في مجال البحث عن مقاربات التنمية في التراث والظواهر المتعلقة بها، هل لم يكن للمفكرين المسلمين رؤية حيال عمران الدنيا؟ يتأكد الأمر من خلال ضرورته في بناء الرؤية العمرانية العامة لمفهوم الإنماء.

مقاربة الماوردي صلاح الدنيا وعملية التنمية

ويقع الماوردي على رأس هؤلاء المهتمين في سياق حس عمراني يتحدث حول منهج النظر للعملية الإنمائية، وعناصر القيام على عمارتها وصلاحها حيث نكون أمام رؤية كلية شاملة للظاهرة العمرانية والإنمائية تبحث في عناصر التنمية الشاملة والتنمية البشرية، فتؤصل القواعد وتحدد المجالات.

  1. علاقة الدين بالظاهرة الإنمائية أولى هذه القواعد التي تحرك عناصر الالتزام والفاعلية في إطار عقدي يتحرك فيه الإنسان صوب مصلحته وإصلاحه. إنه يدرك حقيقة العلاقة الإيجابية بين الظاهرة الدينية والظاهرة الإنمائية في إطار الفهم لصحيح الدين وما يؤثر به من فاعلية.
  2. علاقة الظاهرة السياسية بالظاهرة الإنمائية من القواعد المهمة في هذا المقام، وهيبة السلطة وقدرتها إنما تعبر عن إحدى الضرورات للظاهرة الإنمائية.
  3. ثم العدل كحالة شاملة للكيان أفراداً وجماعات، حكامًا ومحكومين، ذلك أن هيبة السلطة لا تتأتى إلا من عدلها وقدرتها أن تجعل من الهيبة رضا بالعدل والسوية.
  4. وأمن عام هو من أهم شروط عناصر الاستقرار التي توفر قاعدة ووسطاً للعملية العمرانية. فالفوضى ضد العمران، والتهارج ضد الاجتماع، والأمن قرين العمران، معادلات هامة تؤسس أصول الأمن المترتب على العدل الشامل.
  5. خصب دائم هو عنوان وإشارة إلى عناصر الإنماء الممتدّ والشامل والدائم، إنها مجالات التنمية بأسرها وبتنوعها وبتكافلها.
  6. وأمل فسيح يحدد أفق الرؤية ورحاباتها، رؤية لحال الجماعة والكيان في استقبالها، المتعلق بالأمل المصاغ ضمن أصول وعي وقواعد سعي.

وصلاح الدنيا موصول بصلاح الإنسان وعمرانه وما يتطلبه ذلك من مقتضيات عناصر، ووسط التنمية البشرية وعمرانها من أصول رؤية الماوردي(1). 

مقاربة ابن خلدون: مفهوم العمران وعوامل بنائه وانحطاطه

أردنا أن نضع ابن خلدون بمقاربته العمرانية ضمن سلسلة من المقاربات التي سبقته أو لحقته حتى لا يتصور البعض مع من يتصورون أن ابن خلدون فلتة لا تقبل التكرار، ومصادفة لا يقاس عليها، أو هو نتوء ضمن إسهامات معرفية أو منهجية أو علمية متواضعة، فإن هذا مثلما يحمل ظلماً لابن خلدون فإنه يعبر من جانب آخر عن ظلم فادح للحضارة التي أنجبته، وتغذى من مرجعيتها ما شاء، فكانت مقدمته التي لا تدعي انفصالاً عن حضارته بل لبنة ضمن بنائها، وليس من غرضنا استعراض نصوص خلدونية في مقدمته، بل الغرض أن نشير إلى ما تميزت به مقاربته العمرانية، والمفاتيح التي دلف من خلالها إلى الظاهرة العمرانية والتعرف على عناصرها وشبكة علاقاتها، والمستلزمات والمتطلبات التي يجب التسلح بها عند مقاربة ظاهرة العمران، ومن هنا فقد أشار ابن خلدون إلى:ضرورة الاعتبار بالتاريخ، فأسّس وأصَّلَ فكرة أن للظاهرة الاجتماعية والسياسية والعمرانية عمقاً تاريخيًا، وللظواهر التاريخية عمقًا حضاريًا عمرانيًا.ضرورة النظر إلى الظاهرة العمرانية ضمن امتداداتها، وعناصر شمولها، فلشئون العمران ما يعرض له، وفيه من العوارض الذاتية من الملك والسلطان (ظاهرة السلطة)، والكسب والمعاش والصنائع والعلوم (مجالات العمران)، وعمارة الحياة والأمة التي هي مقصد عالم عمران ابن خلدون (المقاصد العمرانية).فقد شرح ابن خلدون “من أحوال العمران والتمدن وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها، حتى تنزع من التقليد وتقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال وما بعدك”.(2)

وهى إشارات واضحة إلي التنبيه إلي علم الاجتماع العمراني والسياسي الذي يرى الظاهرة السياسية في جوف الظاهرة الاجتماعية والظاهرة التاريخية.يكمل ذلك تصوره للعمران البشري والمقدمات المتعلقة به التي تتصل بالجغرافيا الطبيعية والبشرية، وأثر البيئة على أبدان البشر وأحوالهم وما ينشأ من العمران، وهو يصنف أنواع العمران من عمران بدوي، ونشأة الدول وتطورها وقوتها ثم ضعفها، والعمران الحضري، ونشأة الهياكل العظيمة، وبنائها وخراب الأمصار إذا تراجع عمرانها أو إذا انقرضت الدول القائمة فيها، والمعاش: وجوبه ووجوهه وأصنافه ومذاهبه، والعلوم التي هي من أهم مقدمات العمران وأصنافها، والتعليم وطرائقه وسائر وجوهه.

وعكف ابن خلدون يتحرى شبكة العلاقات بين تلك المقدمات العمرانية محققاً أصول تحليله في ضوء عناصر الترتيب المقترن بنظرية المقاصد الكلية العامة من الضروري والحاجي والتحسيني، والأصلي والمكمل.(3)وفى هذا السياق ينتقل ابن خلدون إلي فكرة الأطوار متبعاً منهجاً سننياً، فالأطوار الحضارية محكومة بقوانينها وسننها؛ سنن تتعلق بالمظاهر العمرانية وتحويلها إلي عالم أفكار تتعلق بالقيم المتعلقة بها.

يعالج ابن خلدون كذلك أسباب الانهيار والتي عدد بعضها، إلا أنه يؤكد على سنة ذهبية وناموس عمراني، هما في غالب الأحوال تعبير عن سنة تحذيرية “أن الترف مؤذن بخراب العمران” الترف أو الانغماس في التمدن هو من أسباب انهيار الحضارة.(4)مفاتيح عمرانية خلدونية يمكن أن تولد رؤية للتنمية على شاكلتها، وتؤصل منهج تعامل وتناول للظاهرة العمرانية والإنمائية، وتحرك عناصر لفهم جوهر العلاقة بين الإسلام والتنمية.(5)

مقاربة الشاطبي: دور المقاصد الكلية في حفظ العمران وديمومته

اتجه الشاطبي عالم اللغة إلي المعين الأصولي ليؤسس الكليات (المبادئ الأساسية) العمرانية، حتى ليمكن أن ترى ضمن اختلاف هذه المسالك وجهات نظرها وتنظيرها كيف تتكامل وتتفاعل، فقد خرجت من مشكاة واحدة تضيء النظر إلى الظاهرة العمرانية على اختلاف عناصرها ومستوياتها وعلاقاتها.المقاربة الشاطبية في المقاصد الكلية وتأسيس قواعد الحفظ وأصول العمران لا تتسع الصفحات بل الكتاب الواحد لأن يستوعب مقالاته ومقولاته، في النظر والتناول للظاهرة العمرانية، وحسبنا في هذا المقام أن نشير إلى بعض مفاتيحه العمرانية من غير استيعاب وفي إجمال من غير تفصيل.(6)إن النموذج المقاصدي في أصل بنيته تتفاعل ضمن منظومته عناصر ثلاثة (7):

الأول: يتعلق بالحفظ كعملية تتضمن عناصر حفظ متوازية ومتتالية، مستطرقة ومتفاعلة، والحفظ هنا هو دفع أي حفظ سلبي (دفع المضار)، وحفظ جلبي أي حفظ إيجابي (جلب المنافع والمصالح).

الثاني: يتعلق بالمجالات العمرانية، كساحة أساسية للفعل الحضاري وإعمال القواعد.

الثالث: يتصرف ضمن بنية هذا النموذج بعمليات التصنيف والترتيب عمليات كلها تتعلق بأصول فهم الواقع بغرض حفظ مجالات عمارته وإنمائه.وتكامل عناصر الحفظ هذه كفعل، والمجالات التي تتعلق بالفاعلية والسعي، والمراتب التي ترتبط بأصول الفعل والحركة في سياق تحصيلها جميعًا إنما تعبر عن قدرات هامة ضمن هذا النموذج المقاصدي.

ماذا يريد الشاطبي أن يعلمنا ضمن مقاربته العمرانية؟!

الشاطبي يلفتنا إلى هدف العملية الإنمائية والعمرانية، وعناصر المادة العمرانية، ووسائل الحفظ العمراني وتكافل عناصر الحفظ، وتنوع مستوياتها بين دفع الضرر وجلب المصالح وعناصر وزن وتكييف الحالات والأفعال (الضروري والحاجي والتحسيني).إنه يتحرك صوب عناصر فهم العملية العمرانية والإنمائية وفق عناصر النموذج المقاصدي والذي يؤصل بحق منهج نظر ومنهج تعامل وتناول مع أصول الظاهرة العمرانية. كما أنه يلفت الانتباه إلى عناصر تقويم الفعل العمراني الحافظ للمجالات.(8)

مقاربة الأسدي: سوق المال ودوره في إفساد العمران أو استمراره

تحرك الأسدي بنا في مقاربته ليعرض حالة محددة يتحرك فيها الفساد النقدي “سوق المال” ليشير إلي الفساد العمراني؛ هياكله وأبنيته ووظائفه وأدواره وغاياته.ونحن في هذا المقام لسنا بصدد التعرض لأفكار العلامة الأسدي بصدد العمران ومحدداته وسردها، بل نحاول تناول الإطار العام لمعالجته لموضوع العمران، أو مقاربته في دراسة العمران.فهو من جانب يعبر عن ضرورة الرؤية المتفحصة لتعلق الظواهر بعضها ببعض في العلاقات والتفاعل في التأثير والتأثر.ويتخذ من حال معالجة الأزمة (9) كدراسة حالة ضمن مقاربته العمرانية، وهو يتحرك صوب أن الأزمات يمكن أن تطول العمران لأسباب طبيعية ولأسباب إنسانية، وأن العيب ليس في حدوث هذه الأزمات التي تطول البناء العمراني أو بعضا من مادته أو معظم أدواره ووظائفه، إنه يتحرك صوب عنصر هام، وهو أن فساد الوسائل يقود إلي فساد المقاصد والعكس بالضرورة صحيح.

خاتمة

مما سبق نخلص إلى أن التراث السياسي الإسلامي عالج قضية التنمية من منظور صلاح الدنيا واستقامة أحوالها. ويعد مفهوم صلاح الدنيا من المفاهيم التي تعكس بديلاً لمفهوم التنمية لكنها من زاوية الدلالة أقرب إلى الرؤية الإسلامية من مفهوم التنمية فالمفهوم”صلاح الدنيا” يرتبط من حيث شقه الثاني بوجود حالة أخرى هي الآخرة. والارتباط بينهما ذو علاقة تلازمية من حيث أن الأولى وسيلة الثانية على الدلالة الكاملة المصطلح صلاح الدنيا. فهو – أي صلاح الدنيا – وسيلة إصلاح الآخرة.

وهو ما جعل كل مقاربات التراث الإسلامي تعتبر الدين أو عناصر الالتزام والفاعلية في هذا الإطار لأنه يسوس الصلاح بصورة شاملة أولها الأخلاقي وثانيها التشريعي وثالثها الاجتماعي ورابعها الاقتصادي وخامسها السياسي.ويرتبط بصلاح الدنيا الحديث عن العمران كما في مقاربات ابن خلدون والشاطبي والأسدي وهو مضاد الخراب، والخراب والعمران دلالتهما في الذات الإسلامي أعم وأشمل من دلالتهما المادية المحدودة، وإن كانت بطبيعة الحال تستوعبها ضمن دلالتها فحفظ المقاصد – كما في مقاربة الشاطبي – والتي تتضمن حفظ النفس والمال والدين تعبر عن الدلالة الواسعة لمفهوم العمران ولعل ذلك ما عبر عنه ابن خلدون حين اعتبر الترف من الأمور المؤذنة بزوال العمران، أو هو تعبير عن المرحلة الأخيرة من مراحل العمران، حيث تنتهي بعدها (دورة الحضارة) لتقوم دولة أخرى، ولتبدأ معها دورة أخرى. ولعل هذا ما عناه الأسدي أيضاً.


(1) انظر ذلك في : الماوردي، أدب الدنيا والدين، مرجع سابق ص 138.

(2) انظر المقدمة: عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة (القاهرة: الطبعة الأميرية، 1320هـ)، ص 3 وما بعدها.

(3) المرجع السابق، انظر الكتاب الأول في طبيعة العمران في ص 33 وما بعدها، أما الاقتباس ففي ص ص 116 – 117.

(4) المرجع السابق، في سنن الترف انظر ص ص 133 – 134، 157 – 160.

(5) في إطار هذه الرؤية العمرانية للتنمية وإسنادها إلى بعض المقولات الخلدونية انظر: عبد الغني مغربي، الفكر الاجتماعي عند ابن خلدون، ترجمة: محمد الشريف بن دالي حسين (الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب، 1986)، ص 165 وما بعدها.

(6) انظر هذه المقاربة للنموذج المقاصدي: الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة (القاهرة: دار الفكر العربي – المكتبة التجارية الكبرى، د.ت

(7) انظر ذلك ضمن مقاربة الشاطبي والعناصر التي تتضمنها: أحمد الريسوني، مدخل إلى مقاصد الشريعة (الدار البيضاء: مطبوعات الأفق، 1996) ص53 وما بعدها.

(8) انظر هذه المقاربة والعناصر التقويمية فيها في :سيف الدين عبد الفتاح، “مدخل القيم إطار مرجعي لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام، “مرجع سابق، جـ2، 1996، انظر بصفة خاصة النموذج المقاصدي وعمليات تشغيله ضمن النماذج.

(9) في إطار معالجة الأزمة ومقاربة الأسدي يمكن مراجعة تلك المقدمة التي كتبها محقق الكتاب عبد القادر طليمات (تحقيق وتعليق)، محمد بن خليل الأسدي، التيسير والاعتبار والتحرير والاختيار فيما يجب من حسن التدبير والنصيحة في التصرف والاختيار (القاهرة: مطبعة مخيمر، 1967)، ص ص 1 – 26.

ــ