف البغدادي”، و”رسائل سعدية”، و”التيسير في صناعة التسفير لأبي بكر الأشبيلي”، و”أخبار الغار للحافظ محمد بن مخلد الدوري العراقي.

أما الكتب المنشورة بدون تحقيق والتي كانت تملأ خزانة العائلة الكنونية فنذكر منها “قوامة الإسلام للقاضي عياض”، و”تلقين الولد الصغير لعبد الحق الأشبيلي”، و”شرح الشيخ ميارة على لامية أبي المجراد”، و”رسالة نصر القبض في الصلاة للعلامة محمد المسناوي”.

هذا وقد ترك الراحل عدة كتب لم تجد بعد طريقها إلى النشر، ومنها “شخصيات مغربية” تتحدث عن 150 شخصية مغربية لمعت في شتى فنون المعرفة. إلى جانب ذلك ترك “صنوان وغير صنوان” (ديوان شعر)، و”نوادر وملح أدبية”، و”مذكرات غير شخصية”.

والسابق كله مجرد غيض من فيض، وإلا فإن ما تركه الشيخ الجليل يتجاوز المائة مؤلف بحسب بعض الباحثين.

ويبقى كتاب “النبوغ المغربي” الكتاب الأشهر في خزانة العلامة عبد الله كنون، وهو الذي جعل اسمه يحلق عاليًا في سماء العلماء ليس فقط في المغرب، وإنما في المشرق الإسلامي وأوروبا كذلك.

حكاية النبوغ المغربي

“لو لم يكتب كنون إلا النبوغ المغربي، لكفاه ذلك فخرًا ومجدًا”. هذا ما يُصِرّ على تأكيده كل المهتمين بما تركه العلامة من كتب ومؤلفات.

ويقول كنون في مقدمته: “كثر عتب الأدباء في المغرب على إخوانهم في المشرق لتجاهلهم إياهم، وإنكار كثير منهم لكثير من مزاياهم.. ولكن أعظم اللوم مردود على أولئك.. ضيعوا أنفسهم وأهملوا ماضيهم وحاضرهم حتى أوقعوا الغير في الجهل بهم والتقول عليهم”.

وهذه حقيقة، فإخواننا في المشرق يعلمون القليل عن إخوانهم في المغرب في مجالات العلم والمعرفة. وحتى مع الثورة الإعلامية الحديثة يبقى هذا المشكل قائمًا وإن كانت قد خفّت حدته بعض الشيء.والأكيد كما أوضح عالمنا أن المشكل ذاتي بالدرجة الأولى؛ إذ إن التراث والكنوز ضخمة وثمينة تنتظر فقط من ينفض غبار النسيان عنها.

وهكذا بدأت حكاية العالم الراحل مع النبوغ المغربي.. ويقول في مقدمة الكتاب: “لما بحثت ونقبت وجدت كنوزًا عظيمة من أدب لا يقصر في مادته عن أدب أي قطر من الأقطار العربية الأخرى، ووجدت شخصيات علمية وأدبية لها في مجال الإنتاج والتفكير مقام رفيع، ولكن الإهمال قد عفا على ذلك كله…، فاحتاج إلى من يبعثه”.

وشرع الشيخ كنون، في تتبع وتسجيل كل ما يصل إليه من أخبار العلم والأدب والتاريخ، عارضًا ذلك في قالب أدبي رفيع؛ ومع مرور الوقت تشكل كتاب يحوي بين دفتيه معلومات رفيعة عن الملوك والوزراء والقواد والفاتحين والعلماء والأدباء والفقهاء والمتصوفة وغيرهم من نخبة المجتمع.

وقد أصدر كتابه هذا في مدينة تطوان (شمال المغرب) وقد كانت وقتها ترزح تحت نير الاحتلال الأسباني دون أن يبلغ الثلاثين سنة من عمره! ليترجم إثر ذلك إلى اللغة الأسبانية؛ كما اعتمده العالم الألماني “كارل بروكلمان” في ملاحق كتابه عن تاريخ الأدب العربي. وأشاد به العالم الإيطالي “جيوفاني بيانكي”. إضافة إلى كون عدد من الجامعات الأوروبية اعتمدته مرجعًا لطلاب العربية فيها.

وفي عام 1939، تلقى كنون رسالة من وزارة التعليم الأسبانية تخبره فيها أنها منحته درجة الدكتوراة الفخرية في الأدب من جامعة مدريد؛ كما دعته إلى زيارة بلادها كضيف شرف على الحكومة الأسبانية.

المفارقة في رد فعل المحتل الفرنسي الذي كان مغايرًا؛ إذ سرعان ما صدر قرار عسكري يمنع تداول الكتاب، ويحذر من أن كل من ثبت أنه يحوز نسخة منه سيعاقب بشدة. والسبب في ذلك، أن الاستعمار الفرنسي حاول في كل وقت وحين أن يبرز أن المغاربة هم مجرد برابرة بلا ذاكرة وحضارة، غير أن كتاب “النبوغ المغربي” فضح كل ذلك بالحجة والمنطق والدليل.

كما كان لصدور “النبوغ المغربي” أثر طيب في المشرق العربي، ويكفينا هنا ما سجله أمير البيان شكيب أرسلان في تقييمه وعرضه للكتاب نشره في صحيفة “الوحدة المغربية” التي كانت تصدر في تطوان عام 1360 للهجرة. فقد قال الأمير: إن “المؤلف جمع في كتابه بين كل من العلم والأدب والسياسة”، وأشاد “أرسلان” في الوقت نفسه ببراعة العلامة كنون وإبداعه في تصوير الحياة الفكرية في المغرب.

و”النبوغ المغربي” كتاب مزج بين الحركات الفكرية والحركات السياسية مزجًا عجيبًا حقّق الصلة الطبيعية التي لا تكاد تنفك في كل دور من أدوار الأمم بين العلم والسياسة، بحيث لا يرقى الواحد منها إلا إذا رقي الآخر برقيه.

الرحيل

مدرسة كنون

قبل خمس سنوات من وفاته، رحمه الله، أي عام 1984، وبينما كان يعالج في إحدى المصحات بالعاصمة الفرنسية ونتيجة لهاجسه وأمله في استمرارية المشوار العلمي قرّر كنون إهداء مكتبته الزاخرة بالآلاف من المراجع النادرة والقيمة إلى مدينة طنجة.

وتحققت رغبته وهو على قيد الحياة، حيث تم تأسيس لجنة عهد إليها باستلام جميع محتويات المكتبة، وتأسيس مكتبة عمومية حملت اسم صاحبها والتي لا تزال حتى كتابة هذه السطور منارًا لطلبة العلم وللباحثين عن المعرفة.

وقد تُوفِّي العلامة “عبد الله كُنون” (6 من ذي الحجة سنة 1410هـ = 9 من يوليو 1989م) في مدينة طنجة.