أمضيت جزءاً كبيراً من عمري في معارك مع الوقت، وكان هو المنتصر في معظمها. قرأت كلّ كتاب وجرّبت كل طريقة، وباستثناءات معدودة، بدا لي معظمها تفريغاً لمضمون سابق في قوالب جديدة، أو تفسيراً للماء بالماء. كان إحساسي بالعجز في مواجهة أمواج المهمات الكاسحة وبضعف إنتاجيتي لا يفارقني.

حصل الاختراق الكبير معي عندما كنت أدرّس في الجامعة وجاءني أحد الطلاب يطلب مساعدتي: كان يعاني مشكلةً في التعامل مع اللغة المكتوبة “عسرة القراءة Dyslexia”، لم أكن أعرف ماذا ينبغي أن نفعل فاتجهت إلى خبيرة في مشكلات واضطرابات التعلّم. نصحتني الخبيرة بأن أتيح لذلك الطالب تقديم الامتحان في مكتبي وأمنحه استراحات قصيرة كلّ عشرين دقيقة. وبالفعل أبلى الطالب بلاءً حسناً أدهشه كما أدهشني، وحرّك فيّ تساؤلات متعمّقة.

اعمل أقل تنجز أكثر!

وبعد سنوات من العمل بحصص العشرين دقيقة، ولدت تقنية “الإفلات المكرّر” Multiple Put Down technique.  لقد استخدمتها في عملي منجزاً أربعة كتب، وأطروحة جامعية، وآلافاً من المحاضرات والخطابات. وهذه طريقة عملها:

اعمل على أيّ مهمة بحصصٍ متوالية مدتها عشرون دقيقة تشتغل فيها بتركيزٍ مطلق، ثمّ تترك المهمّة، ثمّ تعود فتركّز، وهكذا إلى أن تنتهي. أرجو أن لا تتسرّع عزيزي القارئ في تقييم ما أقول، تذكّر أنّ المغزى في التفاصيل، فتابعها معي من فضلك بكل دقّة:

1- التنبيه والإحماء: نبّه دماغك إلى أنّ هناك مهمةً قادمةً تتطلب ما لديه من ذاكرة وابتكار وذكاء (نعم دماغك ذكي!، فاحمد الله واشكر والديك!) ثم دع بعض الوقت يمضي.

 2- الإعداد والانطلاق: عندما تكون مستعداً للعمل: جهّز منبّهك لقياس عشرين دقيقة. ضع جوّالك على وضعية الصمت، أغلق برنامج الإيميل، وأسكت أيّ مصدرٍ لتشتيت انتباهك، ثمّ ابدأ تشغيل عدّاد الوقت.

3- التركيز والإصرار: خلال العشرين دقيقة يجب أن تركّز على مهمّتك دون أيّ مقاطعة، وباستثناء أن يكون البيت يحترق –لا قدّر الله- فإيّاك أن تفعل شيئاً غير العمل على مهمّتك حتّى تنقضي الدقائق العشرون. قد تجد الطريق مغلقاً أمامك في البداية، فإياك أن تتوقف، بل واصل ما تقوم به. إنّ الغالبية العظمى من الناس يجدون أنفسهم قادرين على مواصلة عملهم في مهماتهم عملاً مركزاً متدفقاً “مندمجين” إلى أن يعلن المنبّه انتهاء العشرين دقيقة.

4- الإفلات والتكرار: بعد العشرين دقيقة يتاح لك الخيار: إما أن تستمرّ في عملك أو تأخذ فاصل استراحة. إن قررت متابعة عملك فأعد تشغيل مقياس ومنبهّ الوقت المضبوط، والتزم بالتهيئة والتركيز التام والمواصلة حتى نهاية العشرين دقيقة، كما فعلت في الجولة الأولى. وإن قررت أخذ فاصل استراحة فيمكنك أن تجعلها قصيرة (لإعادة ملء فنجان القهوة مثلاً) أو متوسطة (للرد على مكالمة هاتفية) أو طويلة (لحضور اجتماع، أو القيام بتمرين رياضي).

هذه هي كلّ طريقتي. كل ما عليك أن تجرّبها مرةً بعد مرة ومن هنا يأتي اسمها: الإفلات المتكرر multiple put down

أعلى كفاءة

من خلال تجربتي ومن خلال ما قاله آلاف الأشخاص المجرّبين فإنّ متبع هذا الأسلوب سيجد نفسه أعلى كفاءةً وينجز المهمّة في وقتٍ يقلّ بمقدار 30 – 50% عن وقت الإنجاز بجلسة واحدة. فضلاً عن ذلك ستجد أنّ نوعية الأداء أفضل من تلك التي تحصل عليها باتباع نصيحة الوالدة “ابدأ فوراً وانه كلّ ما عليك بأي ثمن”. إلى جانب الكفاءة والجودة فإن لهذه الطريقة فائدتين هما: تخفيف التوتّر والارتباك، وشعور المرء بالرضا عن نفسه والفخر ببراعته.

إنّ تقنية “الإفلات المكرّر” ستوفّر لك ساعاتٍ ثمينة كانت تذهب هدراً، وستجدها أكثر فاعليةً لو أرفقتها بـِ “يوم مراجعة وإصلاح الحياة life repair day”

لماذا طريقة الإفلات المتكرر؟

من المزايا الواقعيّة المبررة لطريقة الإفلات المتكرر: إن دماغ البشر بارعٌ في إجراء “العمليات الخلفية background processes”، ولكنّه أخرق ضعيف في “إجراء المهام المتعددة المتزامنة multitasking”.  في وقت قيادة سيارتك إلى العمل ووقت استحمامك أو إجابتك على الإيميلات البسيطة يكون دماغك دائراً يشتغل في خلفية هذه النشاطات البسيطة على المسألة التي تهمّك. وهكذا فإنّك عندما تستعدّ وتبدأ العمل الجاد سترى نتائج شغله تتدفق في أصابعك التي تكتب بالقلم أو تطبع على الكيبورد طوال فترة العشرين دقيقة، ثمّ يأتي التوقّف التالي ليعين دماغك على تجميع وترتيب فيض الإبداع التالي. وكلّ مرّة تكرر فيها عملية العشرين دقيقة هي “وحدة إنتاجية productivity unit”

وهذه بعض المهمّات التي تبدو فيها طريقة “الإفلات المتكرر” أكثر ملاءمةً وفائدة:

كتابة تقرير، إعداد ديباجة مُقنعة موجزة موجهة لأحد العملاء أو المديرين، إيجاد حل لمشكلةٍ معقّدة

وللمعجبين بالكتاب الذي شاركت في تأليفه الصادر عام 2008 “القيادة القبيلية Tribal Leadership”  اتخذه مثالاً فأقول إنّه حصيلة 1106 “وحدات إنتاجية”.

وفي الختام إليك صديقي القارئ هذه النصيحة والتحدّي الممتع: اختر الآن مهمةً تلحّ عليك وتؤرّقك ولا تكاد ترى لإنهائها سبيلاً وطبّق عليها طريقة “الإفلات المكرّر”.

أتمّنى لك التوفيق من كل قلبي وأهنّئك سلفاً على ما تجد من نجاح وأرجو أن تسمعنا ملاحظاتك في هذه التجربة!