تذوب القلوب عند سماعها، وتذرف العيون مع ذكرها، وتطهر النفوس عند استشعارها: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك”. بهذه الكلمات يدرك قلب الحاج كيف يرقق ويؤنق.

نقول هذه الكلمات في تلك الرحلة الإيمانية، حينما نقصد ذلك المنتجع الرباني، نسأل الرحمن المغفرة، نصيح في الدنيا: “خلي بيني وبين ربي، دعيني وشأني، كفاك ضرًّا بفطرتي، أمهليني أتزود بغذاء الروح، وأنعم في بيت الله الحرام”.

الحج في اللغة هو القصد. فلا بد من توافر القصد وألا يكون الحج تأدية للشعائر دون وعي وفهم كاملين لمقاصدها وأهميتها. ولذا لا بد من استحضار معاني التعظيم والخوف والرجاء والمحبة للخالق عز وجل، وشكره سبحانه وتعالى على منحنا فرصة الحج؛ لأنها فرصة بالغة الأهمية قد لا تتكرر ثانية.

ولذا فإن الذكاء يقودنا إلى التوقف عندها؛ بكل ما تقتضيه من احترام تام لهذه “النعمة”، وسعي متواصل وحثيث للفوز بثمارها العطرة، وكفاح واعٍ لإفشال مخططات الشيطان لإفساد هذه الشعيرة.

ولعل أولى الخطوات البديهية تستلزم الابتهاج بفرصة الحج، وإخلاص النية لله عز وجل، وطلب عونه سبحانه وتعالى بصلاة ركعتي قضاء الحاجة، والإلحاح على الخالق في الدعاء بأن يرزقنا صدق الإخلاص وقوة العزيمة ونبل المقصد، وأن يبارك في حجنا، ويمنحنا الطاقة الروحية اللازمة، وأن يضاعف قدراتنا الجسدية على تحمل مشاق الرحلة، كي لا تقف حائلاً دون استمتاعنا التام برحلة الحج.

رحلة العمر

والثابت أن الحج هو رحلة العمر بلا منازع، وأن الأذكياء وحدهم هم الذين أعدوا الزاد المناسب لها، واستعانوا به على مشاق هذه الرحلة الإيمانية، وصدق الخالق عز وجل إذ يقول: “وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ” (البقرة: 197).

وقد أهدانا الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه تفسيرًا مكثفًا للتقوى؛ فوصفها بأنها “الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل”. ولعل هذا هو أول ما يجب على قلب الحاج فعله بعد إخلاص النية في الحج، فليستعد لارتداء لباس التقوى، ويسعى بعقله وحواسه لامتلاك هذا اللباس بكل ما أوتي من قوة، وأن يتدرب عليه طيلة أيام الحج، ويدرك أن ملابس الإحرام لا تعني شيئًا، ولن تقوده إلى بغيته ما لم يلبس لباس التقوى.

وللبدء في ذلك فعليه إفراغ جعبته من حقوق الناس، والتصالح مع الدنيا بأسرها قبل الذهاب إلى الحج، وتنقية القلب من أية ضغائن. ويسهل ذلك؛ عندما يتذكر الحجيج أنه لا يوجد شيء في الدنيا بأسرها يستحق أن يفقدهم ثمار الحج الدينية والدنيوية أيضًا، وأن أي غال يكون بمثابة “المهر” الرخيص للفوز بهذه المكاسب.

فيجب أن يكن قلب الحاج فطنًا، ولا يترك الضغائن تفسد حجته، ويتذكر قول الله عز وجل: “وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” (آل عمران: 134)، وليتأكد أنه سيربح غاليًا: الفوز بمحبة الخالق عز وجل بمسامحة الجميع، والتخلص من الحمل الزائد المتمثل في احتضانه لمشاعر الكراهية أو الغضب أو الغيظ ممن ضايقوه، واستنشاق روعة التوكل والتسليم والرضى الحقيقي.

وصدق ابن القيم -رحمه الله- إذ يقول: “الرضا هو مستراح العابدين، وجنة الله في الأرض، ومن لم يذقه في الدنيا لم يتذوقه في الآخرة”. وعلينا بالمسارعة ليس لتذوق الرضى فقط، بل والتلذذ باجتراره -على مهل-؛ لننال المكاسب الجمة في الدين والدنيا. ولنساعد أنفسنا مع مسامحة من قاموا بأذيتنا.. علينا تذكر أن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا.

أيها الزائر.. انتبه!

ونتوقف عند خطوة مهمة للغاية، وهي ضرورة معرفة إلى من سنتجه بالزيارة. فعند قيامنا بأي زيارة دنيوية نهتم -عادة- بمعرفة المقصود من الزيارة، ونسعى قدر أهميته لدينا بإعطائه ما يستحق من العناية. ونمهد أنفسنا بأفضل ما يمكن للاستمتاع والانتفاع بها.

ومن باب أولى، يجب علينا فعل الأمر ذاته في الحج. فنحن في زيارة إلى بيت الله الحرام، ونحن في معية الرحمن جلّ في علاه. فلا بد من استشعار هذه العظمة، والفرح بها بلطف، والسماح لها بالتوغل داخل الروح والانتشار فيها بنعومة، وطرد كل ما يمكن أن يعكر هذا الانتشار.

ومن الضروري أن نهمس لأنفسنا إذا ما هاجمتنا هذه الأمور: هذا ليس الوقت المناسب، ولا المكان اللائق لهذه الصغائر، وأن نزيحها بحزم، ونستعيد على الفور مشاعر التعظيم والإجلال، والسعادة بتكريم الخالق سبحانه وتعالى لنا، حيث تفضل علينا بالإسلام، وزاد من نعيمه بأن وفقنا لزيارة بيته الحرام. وعلينا التأدب معه عز وجل، وشكره على النعم بالقلب وبالقول والفعل.

وعلى كل حاج تحاشي الوقوع في خطأ شائع وهو استنفار كافة الطاقات الروحية عند الذهاب إلى الحج، فلا يستطيع قلب الحاج الاستمرار في وضع الاستنفار طويلاً، وما يلبث أن يتراخى تدريجيًّا. والأفضل هو استنهاض هذه الطاقات بلطف والفرح بزيادتها تدريجيًّا. وكلما اقترب ميعاد الحج وجد نفسه في كامل اللياقة الروحية.

ويتطلب الاحتفاظ بهذا التوهج الروحي إدراك العائد الكبير، مكافأة النفس عند الإحسان، واستعادة الروح سريعًا عند الخطأ، وعدم الإغراق في الإحساس بالذنب؛ لأن هذا الاستغراق سيؤلمه و”يسرق” منه الطاقة اللازمة لتجديد الإيمان. فليفطن لحيل الشيطان وألاعيبه، ويغلق أمامه -بقوة- كل الأبواب، ويتذكر أن الإيمان إن لم يزد ينقص، وعليه السعي لزيادته دومًا.

لا يقاس بالكم

وهذا الفهم يقودنا إلى التسليم بأن الإيمان يقاس بالكيف وليس بالكم. فالمقصود في التلبية مثلاً، ليس عدد مرات التكرار، ولكن الوعي واستحضار معاني التعظيم والمحبة والخوف والرجاء والحياء في أثناء ترديدها. وإلا تحولت إلى أداء روتيني بلا أي فائدة دينية.

وهذا ما يقال أيضًا بالنسبة للطواف وسائر الشعائر. فعلى الرغم من أهمية الالتزام بعدد مرات الطواف أو السعي مثلاً فإن الأهم من ترديد اللسان وحركات البدن، هو: اتجاه القلب بكامل طاقته الإيمانية إلى الخالق عز وجل، والسعي بجدية لتنامي هذه الطاقات، وإفساح المجال لها لقيادة حياته الدينية والدنيوية على حد سواء.

ولن يوجد مجال أوسع من الحج لهذا التدريب، وعلى كل حاج الانتباه لهذه الحقيقة المؤكدة، واغتنام هذه الفرصة؛ ليعود كما ولدته أمه، طاهرًا متطهرًا متخلصًا من كل الشوائب والذنوب والمعاصي التي لحقت بدينه ودنياه؛ ليفتح صفحة نقية نظيفة في حياته، يبدؤها بالتركيز في الصلوات؛ لأنها مفتاح القرب إلى الرحمن عز وجل، وأن ينوي أن يكون الحج بداية رائعة؛ ليحتل أفضل مكانة في الدين والدنيا.

ويجعل الدنيا في خدمة الدين وليس العكس. فيستشعر القرب من الخالق عز وجل في كل أوقات الحج، وينعم بالتواجد في أماكن عاش فيها رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم، مع ضرورة أن يحتفظ بالشحنة الإيمانية بداخله، ويخدش الإخلاص التحدث عن بشائر الإصلاح الذاتي، ويدخل تحت باب الرياء، فتتبخر هذه الشحنة بداخله.

فالأولى أن يصونها، ويجاهد لتنميتها أولا فأولاً، فيتعامل معها على أنها كنز غالٍ يقاتل للحفاظ عليه لا أنه شيء مستباح للآخرين.

نصائح غالية

ونود أن يهتم كل حاج بحسن تأديته للحج، وألا يشتت طاقته في مراقبة غيره، فلا يحاول انتقاد الآخرين، ولا يشغل نفسه بهم، وهذا لا يمنع أن يتعامل “بالحسنى” مع من يريد المساعدة.

وندعو كل حاج أن يتسامح مع أخطاء الحجاج معه، ويفعل مثل الصحابي الجليل أبي ضمضم رضي الله عنه الذي لم يجد مالاً يتصدق به، فنوى أن يتصدق بعرضه، أي أن يتسامح مع كل من يتطاول عليه، ويعتبر ذلك بمثابة الصدقة.

فلماذا لا نقتدي بمثل هذا الصحابي الجليل، فنتصدق بأخطاء الآخرين في حقنا، وننال أجر الصدقة من الرحمن الكريم، ولا ندخل في أي جدال مع الحجاج؛ حتى لو كنا على حق، ونتذكر دائمًا أن الحج فرصة قد لا تتكرر ثانية، وأن الذكاء يقودنا إلى منع كل ما يحول دون تحقيقنا أكبر قدر ممكن من الخير.

وحتى نساعد أنفسنا على ذلك فلا بد من الاسترخاء الذهني قبل الحج وفي أثنائه، حتى لا يدفعنا الإجهاد إلى سوء التصرف، وأن نعي تمامًا أن الحج به مشقة، وأننا سعداء الحظ -للغاية- لأن الله وفقنا لثوابه.

مغلق للنسك

وللحفاظ على التألق الروحي لا بد من نبذ الانشغال بالشراء، واتخاذ قرار نهائي بعدم التفكير فيه؛ إلا بعد الانتهاء من كل المناسك. فيمكن تعويض المشتريات؛ فإن الأدب مع الله يقتضي توقير الحج، مع عدم السماح بالأمور الدنيوية والالتزام بالصحبة الصالحة.

فإن لم يجد الحاج ما يبتغي، فلينفرد بنفسه في رحلة الحج، ويقلل من احتكاكه بالآخرين دون انتقاد أو تعال بالطبع. وفي ذلك أفضل الفوائد الروحية، وليحقق أقصى ربح إيماني ممكن من رحلة الحج، فالأسهل دائمًا هو النزول لأسفل، فهو لا يتطلب سوى الرضوخ. بينما الصعود لأعلى يتطلب بالإضافة إلى الموافقة توافر إرادة النهوض، وهو ما لا يمكن إجبار الآخرين عليه.

ولا أدعو بذلك إلى السلبية، فهي صفة مرفوضة دينيًّا ودنيويًّا، ولكن على قلب الحاج إذا وجد ما يكرهه دينيًّا في رفاقه؛ أن يلفت النظر إليه بكلمات ليِّنة يبدو فيها الاحترام، وأن تكون موجزة ومكثفة وبلا اتهامات، يقولها ثم ينصرف إلى شأنه. فهذا أفضل؛ إذ يدعو مرتكب الخطأ إلى مراجعة نفسه، كما يصون الجميع من الجدال المحرم وخاصة في هذا المقام الرفيع.


نجلاء محفوظ – كاتبة وفنانة تشكيلية