لقد كانت السيطرة العسكرية مقدمة لأحكام السيطرة الاقتصادية، والمالية، ومن ثم السيطرة المصرفية. فبدأت عملية افتتاح فروع للمصارف الأوروبية الحديثة في البلاد الإسلامية ثم محاولات عديدة لإنشاء بنوك ربوية.
وهكذا لم ينته القرن التاسع عشر حتى أصبح وجودها وفقا للنموذج الغربي حقيقة قائمة وبدت سيطرتها واضحة على كثير من الحكام في ظل نفوذ سياسي وعسكري للدول التي تنتمي إليها في أوروبا، ومع ذلك فقد بقيت الشعوب الإسلامية نفسها متمردة مدة طويلة على فكرة تأسيس بنوك وطنية تقوم على أساس الربا.
وهكذا فقد تباينت مواقف المسلمين من النموذج المصرفي الغربي بين ثلاثة اتجاهات:
- الاتجاه الأول: يعتبر مناصروه أن كل أعمال البنوك حلال، مستدلين عليه بعدد من الآراء الضعيفة التي تتعلق ببعض الحِيَل متجاهلين آراء جمهور الفقهاء أو محصلة مذهب فقهي بعينه، بل مصورين أعمال البنك بالشكل الذي يتفق مع بعض العقود الشرعية الجائزة مثل المضاربة والمرابحة وغيرها، مستندين على قول: إن الربا هو الأضعاف المضاعفة.
- الاتجاه الثاني: يعتبر مناصروه أن أعمال البنوك حرام، ولكنها ضرورة، مستندين إلى القاعدة الفقهية التي تقول: “الضرورات تبيح المحظورات” دون الاستناد إلى الفهم الصحيح للضرورة[1].
- الاتجاه الثالث: يعتبر أن أعمال البنوك ضرورة، ولكن الربا ليس ضرورة لتشغيل البنوك، ويرى مناصروه بأن البنوك الحديثة لا تختلف كثيرا عن المرابي القديم، وأنه لا يوجد مبرر لارتكاب كبيرة الربا في مقابلة أمر لا تقتضيه الضرورة، فالضرورة تُقدر بقدرها. كما يرى هذا الرأي أن الفائدة حرام؛ لأنها الربا بعينه سواء أكانت عند الاقتراض أو عند الإيداع، وأن الفقه الإسلامي فيه من العقود الشرعية ما يعين على صياغة تصور جديد لممارسة البنك وظيفته دون الوقوع في محظور شرعي، وأن مجالات الاستثمار الحلال فيها متسع كبير من خلال عقود المضاربة والزكاة والبيوع وغيرها.. وهذا الرأي كان هو معتقد أغلبية الفقهاء ومعتقد قطاع كبير من المسلمين، الذين عبروا عن رأيهم بطريقة عدم تقاضي فوائد عن ودائعهم لدى البنوك أو برفضهم التعامل معها.
وعموما، فإن الاتجاهين الأول والثاني هما اللذان سيطرا بطبيعة المناخ السياسي والاجتماعي السائد منذ الاستعمار وبسبب الظروف الخانقة التي فرضتها المصارف وبيوت التمويل الأجنبية، وفوق ذلك فإن النموذج المصرفي الغربي المطروح كان صيغة مكتملة وجاهزة لا يقابلها على الجانب الآخر تصور متكامل أو شبه متكامل لنموذج مصرفي إسلامي بديل؛ إذ إن صلة المسلمين بالممارسات المصرفية الإسلامية التي سادت إبان النهضة الإسلامية قد انقطعت إلى حد كبير، وهو ما مهد لانتشار البنوك وشركات التأمين في صورتها الأوروبية ودعم وجودها.
ولعل ذلك قد أوحى -للمتابعين لتطور تلك المؤسسات المالية والنقدية- بأن الاتجاه الثالث قد انحسر بل تلاشى إلى غير عودة، لكن حقيقة الأمر أن هذا الاتجاه قد عبّر عن نفسه نظريا وذلك بالحسم في موضوع الربا أو الفوائد البنكية بعدما أجمعت المجامع العلمية العالمية الثلاثة: مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر بالقاهرة سنة 1965، والمجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة سنة 1987، ومجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة سنة 1985، وهذه المجامع حسمت الموقف في اعتبار الربا أو الفوائد البنكية حرامًا؛ ومن ثم كان التشجيع على إقامة بنوك إسلامية.
الأستاذة منى بن الطيبي5>