كلمة “التضحية” بمعناه الحديث كلمة إسلامية لم تعرف بهذا المعنى من قبل، وكان معناها: الفداء وذلك قبل الإسلام، وقبل نزول القرآن الكريم. ولكن ماذا عن الأضحية في مقارنة الأديان؟
وإنما أُخذ معناها الأصيل من “الضحى” موعد تقديم ذبيحة العيد بعد صلاته، وظن بعض المتعجلين من المستشرقين المشتغلين بعلم المقارنة بين الأديان أنها من أجل ذلك تشير إلى أصل قديم لعبادة الشمس في عصر الجاهلية، وهو –كما يرى القارئ العارف بالعربية– ظنٌّ عاجل من ظنون القشور الواهية؛ لأن التضحية كلمة من كلمات كثيرة تفيد معنى الطعام أو تقديم الذبائح في مواعيده من اليوم، بين السحور أو الغداء والعشاء، على حسب أسمائها القديمة التي شاعت من قبل وتشيع اليوم على كل لسان.
ولكن الحديث عن الأضحية في مقارنة الأديان تدعونا للقول أن المقارنة المتئدة بين الأديان تسفر في أمر “التضحية” عن حقيقة مطردة ننتهي إليها من جميع المقارنات في جميع الشعائر والمعتقدات بين الدين الإسلامي وسائر الأديان الأخرى المعروفة في أمم الحضارة.
وتلك الحقيقة المطردة –كما يعرفها كل منصف من المسلمين وغير المسلمين– هي ارتفاع الإسلام شأوا بعيدا فوق أرفع الآفاق التي بلغتها أطوار الدين مع ارتقاء النوع الإنساني وصلاحه شيئا فشيئا للتقدم في شئون العبادة، وما يقترن به من شئون المعرفة والأخلاق والتربية الاجتماعية.
فالمتعجلون من المقارنين بين الأديان في مسألة الأضحية في مقارنة الأديان، لم يسلموا من الخطأ الذريع فيما انساقوا إليه –مع الإشاعة– من تقديم الديانات الكتابية على الديانة الإسلامية في معاني الإيمان وشعائره؛ لأنها متقدمة عليها بتاريخ الدعوة. ولو استقام بها الرأي لأدركوا بغير عناد أن اعتبار التطور هنا أولى من اعتبار الأرقام والتقاويم؛ لأن الزمن لا يسمح بظهور دين وانتشاره بعد دين آخر ما لم تكن فيه فضيلة يجدها المقبلون على الدين الجديد لم يجدوا قبل ذلك فيما تقدم من الأديان.
وهذه الحقيقة المطردة تظهر –كما أسلفنا- بغير عناد كبير من كل مقارنة بين العقائد الإسلامية، وما تقدمها من العقائد في أمهات شعائر الدين وأصوله.
وقد تتلخص هذه الأصول في العقيدة الإلهية، وعقيدة النبوة، وعقيدة الصلاح في النفس الإنسانية بين يدي الله وأنبيائه.
فالله في الإسلام كائن سرمدي منزه عن شوائب المادة، يدين المسلم بأنه هو رب العالمين أجمعين، وليس برب لهذه القبيلة أو تلك، تختاره ويختارها لغير سبب بين الأمم كافة، وليس الإله كذلك ربا لطائفة من الناس، يرتبط خلاصها بحادث من حوادث التاريخ في بقعة من الأرض، بين بقاعها التي تبتعد أو تقترب منها فيما سبق أو فيما يلحق من الأزمنة.
والنبي في الإسلام داعٍ إلى الهدى بحجة العقل والضمير، وليس منجما لاستطلاع الغيب ولا وسيطا لدفع الكوارث وجذب المنافع بين الخالق ومخلوقاته، والنفس البشرية نفس رشيدة مسئولة عن صلاحها وعن خلاصها بما تعمله وتنهض بتبعاته في تجارب دنياها أينما كانت وكان مصيرها ومثواها.
وهذه الأصول الثلاثة في عقائد الإلهية والنبوة والنفس البشرية هي أهم أركان العبادة في كل ديانة قديمة أو حديثة، ولا يمتري المنصف في مكان الفضل والتقدم منها عند المقارنة فيها بين الإسلام وسائر الأديان.
ولكن الأضحية في مقارنة الأديان في الفروع تنتهي كذلك إلى تمييز الإسلام بمثل هذا الفضل، أو هذا التقدم، من وجهة النزاهة في التفكير والاستقامة على هداية الضمير.
ومن هذه الفروع عقيدة “التضحية” أو القربان في الدين الإسلامي وفيما تقدَّمه من الأديان الكتابية وغير الكتابية.
فالذين زعموا أن الإسلام نسخة محرفة أو مشوهة من اليهودية، يدركون خطأهم سريعًا إذا قارنوا بين معنى التضحية في اليهودية ومعنى التضحية في الدين الحنيف؛ لأن القرابين والضحايا كما وردت أحكامها في كتب التوراة والتلمود تحمل في أطوائها كل بقايا التضحية للأرباب، في الأديان التي قامت على عبادة الظواهر الطبيعية، ولا سيما ظواهر الفصول ومواسم الزراعة.
فالقربان عندها يكون تارة من بواكير الزرع، وتارة من بواكير الحيوان في مواسم الحصاد أو النتاج.
ويكون بالإضافة إلى هذا -تارة أخرى- ثمنا للغفران من الله أو “رشوة” لتسكين الغضب واستجلاب الرضى والرعاية.
بل يكون القربان الأكبر أحيانا طعاما مقدما إلى الله؛ لأنه يستسيغه ويشعر بالسرور لاشتمامه، ويكون في كل حال هدية منتقاة من أطايب الذبيحة لكهان الهيكل وخدامه والمنتسبين إليه.
وفي كتب التكوين والخروج والأخبار تفصيل لأنواع هذه القرابين لا حاجة بنا إلى استقصائه، ولكن الكتاب الذي خصوه بمراسم الهيكل والذبائح وحقوق الأحبار والكهان حافل بالتفصيلات التي تعْرِض لبيان أغراض القربان، وأجزاء الذبيحة التي يرتضيها الرب، ومقادير اللحم والشحم التي تفضل على غيرها، ولا تحل لأحد غير الكهنة، أو غير الإله الذي يتوسط الكهنة في تقديمها إليه. وهذه فقرات من “الإصحاح الأول” من كتاب “اللاويين” قد تستجمع ما يأتي بعدها في سائر الإصحاحات في تلك التفاصيل:
جاء في مطلع الإصحاح الأول: “ودعا الرب موسى وكلَّمه من خيمة الاجتماع قائلا: كلم بني إسرائيل، وقل لهم: إذا قرّب إنسان منكم قربانا للرب من البهائم فمن البقر والغنم تقربون قرابينكم. إن كان قربانه محرقة من البقر فذكرا صحيحا يقربه إلى باب خيمة الاجتماع، يقدمه للرضا عنه أمام الرب، ويضع يده على رأس المحرقة فيرضى عليه للتكفير عنه، ويذبح العجل أمام الرب ويقرب بنو هارون الدم ويرشون الدم مستديرًا على المذبح الذي لدى باب خيمة الاجتماع، ويسلخ المحرقة ويقطعها إلى قطعها ويجعل بنو هارون الكاهن نارا على المذبح، ويرتبون حطبا على النار، ويرتب بنو هارون الكهنة القطع مع الرأس والشحم فوق الحطب الذي على النار التي على المذبح، وأما أحشاؤه وأكراعه فيغسلها بماء ويوقد الكاهن الجميع على المذبح رائحة سرور للرب… إلخ إلخ”
ومعنى القربان –البدائي– ظاهر من هذه المراسم وهذه الخصائص التي ترتبط بالكهانة وبقايا الوثنية؛ فإذا قورنت هذه المراسم بما يقابلها من مراسم التضحية الإسلامية تبين منها كل ما هنالك من الفوارق الشاسعة بين صفة القربان، ومعناه في الديانتين.
فليس القربان في الإسلام ثمنا للغفران متعلقا بوساطة من الوسطاء بين العبد وربه باسم الدين.
وليس فيه معنى من معاني التقريب للظواهر الطبيعية في مواسمها المعروفة للحصاد أو النتاج.
وآيات القرآن الكريم صريحة في بيان أغراض التقريب، ومراسمه، وتنزيه الإله عن النيل منه طعاما أو شميما يرتاح إليه -سبحانه وتعالى-، وقد جمعتها آيات من سورة الحج في قوله جل وعلا:
“وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ*لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ” (الحج: آية 36-38)
وللحديث عن الأضحية في مقارنة الأديان، نقول أن القربان الإسلامي بعيد غاية البعد من مراسم الوثنية وشعائر الكهانة، وليس على المسلم أن يقربه إلى الله ثمنا للغفران، ولكنه شكر لله وإحسان إلى الجياع والمحرومين، وبرهان على التقوى والصلاح، وهما كل ما يطلبه الإله من عبده تنزه -سبحانه وتعالى- أن يطلبه سرورا برائحته أو فرحا بمنظر الذبائح في دمائها، واستئثارا بالطيبات منها لمن يدعون الوساطة عند الشفاعة لديه.
وأمام كل صورة من تلك الصور “الجسمية الدموية” صورة تصلحها وتهذبها في شعائر الإسلام، تتحقق بها فضيلة التطور في كل رسم من مراسم العبادة فروعها وأصولها، ويتضح بها ما ذكرناه من عمل هذه السُّنة الإلهية في تهيئة الإنسان للتقدم من عقيدة إلى عقيدة تفضلها وتعلوها، ومن نشوء الدين بعد الدين تكملة له وزيادة عليه، لا نسخا ولا تشويها لجواهره وأعراضه؛ إذ ليس مما يستقيم به فهم التاريخ ولا فهم العبادات أو يفسر ظهور الإسلام بعد ظهور الأديان التي سبقته بغير هذا التفسير.