بينما كنت “أنبش” في أوراقي المهملة في محاولة فاشلة لفرزها وترتيبها استعدادًا لبداية عامٍ دراسيٍّ جديد وجدتُ مسودة هذا المقال، وتعجبت من عدم حرصي على تنقيحه والسعي لنشره في حينه.. ثم تذكرتُ أنني كتبته لمناسبة “اليوم العالمي للمعلم” منذ شهور طويلة.. وأن ما ثبّط همتي عن نشره أن صفحات الجرائد في هذا الوقت كانت مثقلة بالحديث عن المدرسين بشكل احتفالي روتيني صاخب، ولأني أوقن أن الآراء الهادئة الهادفة يصعب الإصغاء إليها في أجواء الضجة والصخب فقد آثرتُ تأجيل طرحي حتى ينفض السامر لعلي أجد من يُصغي إليه.

فرغم أنني مدرس (سابق) أعرف جيدًا حجم ومغزى الرسالة المنوطة بالمعلم ومدى الجهد الذي يقدمه المدرس (المخلص) والعناء الذي يكابده لتحقيق غايته .. فإنني لا أستريح كثيرًا لمثل هذه الاحتفالات لتكريم المعلم .. وكما يقول العلماء الرافضون لفكرة ما يسمى بـ”عيد الأم” الذي تحتفل به بعض بلداننا الإسلامية –تقليدًا للغرب- إذ يقولون: إن الإسلام أمرنا بتوقير وتقدير الأم في كل حين وأوجب علينا إحاطتها بكل مظاهر العناية والرعاية في كل لحظةٍ من حياتنا، وليس هناك معنى لتخصيص يومٍ سنوي للاحتفاء بالأم، خاصةً إذا كانت سلوكياتنا على مدار العام تحمل لهذه الأم العقوق والجحود والإهمال. وللأسف فإن هذا الوضع ينسحب بصورة أكبر وأوضح على المدرسين في عصرنا، فما حاجتي أنا -كمدرس- لأن يهديني تلاميذي في أحد أيام السنة -وبتوجيهات من الوزارة والإدارة- بعض البطاقات الملونة والزهور البلاستيكية.. إذا كان هؤلاء الطلاب أنفسهم يذيقونني على مدار العام الأمرَّين من السخرية والعصيان والتمرد والتحدي وغيرها من الأمور التي لا تخفى على أحد -إلا الذين يحرصون دائمًا على دفن رؤوسهم في الرمال- والتي تضع المعلمين في أسوأ دركات المهانة وتصيبُ معظمهم بمختلف الأمراض.

ويسوقني التباين الشديد بين التكريم الصاخب وبين الواقع الأليم إلى الفارق بين نظرة شاعرٍ حكيمٍ رقيق يعرف قدر المعلم ويرفعه إلى مقام القدسية وبينَ شاعرٍ معذّب قاسى مهنة بل محنة التدريس وكابد لأواءها؛ إذ يقولُ أمير الشعراء في تكريم المعلم:

قم للمعلم وفِّه التبجيلا

كاد المعلم أن يكون رسولا

أرأيت أفضل أو أجل من الذي  يبني ويُنشئ أنفسًا وعقولا فلا يسعُ الشاعر (المدرس) إبراهيم طوقان إلا أن يرد على أمير الشعراء في قصيدةٍ ساخرةٍ مؤثرةٍ تستعرض طرفًا من معاناته وكان مما جاء فيها:

شوقي يقول وما درى بمصيبتي

قم للمعلم وفه التبجيلا

ويكاد “يفلقني” الأميرُ بقوله

كاد المعلمُ أن يكون رسولا

لو جرَّب التعليمَ شوقي ساعةً

لقضى الحياة كآبةً وعويلا
يا من تريد الانتحار وجدته

إن المعلم لا يعيش طويلا

ولعلي أنطلق من تجربة “طوقان” الذي عاش حياته كلها معلمًا حتى قضت عليه المهنة، وبين تجربتي الشخصية، وقد كنت أسعد منه حظًا ففررت مبكرًا من براثن المهنة القاتلة، ورغم قصر عمري فيها فلم أحرم من مكابدة بعض ما عاناه وكم شكوت -وغيري من الزملاء المدرسين- للمسئولين من مشاغبات الطلاب التي تعكس روح التمرد المتعمد، وتحول بيننا وبين أداء الدرس في ظل غياب الوازع الأخلاقي أو الرغبة في التلقي أو وسيلة الردع أو التدخل الإداري لمساعدتي في أداء مهمتي.. والمؤسف أنني عندما سألت مسئولي المدرسة وكذلك الموجهين عن الحل وكيف أقوم بأداء عملي ورسالتي التعليمية؟ ..

وجدتُ موقفًا سلبيًا غريبًا وسمعت كلامًا غير مسئول يُفهم منه أن مهمتي الرئيسية هي أن أمضي دقائق الحصة الخمسين بسلام، وعليَّ أن أفعل أي شيء في سبيل ذلك ولو اضطررت أن أكون بهلوانًا في الفصل.. وعليَّ أن أتجاهل سفاهات الطلاب بل وأبتلع إهاناتهم في سبيل تحقيق هذا الهدف السامي (إنهاء الحصة بلا مشاكل)، أما الهدف التربوي التعليمي فليس من مسئوليتي ..

بالطبع واجبي أن أسعى إليه .. ولكن إذا كان الطلاب لا يريدون أن يتعلموا فليذهبوا إلى الجحيم!.

هذا بالطبع غيضٌ من فيض ولديَّ -ولدى كل المدرسين عشرات القصص المشابهة- عن المعاناة التي يلاقيها المدرس بسبب تواري قيم التوقير والاحترام له بين الأجيال المعاصرة من الطلاب..

وتقاعس الأجهزة الإدارية والتربوية في المجتمع عن تقديم الدعم للمدرس رغم سعيها لتكريمه بمظاهر احتفالية زائفة.

المصيبة الحقيقية ليست في هذا الواقع الأليم ولكن في وجود من يبرره ، فمن المثقفين من إذا طرحت أمامه قضية ما يتعرض له المدرسون من مهانة قال لك: إن هذا للأسف توجه عالمي وصراع أجيال، وحتى الآباء والأمهات الآن يشكون من عدم احترام أبنائهم وغياب الطاعة، وهذا عذرٌ أقبح من ذنب.. فلو سلمنا جدلاً بأن هذه المهزلة اتجاه عالمي فهذا لا يجعل الخطأ صوابًا، وليس هناك ما يلزمنا به فنحن أمةٌ لها خصوصيتها وعلينا أن نتمسك بقيم ديننا وأعراف عروبتنا ولا نستورد من الآخرين إلا الإيجابيات، ثم إذا كان الآباء فقدوا احترامهم في محيط الأسرة فهذا لا يجعلنا نسلب حق المدرس في الاحترام داخل المدرسة .. بل واجبنا السعي لإعادة الاحترام لكليهما للآباء والمدرسين وبحث مواطن الخلل التي أدت إلى غيابه.

والأغربُ من ذلك من يقول: إن غياب التوقير للمدرس ليست ظاهرةً طارئةً على مجتمعاتنا بل إن المراجِع لتراثنا يجد العديد من نوادر المعلمين والمؤدبين التي تبرز ما كانت تتعرض له هذه الطائفة من مهانة على مر العصور .. ويا لها من فريةٍ خبيثة تخلط الجد بالهزل في تاريخ هذه الأمة التي كان ديدنها تقدير العلم وتوقير المعلم.. فلو صدق ما قاله القُصّاص والحكواتية عن نوادر المعلمين والمؤدبين لماتت هذه الأمة منذ زمن، ولما وصل إلينا علمٌ ولا عالم، ثم ما من طائفةٍ من أصحاب المهن -بلا استثناء- إلا وقد تعرّضت هذه النوادر لها بالتعريض والسخرية، فلماذا لا يجني التجار والأطباء والقضاةُ وغيرهم  حصاد تاريخ أسلافهم ويُكتب ذلك فقط على المدرسين؟! .. ثُم ألم يحمل لنا التاريخ –الحقيقي- عشرات القصص المشرّفة عما كان يحظى به المعلمون من إجلالٍ وتقدير على مر العصور، ولعل قصةً واحدة مشهورة لدينا جميعًا تقدم لنا أبلغ الدليل على ذلك وهي قصة الخليفة العباسي هارون الرشيد، وقد رأى ذات مرة ابنيه الأمين والمأمون  -الخليفتين من بعده- يتسابقان على حمل نعال مؤدبهما فقال لوزيره: “أتدري من أعزُ الناس؟” فقال الوزير: “ومن أعزُ من أمير المؤمنين؟!” فقال له: “أعزُ الناس من يقتتلُ وليا عهد المسلمين على حمل نعليه”.. هكذا كانت مكانةُ المعلمين لدى الملوك.

ثم يأتينا بعد ذلك من يقول لك: إن سبب التراجع في مستوى احترام وتقدير المعلم هو المعلم نفسه! .. فالكثير من مدرسي هذه الأيام غير جديرين بالتوقير فشخصيتهم ضعيفة وحصيلتهم العلمية متواضعة وقدراتهم التربوية متدنية.. وطبعًا نحنُ لا نجد في هذه الأعذار مبررًا للحط من مكانة المدرس، وإن أقررنا بوجود هذه السلبيات فعلاً في نسبة من مدرسينا.. ولكن المسئولية لا تقع على عاتقهم بل على الجهات التي اختارتهم.. فآلية اختيار المدرس ينبغي أن تكون على أعلى درجات الدقة والعناية.. بل وأن تبدأ مبكرًا قبل الالتحاق بكليات التربية ومعاهد المعلمين؛ لضمان انتخاب وتأهيل أفضل الكوادر للقيام بمهمة التدريس التي تعد –بلا منازع- أهم الواجبات في المجتمع .. ثم يأتي بعد ذلك دور التقييم المستمر من أجل التنقية والترقية والتوجيه والتدريب ليكون المدرسون في المجتمع هم -كما ينبغي- القدوة السلوكية والنخبة الثقافية والطليعة نحو بناء مجتمعٍ قادرٍ على التقدم ومواجهة تحديات التنمية.

وأخيرًا فهناك شبهة ركيكة واهية يزعم أصحابها من “المتفرنجين” أن التقليل من قدر احترام المدرس ناتج عن تناقص دوره في العملية التعليمية نتيجة تنامي دور التكنولوجيا في هذه العملية.. ولا أدري هل يتكلم صاحبنا عن بلادنا أم عن ميتشجان وميونيخ وأوزاكا.. فأين هي هذه التكنولوجيا في مدارسنا؟! .. ثم ما العلاقة بين هذه وتلك؟!.. وهل قيمنا وأخلاقنا وأعرافنا أصبحت كِباشًا علينا أن نريق دماءها على مذبح التحديث والتكنولوجيا؟!! إننا ندعو لاستخدام تقنيات التعليم الحديث في مدارسنا لما لها من آثار إيجابية على تطوير العملية التعليمية، ولا نتصور أن تكون لها آثارٌ سلبية على العلاقة بين المعلم والطالب حيثُ يبقى المدرس هو المرشد والموجه وهو محور العملية التعليمية الذي لا يمكن الاستغناء عنه.. ولو افترضنا جدلاً أن إدخال هذه التقنيات إلى مدارسنا سينتقص ما للمدرس من هيبةٍ واحترام في نفوس تلاميذه فلا مرحبًا بها وعودتنا إلى الكتاتيب والمحاظر أكرمُ لنا وأشرف.

وللذين يحسدون المدرس على راتبه الكبير وإجازته الطويلة نقول: إن المدرس يدفع ثمن ذلك من صحته وكرامته بل وعمره. ولمن يحمّلونه مسئولية تدني المستوى التعليمي للأجيال المعاصرة لتقصيره في العطاء نقول: إن المعلم جزءٌ من سياسةٍ تعليميةٍ شاملة تحتاج إلى إعادة نظر ومراجعة مستمرة.. أما الانتقاص من قدر المعلم فلن يعالج هذه المشكلة.

وختامًا للذين اعتادوا اعتلاء المنصات المزخرفة باللافتات الملونة وتدبيج الخطب المنمقة وكتابة المقالات المطولة في مناسبة يوم المعلم العالمي نقول: إن التكريم الحقيقي للمعلم يتمثل في تحقيق المعاملة الكريمة التي تليق برسالته ومكانته، ثم توفير الظروف المناسبة له للقيام بعمله، ليس في يومٍ سنوي بل على مدار دهرٍ عالمي.. واليوم الذي ستحققون فيه ذلك سيكون حقًا “اليوم العالمي للمعلم”.


بقلم: أشرف سالم