هذا المقال يناقش دور البنوك الإسلامية في التنمية الاقتصادية والبشرية، ليس فقط اعتمادا على التمويل بالمشاركة في الربح والخسارة بدلا من الفائدة، بل أيضا من خلال مفاهيم صحيحة لوظيفة رأس المال في المجتمع، وهو أمر مشتق من المفهوم الإسلامي للاستخلاف، ولقد قطعت البنوك الإسلامية مرحلة أولية في سبيل إتمام هذا الدور رغم محدودية عددها بالمقارنة بالبنوك التقليدية العاملة بالفوائد، والتي ورثنا نظامها التمويلي من العالم الغربي، ولم نستطع أن نطوره: لا لتحقيق أهداف التنمية الاقتصادية، ولا لحماية أموال المودعين، ولا لطاعة الله عز وجل فيما أمر به من الانتهاء من الربا.
أولا: دخول المؤسسة المصرفية الغربية إلى العالم الإسلامي
تعرضت الغالبية العظمى من الدول الإسلامية للاستعمار الغربي خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وخلال فترة الاستعمار التي اختلف طولها من دولة لأخرى أخذت القوانين الوضعية للقوى الاستعمارية مكانها في الدول الإسلامية إما محل الشريعة الإسلامية أو جنبا إلى جنب معها. كذلك تسللت الثقافة والمؤسسات الغربية إلى العالم الإسلامي.
وفي هذا الإطار التاريخي تمكنت المؤسسة المصرفية الغربية من الدخول إلى العالم الإسلامي، فلقد كان من ضرورات الاستغلال الاقتصادي للشعوب المستعمرة أن تتم فيها عمليات استثمار تتميز فيما تتخذ فيه من أنشطة أولية وما يلزمها من عمليات تحويل رؤوس الأموال منها أو إليها، وكذلك تحويل متحصلات الصادرات ومدفوعات الواردات وكل ذلك أصبح ممكنا وبمرونة عن طريق الشبكة المصرفية الدولية.. لذلك تم تأسيس بنوك محلية داخل المستعمرات كفروع للبنوك الأم في البلدان الاستعمارية.. وهكذا تم ربط اقتصادات المستعمرات باقتصاد الدولة الاستعمارية وببقية العالم.. ولم يكن غريبا أن تعمل فروع البنوك التي أنشئت في بلدان العالم الإسلامي بنظام الفائدة المعتاد في البنوك الأم، بل كان هذا منطقيا ومتوقعا. فلقد تم تأسيس هذه البنوك بمبادرات من قوى اقتصادية أجنبية مؤمنة بنظام الفائدة وبالآليات المصرفية المرتبطة بهذا النظام لخدمة مصالحها في المقام الأول، لذلك لم يكن واردا على الإطلاق أن تعمل هذه القوى على ابتكار نظام مصرفي جديد متحرر من الفائدة لأجل البلدان الإسلامية.
واختلفت ردود أفعال أبناء البلدان الإسلامية على دخول المؤسسة المصرفية الحديثة إلى عالمهم، فانبرى جمهور علماء المسلمين يحذرون من التعامل مع البنوك لأنها تتعامل بنظام “الفائدة التي لا تختلف في معناها عن الربا“، بينما انبرت قلة قليلة من العلماء يبررون الفائدة البسيطة، وليس المركبة في حدود 4% إلى 5% أو يبررون الاقتراض من البنوك لأغراض الإنتاج وليس الاستهلاك، أو يؤكدون على أن الفائدة محرمة: بسيطها ومركبها، كما فعل السنهوري، ولكن يسمحون بالتعامل بالفائدة البسيطة تحت ظروف الضرورة.
من جهة أخرى قام بعض علماء المسلمين بتحذير الناس من التعامل مع البنوك التي دخلت الأوطان الإسلامية لأنها مؤسسات أجنبية دخلت مع القوى الاستعمارية لتساعد في عمليات استغلال هذه الأوطان اقتصاديا وتحويل فوائضها الاقتصادية إلى الخارج وربطها بالعالم الغربي.. والحقائق التاريخية في البلدان النامية عموما وليست الإسلامية فقط تؤكد على أن المؤسسة المصرفية التي أرست دعائمها في هذه البلدان خلال فترة استعمارها قامت أساسا بخدمة المستثمرين الأجانب الذين استقروا حينذاك وعملوا على تنمية مصالحهم الاقتصادية، خاصة في مجالات النشاط الإنتاجي الأولي وعمليات التصدير والاستيراد.
ولكن مؤسسة البنوك التي تسللت إلى العالم الإسلامي ومارست ما كان يمارسه المرابون في كل زمان ومكان منذ فجر التاريخ ولكن على نحو حديث ومنظم، وجدت من يتعامل معها من هيئات حكومية ورجال أعمال، وقد نما نشاطها بشكل مطرد في القطاعات التقليدية والتجارية. كذلك فإنها وجدت من بين بعض أهل الرأي (خاصة العلمانيين) من يبرر أعمالها أو يدفع عنها شبهة الحرام تماما.
فهل حققت هذه البنوك شيئا جوهريا للبلدان الإسلامية في مجال تنميتها الاقتصادية والاجتماعية؟ أليس من الممكن بالنسبة لدورها في نشاط التمويل أن نجتهد ونبتكر بدائل لها تؤدي ما تؤديه؟ وعلى أسس شرعية ترضي خالقنا الذي نهانا عن الربا وتوعد من يخالفه بأشد العقاب فقال تعالى: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} [البقرة 279]
ثانيا: تعريف البنك الإسلام
من الشائع تعريف البنك الإسلاميISLAMIC BANK على أنه مؤسسة مصرفية لا تتعامل بالفائدة (الربا) أخذا أو عطاء؛ فالبنك الإسلامي ينبغي أن يتلقى من العملاء نقودهم دون أي التزام أو تعهد مباشر أو غير مباشر بإعطاء عائد ثابت على ودائعهم، مع ضمان رد الأصل لهم عند الطلب، وحينما يستخدم ما لديه من موارد نقدية في أنشطة استثمارية أو تجارية فإنه لا يقرض ولا يداين أحدًا مع اشتراط الفائدة، وإنما يقوم بتمويل للنشاط على أساس المشاركة فيما يتحقق من ربح، فإذا تحققت خسارة فإنه يتحملها مع أصحاب النشاط الذين قام بتمويلهم.
وبينما يضع هذا التعريف تفرقة بين البنك الإسلامي وغيره من البنوك، إلا أنه ينصب على ركن واحد وهو عدم التعامل بالفائدة، هذا الركن يعتبر شرطا ضرورياNecessary Condition لقيام البنك الإسلامي، ولكن ليس شرطا كافياSufficient فهناك تجارب وممارسات مصرفية عالمية لا تعتمد على التمويل بالدين Dept Finance الذي يرتكز على الفائدة Interest.
ولكي يكتمل تعريف البنك الإسلامي لا بد من إضافة إلى شرط تحريم الفائدة، وهي الالتزام في نواحي نشاطه ومعاملاته المختلفة بقواعد الشريعة الإسلامية، وبالتالي يلتزم بعدم الاستثمار أو تمويل أي أنشطة مخالفة للشريعة، والالتزام بمقاصد الشريعة في ابتغاء مصلحة المجتمع الإسلامي، ومن ثم العمل على توجيه ما لديه من موارد مالية إلى أفضل الاستخدامات الممكنة، وبالإضافة إلى ذلك فإن القيم الأخلاقية والقواعد الشرعية تستلزم تقديم النصيحة للعملاء والتشاور معهم لتحقيق مصالحهم الفردية في إطار المصلحة الاجتماعية.
ولا يخفى أن هذا التعريف المتكامل للبنك الإسلامي الذي يجعل من عدم التعامل بالفوائد شرطا ضروريا فقط وليس شرطا كافيا يلقي مسئولية كبيرة على هذه المؤسسة، خاصة في الظروف المعاصرة للبلدان الإسلامية التي تحتاج من جميع الأنشطة الإنتاجية والتمويلية أن تستخدم المتاح لديها من موارد استخداما كاملا، وبأكبر كفاءة ممكنة، وذلك لأجل التنمية وإزالة الفقر.
وفي هذا المقال نتمسك بالتعريف المتكامل للبنك الإسلامي من حيث إننا نتناول ما ينبغي لهذه المؤسسة أن تقوم به، وليس بالضرورة ما يتضح من التجارب المصرفية الإسلامية.. فهذه التجارب رغم أن مؤشراتها تدل على أن البنوك الإسلامية المحدودة العدد والمقيدة بقيود مختلفة قامت بدور في التنمية الاقتصادية أكثر فاعلية وأكبر أهمية من الذي قامت به البنوك العاملة بالفوائد في عدد من البلدان الإسلامية، إلا أن ما ينبغي للبنوك الإسلامية أن تقوم به لأجل التنمية ما يزال يستدعي الكثير من الجهد، ليس فقط بإزالة العقبات التي تواجهها بل أيضا بتطوير وسائلها وأدواتها في استخدام الموارد التمويلية، ومن ثم فإنه من حيث يتعرض المقال إلى دور البنوك الإسلامية في عملية التنمية فإنه بين أيضًا كيفية ذلك في إطار ما هو كائن الآن، وكيفية تغيره إلى الأحسن.
ثالثا: دور البنوك التقليدية في التنمية
قبل الاستطراد إلى بيان إمكانيات البنوك الإسلامية من حيث المساهمة في التنمية الاقتصادية، هناك عدة نقاط ينبغي ذكرها بالنسبة للبنوك التقليدية التي تعمل على أساس الربا:
1 – بالرغم من أن هذه البنوك تسهم في عمليات تمويل مشروعات إنتاجية داخل الاقتصاد؛ فإنها لا تبالي إذا كانت هذه المشروعات تقوم بإنتاج سلع وخدمات تجيزها الشريعة الإسلامية أو تحرمها بنصوص قطعية.
2 – إن البنوك التقليدية -بطبيعتها كمؤسسات تعمل على تعظيم ربحها عن طريق الاقتراض والإقراض بالفائدة- تفتقر إلى أية معايير أو آليات تمكنها من إعطاء ميزات تمويلية للمشروعات التي تسهم في التنمية بشكل أكبر من غيرها، وهي حتى بطبيعتها لا تمتلك من السياسات ما يجعلها مثلا تقدم على إعطاء ميزات تمويلية خاصة لرجال الأعمال الذين يعملون في أنشطة إنتاجية تفيد بلدهم مقارنة بهؤلاء الذين يقترضون منها لأغراض المضاربات المالية البحتة أو للأنشطة التي يديرونها خارج البلاد لمصالحهم الخاصة فقط.
وقد يؤدي استخدام القروض المصرفية في مضاربات بحتة بقصد التربح السريع إلى إفساد حالة أسواق الأوراق المالية، لكن هذا أمر لا يعنيها، وهي ليست مسئولة بطبيعتها عنه، وقد تقرض من يقومون بتهريب الأموال إلى الخارج لصالحهم، هذا أيضا لا يعنيها ما دامت لم تتلق أوامر من البنك المركزي بالامتناع عن ذلك، وما دام من يريدون الأموال هم من رجال الأعمال المشهورين والأثرياء الذين يضعون لديها ضمانات (قد تكون زائفة)، والشريعة الإسلامية تلزمنا بتحري استخدام ما لدينا من مال استخداما رشيدا، والتدقيق في ذلك، والقاعدة العامة معروفة: “ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما” [النساء -5] وليس السفيه هو الطفل الذي لم يبلغ سن الرشد أو الشخص ناقص العقل فقط، بل هو كل من يتصرف في المال الذي استخلفه الله فيه على نحو يضره أو يضر غيره من المسلمين أو على نحو غير نافع.
3 – إن البنوك التقليدية قد أسهمت مباشرة في تمويل مشروعات إنمائية ذات طابع اجتماعي في بعض البلدان في بعض الظروف (مثل مصر خلال ستينيات القرن العشرين وما بعدها) لكن ذلك لم يحدث إلا بعد إلزامها بطريق السلطات الاقتصادية وتوجيهها بتعليماته مباشرة من البنك المركزي، لكنها من بعد ذلك لم تسهم في تمويل أية مشروعات تسهم في التنمية الاجتماعية أو البشرية؛ لأن معاييرها في العمل كمؤسسة منذ نشأتها على يد الصيارفة اليهود في أواخر القرون الوسطى هي معايير اقتصادية بحتة ترتبط بآليات السوق واعتبارات الملاءة المالية لمن يطلبون التمويل.
4 – إن البنوك التقليدية حتى إن أسهمت في التنمية الاقتصادية، اعتمادا على معاييرها المرتبطة بآليات السوق والملاءة المالية؛ فإن التنمية المحققة لا تعتبر سليمة أو صحيحة من المنظور الإسلامي؛ لأنها قائمة على أساس معاملة الربا والتي حرمها الله عز وجل تحريما قطعيا {يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم} (البقرة: 276)، وما تجر إليه من خراب لأصحاب المشروعات المتعسرة لظروف خارجة عن إرادتهم: مخالفة لأمر الله عز وجل {فإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} (البقرة: 280).
رابعا: إمكانيات البنوك الإسلامية للمساهمة في التنمية
نقدم فيما يلي أربعة فروض في صالح البنوك الإسلامية وقدرتها على الإسهام الفاعل في التنمية ثم نعمل على إثبات صحتها، وهذه الفروض هي:
1 – إن المؤسسة المصرفية الإسلامية من حيث إنها تتعامل بالمشاركة أكثر قدرة على تجميع الأرصدة النقدية القابلة للاستثمار.
2 – وأكثر قدرة على توزيع المتاح من الموارد النقدية على أفضل الاستخدامات لأغراض التنمية الاقتصادية والاجتماعية .
3 – وأنها بتوزيع الموارد المالية على أسس الإنتاجية والكفاءة الاقتصادية، تسهم بشكل مباشر في توزيع الدخل القومي على نحو عادل خلال عملية التنمية هذه وقضية عدالة التنمية الاقتصادية لا تبالي بها المؤسسة المصرفية الربوية.
4 – إنها تشجع السلوك الايجابي الدافع لعملية التنمية على عكس المؤسسة المصرفية الربوية.
وفيما يلي شرح هذه الفروض:
بالنسبة للفرض الأول (رقم 1):
تجدر الإشارة إلى الأبحاث الاقتصادية التي أثبتت أن تغيرات سعر الفائدة لا تؤثر في الحجم الكلي للمدخرات، ولقد عقب البعض على نتائج هذه الأبحاث بالتفرقة بين سعر الفائدة النقدي والحقيقي، والادعاء بأن الثاني وليس الأول هو المؤثر الفاعل على حجم المدخرات، ولكن مجموعة الأبحاث الاقتصادية التي تمت لاختبار العلاقة بين تغيرات سعر الفائدة الحقيقي والادخار في البلدان النامية أثبتت أيضا أن هذه العلاقة ضعيفة جدا، أو غير معنوية INSIGNIFICANT في معظم الحالات.
أما بالنسبة للمؤسسة المصرفية الإسلامية فإن آلية المشاركة التي تعمل بها تعني أنها ليست مؤسسة وسيطة بين المدخرين كفريق مستقل، والمستثمرين كفريق آخر، كما هو الحال في البنوك التجارية، وإنما هي مؤسسة وسيطة بين أصحاب المدخرات الذين يريدون استثمار أموالهم بالمشاركة ورجال الأعمال الذين يريدون تمويلا لمشروعاتهم الاستثمارية على هذا الأساس. وبينما ينتظر المدخرون من البنوك التجارية “فائدة على أموالهم فإن المدخرين المستثمرين ينتظرون عائدا على أموالهم نتيجة استثمارها. والعائد على الاستثمار “ربح” يتحدد مقداره تبعا لنجاح المشروع الاستثماري، ومن ثم فهو دخل يرتبط ارتباطا مباشرا بالنشاط الإنتاجي، وهناك بالطبع احتمالات تحيط بهذا العائد؛ فقد يكون منخفضا وقد يكون مرتفعا، ومن المنطقي أن أي شخص يريد استثمار مدخراته سوف يجد حافزا أكبر كلما توقع ربحا أكبر، وهذا أمر لا يتحقق في إطار نظام الفائدة حيث إن هناك قيودا عديدة على ارتفاع سعر الفائدة في السوق المصرفية.. قيودا يضعها البنك المركزي لأهداف اقتصادية كلية وقيودا أخرى تمارسها البنوك نفسها لأغراض السياسات الائتمانية والمقدرة الوفائية Solvency ، ومن هنا فإن معدلات الربحية في إطار آليات المشاركة تتغير بمرونة أكبر بكثير من أسعار الفائدة في إطار آليات التمويل بالدين، ومن ثم فإنها أكثر قدرة على جذب المدخرات لأغراض الاستثمار.
وتجد هذه الفرضية تأكيدا منطقيا على سلامتها في إطار النظرية الكلاسيكية التي كانت تؤكد على أن الأرباح المحققة (أو معدلات الربح) هي التي تنمي الادخار لأجل الاستثمار. ونلاحظ أن هذه النظرية الكلاسيكية وقعت في طي الإهمال زمنًا بسبب النظرية النيوكلاسيكية التي أدخلت اعتبارات سعر الفائدة في عملية الادخار ثم النظرية الكينزية التي اعتبرت أن المدخرين يمثلون فريقا مستقلا تماما عن المستثمرين، وأن سلوكهم الادخاري لا يتأثر بتغيرات سعر الفائدة، بينما يتأثر المستثمرون بهذه التغيرات.
ولكن تجارب البلدان النامية ما تزال تؤيد وجود الشخصية المتكاملة “للمدخر/ المستثمر”، كما أن آليات المشاركة لا بد أن تعمل على تأكيد وجود هذه الشخصية التي كلما استطعنا تنميتها بطريق الممارسات الصحيحة، أمكن لنا تنمية المدخرات لأغراض الاستثمار على نحو أفضل بكثير وأكثر فاعلية مما هو قائم في إطار نظام الفائدة.
ولقد أثبتت التجارب الحديثة المصرفية في العالم الغربي أن نظم التمويل التي تعتمد على المال المخاطر أصبحت تلقى رواجا أكثر من النظم المقيدة بسعر الفائدة، كما أثبتت تجارب الأسواق المالية في بلدان العالم المختلفة أن الشركات المساهمة الناجحة بمؤشرات الربحية الموزعة تتمكن عن طريق إصدار الأسهم من جذب ما تريد من مدخرات الأفراد لتغطية احتياطاتها، وفيما كتب عن البنوك الإسلامية سنجد أن أحد وسائل جمع المدخرات لأجل الاستثمار يتمثل في إصدار شهادات إيداع يتم تداولها في أسواق الأوراق المالية، وتحصل في نهاية كل عام على نصيب مما يتحقق من أرباح نتيجة استثمار أرصدتها في أنشطة إنتاجية حقيقية؛ فهل تملك البنوك التي تعمل بالفائدة هذه المقدرة؟ وبالإضافة إلى ما سبق فقد أثبتت التجربة الفعلية للبنوك الإسلامية اهتمامها وقدرتها على تعبئة المدخرات الصغيرة جدا، بالمقارنة بالبنوك التجارية.
بالنسبة للفرض الثاني (رقم 2):
فإنه يحتاج أيضا إلى شرح لإثبات الضرورة الاقتصادية للبنك الإسلامي. فالشائع والمتوهم بين الناس أن نظام الفائدة يعمل كمصفاة تستبعد المشروعات الأقل كفاءة وتستبقي فقط تلك المشروعات الأعلى عائدا، وهي الأكثر قدرة على دفع الفائدة المطلوبة منها، ومن ثم فإنها تحصل على النصيب الأكبر من قروض البنوك، ويليها المشروعات الأقل عائدا. أما المشروعات ذات العائد المنخفض التي يقل مستوى العائد فيها عن سعر الفائدة، فإنها لن تحصل على شيء من البنوك، والجزء الأخير فقط من هذه المقولة هو الصحيح وفقا لنظرية الكفاءة الحدية للاستثمار، فحينما ينخفض معدل العائد المتوقع على مدى عمر المشروع الاستثماري عن سعر الفائدة السائد يصبح الاقتراض من البنك أمرا غير مرغوب فيه على الإطلاق أو مغامرة فاشلة من بدايتها.
لكن هل صحيح أن المشروعات “الأعلى عائدا” تحصل على أكبر قدر من التمويل المصرفي القائم على الفائدة، وتليها المشروعات الأقل عائدا؟ من الجهة النظرية فإن وجود سعر فائدة سائد في السوق المصرفية يعني أن جميع المشروعات التي تتوقع عائدا فوق هذا السعر ستكون “راغبة” في الاقتراض، وأن المشروعات التي تتوقع عوائد مرتفعة نسبيا قد تكون فعلا “أكثر رغبة في الاقتراض”؛ لأن العائد الصافي المتوقع لديها بعد دفع الفاتورة المستحقة للبنك سيكون أعلى من غيرها، ولكن الأمر ليس أبدا بهذه البساطة، سواء من الناحية النظرية أو الواقعية؛ ذلك لأن الحصول على الائتمان المصرفي لا يتحدد فقط برغبة willingness المشروعات، وإنما أيضا بالقدرة Ability على ذلك..
أما من جهة الرغبة فهناك عوامل تلعب دورها، بغض النظر عن المقارنة بين الكفاءة الحدية للاستثمار وسعر الفائدة، كما بينت الدراسات الاقتصادية، منها مدى رغبة المشروع في التوسع من عدمه، الأمر الذي يتوقف على أهداف المشروع من جهة، والمناخ الاقتصادي العام من جهة أخرى، ومنها وجود مصادر تمويلية بديلة أقل تكلفة أو أقل مخاطرة من الائتمان المصرفي، مثل التمويل الذاتي من الاحتياطيات أو التمويل بالمشاركة عن طريق سوق الأوراق المالية .. لذلك ليس من الضروري أبدا أن تكون المشروعات الأعلى عائدا أكثر رغبة في الاقتراض بالفائدة من البنوك.
أما من جهة القدرةABILITY على الحصول على الائتمان المصرفي فإن المشروعات الأعلى عائدا قد تكون أقل قدرة في الحصول على الائتمان المصرفي إذا كانت ناشئة ولم تكون لنفسها سمعة أو مركزا ماليا قويا، أو إذا كانت صغيرة والبنوك لا ترحب بإقراضها، أو إذا كان هامش المخاطرة مرتفعًا في أعمالها، والبنوك تبتعد بمواردها عن مثل هذه الأعمال قدر الإمكان حتى إن كانت ذات أهمية خاصة للاقتصاد.
والحقيقة أن البنوك التجارية في ظل نظام الفائدة تتخير عملاءها أولاً، وفقا لمعيار الملاءة المالية CREDIT WORTHINESS لأنها تريد أن تضمن استرداد قروضها بالإضافة إلى الفائدة .. هذا هو جوهر النظام الربوي منذ قديم الزمان. ومن ثم فالبنوك التي تعمل بالفائدة لا تعبأ في المقام الأول بمن يحقق العوائد الأعلى أو العوائد الأقل من استثماراته بين من يلجأ إلى الاقتراض منها..
إن البنك الإسلامي من حيث المبدأ يستطيع أن يحقق ما لم يستطعه البنك الربوي؛ لأنه ببساطة لن يعتمد على قاعدة الملاءة المالية في توزيع موارده النقدية على مشروعات تريد قروضا لتردها بالإضافة إلى فائدتها .. إن البنك الإسلامي يشارك فيما يتحقق من ربح، ومن ثم فإنه لأجل تعظيم أرباحه الحلال لا بد أن يعطي تفضيلا في عمليات التمويل للمشروعات الأعلى عائدا فالتي تليها .. ومن ثم فإن آلية المشاركة من حيث المبدأ تختلف عن آلية سعر الفائدة الجاري في السوق المصرفية في القدرة على توزيع الموارد النقدية تبعا لمعدلات العوائد المتوقعة، وتعتمد هذه النتيجة على الممارسات الكفء لعمليات المشاركة، فكلما ارتبطت هذه العمليات بالمعدلات المتوقعة للأرباح، مقدرةً على أسس سليمة مع أخذ عنصر المخاطرة في الحسبان: أصبحت أكثر كفاءة، واقترب استخدام الموارد النقدية المخصصة للاستثمار في المجتمع إلى وضع الاستخدام الأمثل لها.
إن البنك الإسلامي لن يمتنع عن تمويل مشروع ناشئ أو مشروع صغير إذا تبين من دراسته له أحقيته في التمويل على أساس إنتاجيته وكفاءة القائمين عليه، وذلك على عكس البنك الربوي.
ولا شك أن البنك الإسلامي (وفقا لتعريفه في وضعه الأمثل، وفي ظل ظروف اقتصاد إسلامي) قد يوجه من قبل البنك المركزي لتمويل مشروعات ذات عوائد منخفضة نسبيا لأسباب اجتماعية …
وقد يقال: إن في هذا انحرافًا عن هدف أفضل توزيع ممكن للموارد التمويلية المتاحة لدى جهاز مصرفي إسلامي، ولكن هذا ليس صحيحا في إطار اعتبارات الربح الاجتماعي (SOCIAL PROFIT) التي يجب أن تؤخذ في الحسبان بدلا من الربح الخاص (PRIVATE PROFIT) كلما كان ذلك ضروريا وفقا للمنهج الإسلامي في أولويات الاستثمار.
الواقع أن النظام المصرفي باعتماده على آلية سعر الفائدة لم ولن ينجح في توجيه الموارد إلى الاستخدامات الأكثر إنتاجية في البلدان النامية.
وقد يعتقد البعض أن إدارة سعر الفائدة يمكن أن تؤدي إلى نتائج أفضل بالنسبة لقدرة الجهاز المصرفي الربوي على توزيع الائتمان على أفضل الاستخدامات الممكنة. لكن على العكس، لقد أدت السياسة الاقتصادية الكلية (MACRO ECONOMICS SCHOOL) التي عمدت إلى إدارة سعر الفائدة إلى نتائج أسوأ، والسبب في ذلك أن سعر الفائدة له دائما آثار متضاربة على الاقتصاد القومي والنشاط المصرفي، ومن ثم لا يمكن تحريكه بمرونة لأعلى أو لأسفل لأغراض توزيع الائتمان المصرفي على نحو أفضل.
فالبنك المركزي كما هو معروف مقيد في تحريكه لسعر الفائدة بأوضاع الدين العام الداخلي وميزان المدفوعات، وهو الأمر الذي يضع قيدا على تغييرات سعر الفائدة لأغراض توزيع الائتمان المصرفي، وحتى بالنسبة للأغراض المصرفية نجد أن سعر الفائدة سلاح ذو حدين، فإذا تم رفعه لأجل تنمية الودائع أدى هذا من الجهة الأخرى إلى آثار غير ملائمة لمن يقترضون للاستثمار؛ فالبنوك لا بد أن تغطي بطريقة أو بأخرى فوائدها التي يستحقها المودعون بفوائدها الدائنة التي تحصل عليها من المقترضين.
وتشير الدراسات الاقتصادية إلى أن سياسات سعر الفائدة خلال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات أدت إلى مزيد من التحيز في توزيع الائتمان المصرفي لصالح كبار العملاء (القروض الكبيرة) على حساب صغارهم، وإلى تفضيل شركات القطاع العام على شركات القطاع الخاص، كذلك ذكر أحد تقارير البنك الدولي أن إدارة أسعار الفائدة مع السياسات الائتمانية الانتقائية قد تخدم أغراضا معينة، ولكنها إجمالا كانت ذات تأثير سيئ، سواء على المدخرين أو المستثمرين (المقرضين والمقترضين) .. لقد أدت هذه السياسات إلى خفض كفاءة الاستثمار، إلى خفض المدخرات إلى حد المنع في البلدان ذات معدلات التضخم المرتفعة وإلى إساءة استخدام الموارد التمويلية.
إن آليات المشاركة لا تواجه كل هذه الصعوبات، ولا تؤدي إلى كل هذه المشكلات، ولكنها تستلزم شرطا أساسيا وهو أن يعود الناس إلى الحق الذي بينه الإسلام، ولا يطالبوا بعوائد عن رؤوس أموالهم بينما يرفضون تحمل مخاطرة استخدامها في النشاط الإنتاجي. إن العملاء الذين يودعون أموالهم لأجل الاستثمار بالمشاركة يستطيعون أن يحصلوا على عائد أكبر بالاتفاق مع من يقومون بتنفيذ المشروعات الاستثمارية من خلال البنك الإسلامي فليس هناك تناقضات مشابهة لنظام الفائدة، أما حينما تكون معدلات الأرباح المتوقعة منخفضة من بعض المشروعات، فإن أصحاب الودائع الاستثمارية يمكن أن يمتنعوا عن تمويل مثل هذه المشروعات، أو يقبلوا إن لم يكن لديهم بدائل أفضل من هذه المعدلات في أنشطة أخرى.
وهكذا فإن هناك تلقائية ودرجة عالية من المرونة في توزيع الموارد التمويلية من خلال المصرفية الإسلامية، وذلك بسبب الاعتماد على آليات المشاركة.
إن واقع البلدان الإسلامية كبلدان نامية يشير إلى أن اختلالات هيكلية شائعة في اقتصاداتها، فالموارد الاقتصادية موزعة بين الأنشطة الاقتصادية على نحو بعيد عن الواقع الأمثل بسبب الاختلالات الشائعة في آليات السوق والأسعار، وبسبب حصول كبار رجال الأعمال والأثرياء على معظم الموارد التمويلية لدى البنوك، وبسبب أنماط الاستهلاك غير الرشيدة ولا نتوقع أبدا لهذه الاختلالات أن تختفي من خلال أنظمة التمويل القائمة على نظام الفائدة. أما نظام التمويل بالمشاركة فيمكن أن يؤدي دورا مهما في هذا الصدد إذا أتيحت له الفرصة كاملة.
بالنسبة للفرض الثالث (رقم 3):
فإنه لا يخفى على أحد الأهمية المتزايدة التي أصبح التمويل المصرفي يحتلها من بين أنواع التمويل المختلفة، كما لا يخفى على أحد أن من يحصل على التمويل يحصل أيضا على فرصة لزيادة دخله، والعكس صحيح.. من هنا نستطيع تقدير التأثير الهائل الذي يمكن أن يحدثه التوزيع غير العادل للتمويل المصرفي على هيكل توزيع الدخل القومي في أي مجتمع. ولقد تبين من تجارب التمويل المصرفي أن كبار العملاء -سواء كانوا أثرياء أو شركات كبيرة- هم الذين يحصلون على النسبة العظمى من التمويل المصرفي، وهكذا تتاح لهم فرصة الحصول على الشريحة الكبرى من الدخل، فيزدادون ثراء وحجما في المجتمع فتزداد قدراتهم على الحصول على التمويل والدخل، وهكذا لو قلنا: إن كبار العملاء هم الأكثر كفاءة دائما لما كان هناك ضرر من حصولهم على النسبة الأكبر من الموارد التمويلية والشريحة الأكبر من الدخل، ولكن هذا القول لا يؤيده واقع ولا منطق نظري، وقد أشرنا فيما سبق إلى أن البنوك التي تعتمد على نظام الفائدة لا تقرض بالضرورة المشروعات الأكثر كفاءة والأعلى عائدا.
من الجهة الأخرى فإن نظام التمويل بالمشاركة كما ينبغي أن يمارس من خلال نظام مصرفي إسلامي لا يعتمد على الملاءة المالية لأصحاب المشروعات الاستثمارية، وإن جاز أخذ هذه في الاعتبار، وإنما يعتمد أساسا على جدوى المشروع الاقتصادي والثقة في جدية صاحبه وخبرته.
من هنا فإن المصرفية الإسلامية تفتح بابا جديدا للخروج من مأزق توزيع الموارد التمويلية المتاحة على أصحاب الملاءة المالية فقط، ومن ثم فهي تفتح الطريق أمام توزيع أفضل للدخل القومي، وهذا أمر في غاية الأهمية لعدالة التنمية الاقتصادية. نعم إن التنمية الاقتصادية قد تتحقق في بعض الحالات حينما تقاس بمعدلات نمو الدخل القومي أو بمتوسط الدخل للفرد. لكن حينما نأتي إلى التوزيع الفعلي للدخل القومي نجد أن متوسط الدخل الفردي لفئة كبيرة من السكان لم يرتفع، وربما قد انخفض وذلك بسبب سوء توزيع الدخل.
أما الفرض الرابع (رقم 4):
فقد ثبت أن نظام الفائدة يلعب دورا سيئا في تشجيع السلوك السلبي، ومن ثم في توزيع الدخل على نحو غير عادل بين الكسالى أو النائمين أو السلبيين من جهة، وأولئك الذين يعملون ويواجهون مخاطر ومتاعب النشاط الإنتاجي. لقد تسبب نظام الفائدة منذ إقراره بصفة قانونية في نهاية العصور الوسطى في أوربا في نمو أعداد تلك الفئة الخاملة من الناس التي تعيش على اكتساب دخل من تأجير نقودها دون أن تتكلف مشقة القيام بأعمال منتجة، وهكذا يتم توزيع دخل الأعمال الإنتاجية بشكل بعيد عن العدالة والكفاءة بين من يملكون فوائض نقدية، سواء من مدخرات أو من ثروات مورثة أو مكتسبة بطرق قانونية أو غير قانونية، ومن يعملون وينتجون ويسهمون في زيادة الثروات الحقيقية للمجتمع. هذا ما يرفضه الإسلام، وهذا ما يرفضه النظام المصرفي الإسلامي القائم على المشاركة.
إن البنك الإسلامي ضرورة ماسة لتصحيح الأوضاع، وقيام البنوك الإسلامية واعتمادها على المشاركة لا يعني فقط إسهاما ايجابيا في تحقيق عدالة توزيع الدخل بين من يملكون فوائض نقدية قابلة للاستثمار ومن يستثمرونها، وإنما أيضا في تنمية السلوك الإيجابي للأفراد الذي يلزم حتما لتنمية اقتصادية صحيحة؛ ذلك لأن المشاركة حينما تؤخذ بحقها تعني أن اثنين يفكران معا في القرار ويتحملان معا مسئوليته، وليس واحدا فقط هو الذي يفكر ويتحمل المسئولية. أو بعبارة أخرى إن آليات المشاركة تدفع الجميع للمساهمة في النشاط الاقتصادي، وذلك مقابل آليات النظام الربوي الذي يقبل الغياب الكامل أو النوم لنسبة من أبناء المجتمع، لا لشيء إلا لأنهم ادخروا أموالا أو ورثوا ثروة من الغير أو ربما اكتسبوها بطرق غير شرعية .. وفي أحد التقارير التي صدرت منذ أربعين عاما عن لجنة ملكية في بريطانيا ذكر أن زيادة نسبة عدد الشركاء النائمين sleeping partners يمثل أحد العوامل الخطيرة في الحد من النمو الاقتصادي.
خامسا: آليات التمويل المصرفي الإسلامي وضرورة تطويرها
أظهرت الممارسات العملية للبنوك الإسلامية كما تدل الدراسات والأبحاث التي اهتمت بها، سواء من المدافعين أو العارضين لها أن هذه البنوك تمكنت من اختراق أسوار النشاط المصرفي التقليدي، واستطاعت بآلياتها وأدواتها المستحدثة أن تدخل في دائرة هذا النشاط فئات من المدخرين وأصحاب المشروعات لم يكن لها نصيب فيه قبل ذلك، وهذه هي أولا فئة المدخرين الذين كانوا يرفضون التعامل بالفوائد، ولا يجدون مبررات لفتح حسابات بالبنوك التقليدية لذلك، خاصة إذا كانت مدخراتهم هذه متوسطة الحجم أو صغيرة.. لقد شجع قيام البنوك الإسلامية هذه الفئة التي لم تكن البنوك التقليدية تظن أن لها أهمية أو توليها اهتمامًا. ولا يستطيع أحد أن يماري في هذه الحقيقة أمام النمو المتزايد في الموارد المالية التي تتلقاها البنوك الإسلامية من هذه الفئة.
من جهة أخرى أتاحت البنوك الإسلامية تمويلا لم يكن متاحا من قبل لأصحاب المشروعات الصغيرة والقزمية والذين كانوا دائما (وفي كل العالم) يعتمدون على مدخراتهم الخاصة والعائلية، ومدخرات الأقارب والجيران، فإذا تعرضوا لمشكلة تمويلية اضطروا إلى سوق الائتمان غير الرسمي أو سوق الربا الفاحش والذي تصفه الدراسات المتخصصة أنه مدار من قبل حيتان القروض؛ حيث ترتفع أسعار الفائدة فيه أحيانا إلى 1000% في السنة أو أكثر في بعض الحالات، ولا يستطيع أحد أن يماري في هذه الحقيقية حتى إن ادعى بأن البنوك الإسلامية ليست بعدُ على المستوى والكفاءة المطلوبة، ولعل أبرز وأنجح التجارب في التمويل الصغير هي تجربة بنك فيصل فرع أم درمان، وبنك الجيرمين برغم أن هناك تجارب عديدة ناجحة في إندونيسيا وبنجلاديش وماليزيا ومصر والأردن.
إلا أن هناك طريقا ما يزال على البنوك الإسلامية أن تقطعه في سبيل إتمام أهدافها على النحو الذي يراه المنظرون لها، ونجاح هذه البنوك في خدمة التنمية لن يتحقق إلا بشروط ثلاثة: بتطوير مستمر لآلياتها وأدواتها التمويلية بما يزيل عنها أي لبس من حيث هويتها الإسلامية وارتفاع كفاءتها من جهة تعبئة واستخدام مواردها التمويلية بما ينعكس على مستويات ومعدلات أرباحها المحققة وزيادة إسهامها في عملية التنمية ببعديها الاقتصادي والبشري.
ونتناول فيما يلي أهم الأدوات التمويلية التي اعتمدت عليها البنوك الإسلامية وكيفية تطويرها حتى يمكن لها خدمة أهداف التنمية بشكل أكبر، كما نشير أيضا إلى بعض أدوات التمويل الإسلامي التي ظلت إلى الآن مهملة رغم ما يمكن أن تقوم به من دور هائل في عمليات التنمية، وذلك على سبيل المثال وليس الحصر:
1 – المرابحة:
اعتمدت البنوك الإسلامية على صيغة المرابحة للآمر بالشراء في معظم تمويلها لأصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة منذ قيامها إلى الآن، وقد انتقدت هذه الصيغة من حيث إنها تبدو من خلال تطبيقها أشبه بالتمويل القائم على الفائدة، ولا نستطيع أن نقول إن بيع المرابحة للآمر بالشراء يتساوى مع الإقراض بفائدة؛ لأن آلية العملية المصرفية مختلفة؛ فالبنك يقوم بتمويل شراء سلعة يشتريها العميل، وبالرغم من أنه يضيف هامشا من الربح على قيمة السلعة فإن هذا ما يزال مختلفا عن الفائدة؛ حيث من اللازم أن يحدد بالتفاوض مع العميل ضمن عقد البيع، كما لا تجري مضاعفاته بأي حال إذا تأخر العميل عن سداد دينه في وقته، على خلاف ما يجري في التمويل بالفوائد التي تتضاعف مع كل تأخير في سدادها. لكننا لا نستطيع أيضا أن ندافع عن الممارسات الخاطئة في التطبيق، ولا نستطيع أن نتصور أيضا أن الممارسات الخاطئة كانت عشوائية محضة أو بسبب جهل الأجهزة الإدارية فقط، هناك فجوة نظرية في هذه الصيغة المستحدثة التي اشتقت من “المرابحة” التي هي أصلا من أنواع البيع الحاضر الذي يعتمد على الأمانة، والتي وضع لها الفقهاء منذ قرون شروطًا لا تجعل أي شك يتسرب إلى صحتها.
ومن الجهة العملية الخاصة بالتنمية نجد أن هذه الصيغة بالرغم مما عليها من مآخذ قد خدمت آلافًا من أصحاب المشروعات الصغرى والصغيرة الذين استطاعوا عن طريقها الحصول على تمويل يرتبط بنشاطهم الإنتاجي مباشرة، وبشروط هي أفضل مئات المرات، بل لا تقارن بشروط التمويل في سوق الائتمان غير الرسمي.. وهؤلاء الذين أشرنا إليهم من قبل، والذين لم يتمكنوا -كما تسرد تقارير رسمية- من الحصول على أكثر من 1% من احتياجاتهم التمويلية من البنوك التقليدية فيما عدا حالات استثنائية جدا كالهند مثلا التي تولي حكومتها اهتماما فائقا بالمشروعات الصغيرة والصغرى، وقد يقول البعض: إن البنوك التقليدية قد دخلت مؤخرا ميدان التمويل الصغير، ولكن دعنا نسأل: وما هو تعريف المشروعات الصغيرة لدى البنوك؟ وسوف نكتشف أن ما تصنفه البنوك التقليدية على أنه مشروعات صغيرة تعتبر كبيرة أو ضخمة بالنسبة لتلك المشروعات التي تتعامل معها البنوك الإسلامية.
لا نريد أن ندافع مهما كان عن صيغة سمحت بأخطاء في التطبيق أو بصيغة سمحت للمهاجمين للبنوك الإسلامية أن يقولوا: إنها إسلاربوية أو إنها تخفي صيغة الفائدة وراء شعار المشاركة لتتلقى مدخرات المسلمين الذين يخافون عذاب الآخرة، والرسول ﷺ في أحاديثه ينصحنا بأن ندع ما يريب إلا ما لا يريب، وأن نتقي الشبهات “فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه” كما في الصحيح.
ولأجل تصحيح المسار لا بد أن نتبين أمرين: “أولهما من الناحية الفقهية، والثاني من الناحية التطبيقية. أما الأول فترتب على خلط بيع المرابحة وهو أصلا بيع حاضر بالبيع الآجل في صيغة مرابحة للآمر بالشراء، علما بأن الأخير له شروطه الدقيقة وإلا اختلط بالربا. أما الأمر الثاني المرتبط بالتطبيق فقد ترتب على قيام البنك الإسلامي إما بتوكيل العميل بشراء السلعة الممولة بالمرابحة بنفسه (وكان هذا من الأخطاء الجسيمة التي حدثت في بداية التجربة، أو تكليف إدارة المشتريات بجلب السلعة مع وضع شروط تفسد عقد البيع من الجهة الشرعية. كل هذا لا بد أن ينتهي مع الحفاظ على جوهر صيغة المرابحة التي ساعدت كثيرا في تمويل صغار المشروعات، ومن ثم أسهمت في تنمية قطاع مهم في الاقتصاد.
والذي نقترحه هنا هو أن يتخلى البنك الإسلامي عن القيام بعمليات الشراء للسلع المطلوب تمويلها بصيغة المرابحة، ووضع هذه السلع في مخازنه ثم تسليمها للعميل. لكن الإجراءات الحالية تقضي بأن يكتب العميل عقدا مسبقا يلتزم فيه بالشراء، وبدلا من ذلك نرى أن يتفق البنك مع عدد من الشركات التجارية الكبرى التي تعمل في مجال تسويق منتجات متخصصة أو متنوعة (سواء داخل البلد أو خارجه) على أن يقوم بتحويل طلبات عملائه الراغبين في الشراء بالمرابحة إليها.
فحينما يطلب أحد العملاء شراء سلعة معينة بالمرابحة ترشده الإدارة المختصة في البنك إلى المعروضات أو القوائم السلعية والمواصفات والأسعار لدى الشركات التجارية التي جرى معها الاتفاق، ويلاحظ أن بيع المرابحة سوف يصبح متاحا للعملاء فقط في إطار القوائم السلعية التي تعرضها هذه الشركات؛ فإن وجد العميل طلبه لدى شركة معينة فإنه يطلب من البنك شراءها لصالحه، ولا يعتبر البيع نهائيا مع ذلك حتى يتسلمها ويتأكد من موافقتها للمواصفات، وهذا على خلاف ما هو قائم الآن فيما يطلق عليه إجراءات التعاقد الملزم بالشراء مع العميل مقدما.
ومن المتوقع عند قيام البنك بالاتفاق مع بعض الشركات التجارية على النحو المذكور أن يحصل على مزايا خاصة من جهة السعر، وهذا أمر متوقع، خاصة في مناخ المنافسة السائدة بين الشركات التجارية الكبرى التي تعمل على تسويق وتوزيع سلع متنوعة ومتخصصة على مستوى العالم، كما يمكن طبعا أن يشترط البنك أسعارا خاصة من هذه الشركات مقابل قيامه بدور في ترويج بضائعها، وحيث إن المرابحة من بيوع “الأمانة” فإن العميل سوف يطلع على السعر الخاص الذي تبيع به الشركة للبنك، وهو منخفض عن سعرها في السوق، ويجري الاتفاق بين العميل والبنك على الربح الذي يشترطه الأخير على سعره، وهكذا يتاح للبنك أن يحقق لنفسه ربحًا مناسبا من العملية، بينما يحصل العميل على السلعة بعلاوة مقبولة وصغيرة فوق السعر الجاري في السوق، وليس كما هو الحال الآن في الممارسات التي تقترب فيها علاوة السعرMark UP- أو هامش الربحPROFIT MARGIN – في عمليات المرابحة إلى ما يقرب من سعر الفائدة السائد في البنوك التقليدية مما يثير الشبهات.
ويلاحظ أنه كلما صار البنك أكثر نجاحا في الحصول على أسعار مميزة من خلال عمليات الوساطة استطاع خفض الفرق بين سعر المرابحة الآجلة وسعر السوق، وربما تصاغر هذا الفرق إلى الصفر أحيانا، ويجري بعد قيام إدارة المرابحة في البنك بطلب السلعة من الشركة وتحديد وقت ومكان تسليمها إلى العميل. فإذا تلقى العميل السلعة ووجد مواصفاتها وحالتها موافقة لطلبه تسلمها وتم البيع نهائيا، فإذا لم يجد ذلك ردت إلى الشركة الأصلية دون أي إزعاج للبنك، وتلقى بديلا لها وهذا مما تتيحه التسهيلات التجارية الحديثة، وهو ما لا يستطيع البنك القيام به إذا أخذ على نفسه مهمة شراء سلع من شركات ليس بينه وبينها اتفاق وقام بخزن هذه السلع في مخازنه.
2 – الإجارة المنتهية بالتمليك والمشاركة المتناقصة:
يأتي بعد عمليات المرابحة في الأهمية من حيث توظيف الموارد المالية عمليات الإجارة والمشاركة المتناقصة، ولهما أيضا دور في تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي أصبحت محل اهتمام عالمي لدورها المتوقع في التنمية بشقيها الاقتصادي والبشري.
قد يكون المشروع صغيرا أو متوسطا عاملا في إصلاح أرض للزراعة أو مشتغلا بإنتاج لحوم الحيوان أو الدواجن أو قائما على مزرعة للأسماك أو مشتغلا في عمليات نقل أو صناعة منظفات كيماوية أو قطع سيارات… إلخ هذه هي حالات من كثير من تلك التي ترد على البنوك الإسلامية في عدد من البلدان الإسلامية في آسيا وأفريقيا وفي الوطن العربي.
وفي حالة المشروعات الكبيرة أو المتوسطة المائلة للحجم الكبير يجد أصحابها أن من الأفضل لهم إعداد رؤوس الأموال اللازمة لمشروعاتهم الإنتاجية عن طريق البنوك أو طرح أوراق مالية (أسهم وسندات) في السوق، كما أن هؤلاء في حالة نجاحهم كما تقرر الدراسات التطبيقية يتجهون إلى تمويل التوسع في الحجم عن طريق إعادة استثمار الأرباح مع بعض القروض التي يحصلون عليها عادة بشروط ميسرة نسبيا من البنوك كلما زادت مقدرتهم على التمويل الذاتي.
أما في حالة المشروعات الصغيرة أو المتوسطة المائلة للصغر فإن الحصول على تمويل كاف لرأس المال الثابت يمثل مشكلة عند نشأتها أو عند شروعها في زيادة حجم أعمالها فهذه المشروعات لا تستطيع الالتجاء إلى أسواق الأوراق المالية مثل المشروعات الكبيرة، كما لا تستطيع أن تأخذ حاجاتها التمويلية بالكامل من الجهاز المصرفي التقليدي بالإضافة إلى أن ما تأخذه من هذا يتم بشروط مشددة، لذلك فإن هذه المشروعات إما عاجزة عن تمويل رأسمالها الثابت بالكامل أو واقعة في شباك مديونية للجهاز المصرفي قد لا تستطيع الوفاء بها، خاصة إذا كانت فترة تفريخ الاستثمار طويلة نسبيا أو إذا تصادف وتغيرت الأسواق من حالة رواج إلى كساد، ومن هنا نستطيع تقدير أهمية عمليات التأجير أو عمليات المشاركة المتناقصة التي تقوم بها البنوك الإسلامية.
ويؤخذ على عمليات الإجارة التي تقوم بها البنوك الإسلامية والمسماة بالإجارة المنتهية بالتمليك أنها تتشابه كثيرا مع عمليات البيع أو الشراء التأجيري Hire Purchase التي تقوم بها الشركات في كل العالم بتنسيق مع البنوك وبيوت التمويل وشركات التأمين على أساس نظام الفائدة، ومن جهة أخرى يؤخذ على عقد الإجارة المنتهية بالتمليك من الجهة الشرعية خلطه بين شروط الإجارة وحقوق التملك.
ونقترح هنا أن يتم توسع البنوك الإسلامية في نشاط الإجارة، ولكن اعتمادا على أساليب جديدة يمكن التأكد من جوازها شرعا وكفاءتها اقتصاديا، مع ملاءمتها للواقع العملي. والمقترح هذا هو قيام البنك بتكوين شركات متخصصة لممارسة نشاط الإجارة، بمعنى أن تكون شركات مالكة لأراض زراعية أو عقارات سكنية أو محلات تجارية ومكاتب للأعمال أو مخازن أو شركات مالكة لمعدات وآلات (مثال جرارات زراعية أو معدات حفر آبار أو معدات وتجهيزات للرفع والنقل … إلخ) ويلاحظ أن اقتراح تكوين هذه الشركات إنما يأتي أساسا لعدم مناسبة احتفاظ البنك أو قيامه بالاستثمار بشكل مباشر في عقارات أو أراض أو آلات ومعدات… إلخ. إلا في حدود نسبة صغيرة ومحدودة من موارده التمويلية المتاحة، وذلك لطبيعته كمؤسسة مصرفية، هذا بالإضافة إلى أن هذه الشركات سوف تتمكن من التوسع بمرونة كافية في عمليات الإجارة، كلما كانت هذه مربحة، وذلك على العكس من وضع البنك إذا ما قام بممارسة هذا النشاط مباشرة، ويقترح أن يقوم البنك بطرح صكوك إجارة وذلك لتمويل الشركات المزمع إنشاؤها، على أن يكون للبنك حصة في هذه الصكوك في حدود ما تسمح به اللوائح أو القوانين المنظمة للأعمال المصرفية عموما، وتتميز عمليات الإجارة كما هو معروف بأنها تدر دخلا دوريا منتظما، وعلى درجة عالية من الضمان، ولذلك فإنه من الممكن للبنك أن يجتذب من خلال بيع صكوك الإجارة جمهور العملاء الذين يريدون دخلا دوريا منتظما وشبه مضمون، وهو دخل حلال لا شك في ذلك، ويلاحظ أن اختيار مجالات الإجارة الأكثر تميزا من حيث معدلات العائد يحتاج إلى دراسات جدوى تسبق تكوين الشركات، وأنه كلما تم هذا الاختيار بدقة وكلما أديرت شركات الإجارة بكفاءة (وهو أمر يمكن للبنك المشاركة فيه اعتمادا على حصته في الملكية، وتوكيل العملاء أصحاب الصكوك له) أمكن تحقيق نجاح أكبر.
وثمة تطوير آخر ضروري ينبغي لعمليات المشاركة المتناقصة، وهذه وإن اختلفت في مضمونها مع عمليات الإجارة، فإنها تتشابه كثيرا معها من جهة الممارسات العملية للبنوك الإسلامية.
والحقيقة أن هذه العمليات يمكن أن تُسهم كثيرا في تنمية مشروعات متوسطة وكبيرة أيضا إذا ما تم إعادة تنظيمها على أسس أكثر واقعية، وفي إطار مبادئ التمويل الإسلامي. والتطوير المقترح هنا هو قيام البنك الإسلامي بتنفيذ المشاركة المتناقصة عن طريق المساهمات فيقدم البنك بعد دراسة مشروع مقدم إليه، وفي إطار الالتزام بالشروط الإسلامية الخاصة بالإنتاج والمعاملات… إلخ، بتقسيم رأس ماله المطلوب إلى أسهم يقوم أصحاب المشروع بشراء نسبة لا تقل عن 20%، ويسهم البنك بنسبة صغيرة (قد تتراوح بين 2% و5% مثلا وذلك لأغراض السيولة الخاصة بالبنك)، ويعرض الباقي من الأسهم للبيع لعملائه أصحاب الحسابات الاستثمارية ويكون إصدار هذه الأسهم على أساس شروط المشاركة المتناقصة بما يعني أن أصحاب المشروع سيقومون بمشاركة البنك وبقية المساهمين في الأرباح المحققة بما يجري الاتفاق عليه، كما يقومون بإعادة شراء 80% من الأسهم لدى شركائهم على مدى زمني يتفق عليه (مثلا من خمس إلى عشر سنوات) في تواريخ محددة مستقبلة، وبنظام الاقتراع، ولا شك أن نجاح مثل هذه العمليات يمكن أن يسهم بفعالية في تمويل المشروعات الناشئة دون إرهاقها بأعباء المديونية وفوائدها التي قد تصبح باهظة وتخل بتوازنها، ولكن لا بد من توافر معلومات كاملة تتاح للعملاء المساهمين عن طريق البنك عن هذه الشركات قبل قيامها، ولا بد من مشاركتهم في مناقشة أعمالها بعد ذلك في جلسات الجمعية العمومية، وهذا أمر في صميم جوهر نظام المشاركة الإسلامي خشية حدوث انحرافات في الإدارة (وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض) (24 سورة ص) كذلك ينبغي إعادة تقييم الأسهم عند استرداد المساهمين قيمتها حسب أسعارها السوقية، وليس الاسمية؛ فالسهم حصة شائعة في الملكية وأصول الشركة خاضعة للزيادة أو النقص في القيمة السوقية تبعا لحالة الأرباح المحققة.
3 – عقد الاستصناع:
هو أحد العقود الجائزة شرعا، والتي يمكن استخدامها في الأعمال المصرفية الإسلامية، ويمكن عن طريقه المساهمة بشكل فاعل في تنمية المشروعات الصغيرة والصغرى التي تعمل في مجال الصناعة، وهذا العقد لم يستخدم إلى الآن على أي نحو يذكر رغم أهميته البالغة في جميع البلدان التي ما تزال المشروعات الحرفية الصغيرة والصغرى تضم نسبة كبيرة من القوة العاملة خارج النشاط الأولي، ومعنى الاستصناع عموما أن يطلب شخص من صانع أن يصنع له سلعة بكمية ومواصفات محددة، بمواد من عنده، وذلك نظير ثمن معين وموعد للتسليم يتفقان عليه. وجمهور المذاهب على أنه عقد بيع، إلا أنه ذو طبيعة خاصة، ويجوز فيه تعجيل الثمن عند العقد أو تأجيله، ويمكن استنادا إلى عقد الاستصناع أن يقوم البنك بدور الوساطة بين شركة كبرى خاصة أو عامة أو هيئة من الهيئات الحكومية تطلب تسليم سلع معينة محددة المواصفات بمقادير معينة في تاريخ آجل وبعض أصحاب الأعمال الصناعية فيقوم بتمويل الطرف الأخير الذي يتعهد بتسليم السلع المتعاقد عليها كما هو مطلوب في تاريخ معين، ويقوم البنك بتسليمها إلى الجهة الطالبة مقابل الثمن المتفق عليه، وتتيح هذه الوساطة المصرفية فرصة للربح طالما أن تكلفة الاستصناع، وهي الثمن الذي يتفق عليه البنك مع الصانع تقل عن الثمن الذي يحصل عليه البنك عند تسليم البضاعة للجهة الطالبة. وتمثل تكلفة الاستصناع نوع التمويل الذي يقوم به البنك من أموال أصحاب الأرصدة الاستثمارية أو من أمواله.
ومن الممكن تحقيق أرباح مناسبة من عمليات الاستصناع ما دامت الإدارة تحركت بحرص في عمليات الوساطة بعد دراسات وافية عن إمكانيات الصانع والتزامه الدقيق بالعقد وشروطه من ناحية، والمقدرة الوفائية للجهة الطالبة (المشتري النهائي) من ناحية أخرى، وفي مجال الحديث عن دور البنك الإسلامي في عملية التنمية نجد أن عمليات الاستصناع ذات أهمية خاصة بالنسبة لأصحاب الأعمال الصناعية الصغيرة، فالشركات الصناعية الكبيرة أو المتوسطة قادرة على أن تتقدم مباشرة للجهات التي تطلب تصنيع سلع بمواصفات معينة وتقوم بتمويل عملياتها دون صعوبات. أما أصحاب الأعمال الصغيرة فهم يواجهون عادة مشكلات حادة في الحصول على التمويل اللازم لأعمالهم من مصادرهم الذاتية أو من المصادر التمويلية التقليدية، وعلى رأسها البنوك التجارية، لذلك فإن دخول البنك الإسلامي ممولا لصغار الصناع ووسيطا بينهم وبين الشركات الكبرى والمؤسسات العامة التي تطلب تصنيع سلع بمواصفات معينة يمكن أن يهيئ لهم فرصة غير عادية للنمو، بينما يحقق له أيضا إيرادات مناسبة من وراء ذلك النشاط. ويلاحظ أن دور البنك الإسلامي ما يزال محدودا للغاية إلى الآن في هذا المجال.
4 – بيع السلم:
عقد السلم أو السلَف على عكس البيع الآجل، حيث يعني دفع ثمن السلعة عاجلا للبائع وتسلم المشتري لها منه آجلا، ولا خلاف بين الفقهاء على جواز بيع السلم على أن تحدد مواصفات السلعة المسلم فيها بدقة – أو كما هو معروف في السوق – ويكون كل من السعر والأجل معلوما للطرفين، وحينما يقوم البنك بعمليات بيع السلم فإننا نرى مرة أخرى على سبيل التأكيد أن يكون وسيطا فيه لا أكثر؛ لأنه ليس تاجرا يشتري لغرض التجارة في حد ذاتها، لذلك فإن بيع السلم سيكون مصدر إيرادات للبنك إذا أمكن القيام بالتعاقد مع بعض المنتجين (البائعين) على شراء بضاعة منهم بمواصفات محددة، وبثمن معين، وبشرط تسلمها في تاريخ أجل محدد، والتعاقد في الوقت نفسه على بيع هذه البضاعة في التاريخ المحدد سلفا بثمن أعلى من ثمن الشراء (السلم الموازي)، وتسهل هذه العملية كلما كانت هناك أسواق منظمة للتعاقد والتسليم الآجل، ويعتبر ثمن الشراء الذي يدفعه البنك بمثابة تمويل للمنتجين (البائعين) الذين يتعهدون بتسليم بضاعة آجلا.
وللتأكيد، فإن بيع السلم يمكن أن يحتل – كصيغة لاستخدام الموارد التمويلية للبنك – مكانة أهم من بيع المرابحة الآجلة إذا أديرت عملياته بكفاءة، ويلاحظ أن تعظيم ربح البنك من علميات السلم سوف يتحقق كلما زاد الفرق بين ثمن الشراء من المنتجين وثمن البيع للبضاعة في سوق العقود الآجلة، وكلما تضاءل الفرق الزمني بين تاريخ تسلم البضاعة من المنتج وتاريخ تسليمها للمشترى النهائي. أما بالنسبة لدرجة المخاطرة Risk في بيع السلم فإنها تتعاظم كلما قلت الثقة في مقدرة البائع بالسلم على تسليم البضاعة بالمواصفات المطلوبة أو في التاريخ المحدد، أو كلما تعذر على البنك إجراء التغطية اللازمة في سوق العقود الآجلة للبضاعة المسلم فيها، أو تعذر عليه التنبؤ باتجاهات الأسعار المستقبلية لهذه البضاعة، ولذلك فإن الإدارة الناجحة لعمليات السلم من قبل البنك تستدعي تقليل هذه المخاطرة إلى حدها الأدنى الممكن، ونرى أنه من الأفضل أن يستعين البنك في عمليات السلم بخبراء أو وكلاء أو شركات متخصصة في عمليات البيع والتسليم الآجل.
كما تقترح لأجل أهداف التنمية الاقتصادية أن يعتمد البنك الإسلامي على عمليات بيع السلم بشكل خاص في مجال التجارة الخارجية (التصدير والاستيراد) فمن الممكن عن طريق وكلاء متخصصين أو شركات أن يجري الاتفاق مع أعداد كبيرة من منتجي سلعة تصديرية معينة أن يتم شراء إنتاجهم في تاريخ لاحق محدد، وبمواصفات وكميات محددة بطرق السلم، على أن يتم إجراء عمليات بيع سلم لمستوردي هذه السلعة في خارج البلاد في نفس التاريخ .. وهذه العمليات يمكن أن تدر أرباحا كبيرة للبنك إذا تمت بالكفاءة المطلوبة، وفي نفس الوقت تسهم في عملية تنمية الصادرات التي هي جزء لا يتجزأ من عملية التنمية، ويمكن أيضا أن تتم عمليات استيراد بطريق السلم لسلع ومستلزمات إنتاجية لصالح مشروعات داخل البلاد.
5 – عقد المضاربة:
هذا العقد من أكثر العقود أهمية للنشاط الاقتصادي الذي يعتمد على المشاركة في الربح والخسارة، كما كان في الماضي أيضا. فعن طريق هذا العقد يمكن تمويل مشروعات إنتاجية على مستويات حجم مختلفة، ولقد اعتمدت البنوك الإسلامية منذ قيامها إلى الآن على هذا العقد من جهة تعبئة الأموال القابلة للاستثمار، وذلك بعد أن تم تطويره إلى ما يسمى بالمضاربة المختلطة أو الجماعية حتى يتلاءم مع الأعداد الكبيرة من العملاء، كذلك دعت ظروف النشاط المصرفي الإسلامي في ظروف التنافس مع النشاط المصرفي التقليدي، وتحت مظلة القواعد المصرفية السائدة إلى إتاحة قبول أموال من العملاء على مدار العام دون تحديد لأوقات بعينها تبدأ فيها عمليات مضاربة معينة أو تنتهي فيها، ومن ثم فقد أصبح التلقي للأموال على أساس المضاربة مستمرا دون توقف أو دون تحديد لبداية أو نهاية، وهكذا يمكن تسمية المضاربة التي تمارسها البنوك الإسلامية بالمضاربة المختلطة المستمرة، وهي صيغة مستحدثة تماما لم تعرف في القديم، ولكنها تظل مقبولة بشروط حتى لا تنحرف عما تقرره الشريعة الإسلامية.
وبينما يرتبط التمويل التقليدي من البنوك بقدرة الأفراد أو المشروعات على الوفاء بالدين وفوائده فإن التمويل بالمضاربة يرتبط مباشرة بالقدرة التنظيمية على ممارسة نشاط إنتاجي والنجاح فيه؛ فالبنك حينما يقبل مبدأ المشاركة في الربح أو الخسارة داخل الإطار الإسلامي فإنه يقوم بتمويل رجال الأعمال الأكفاء والأمناء الذين لديهم مشروعات واعدة، كما يتعين على إدارة البنك أن تنتقي أو تفضل المشروعات الأعلى ربحية طالما تتوافر فيها شروط الحلال.
وأظهرت الممارسات المصرفية الإسلامية أن صيغة المضاربة الجماعية أو المختلطة نجحت نجاحا كبيرا في تجميع الموارد التمويلية، ولكنها ظلت محدودة جدا في استخدامات هذه الموارد. أما من جهة نجاحها في تجميع الموارد فذلك لأن صيغة المضاربة المختلطة المستمرة خفضت درجة المخاطرة التي يتضمنها مبدأ المشاركة في الربح والخسارة إلى أدنى حد ممكن، وسمحت بتوزيع دوري للأرباح، وهو الأمر الذي يتفق مع رغبات معظم العملاء.
أما من جهة الاستخدامات فقد كان الأمر مختلفا بشكل كبير، لقد تردد معظم مديري البنوك الإسلامية في الاعتماد على عقود المضاربة في استثمار الموارد التمويلية مفضلين صيغا أخرى، والأسباب في ذلك عديدة، لقد كان معظم مديري البنوك الإسلامية من العاملين من قبل في بنوك تقليدية، وقد اعتادوا إقراض العملاء المليئين ماليا والمعروفين لديهم بالإضافة إلى أخذ الضمانات المالية اللازمةCOLLATERALS كلما لزم الأمر، كل هذا أصبح غير مستساغا من جهة الأهداف المصرفية الإسلامية، أو غير مقبول شرعا، هذا بينما افتقدت الإدارة أسسا أخرى عملية يمكن استخدامها في تمويل العملاء بالمشاركة.
إن المضاربة من وجهة نظر صاحب المال عقد يقوم على عنصرين أساسيين: الثقة في أمانة المضارب، والثقة في خبرته وكفاءته في استثمار المال. وفي المجتمعات القديمة أو الصغيرة محدودة العدد، وفي إطار قيم أخلاقية فاضلة، لم يكن عسيرا أن يقوم صاحب رأس المال بتقدير هذين العنصرين، أما في إطار الواقع المعاصر، ومن خلال النشاط المصرفي كيف يقوم المدير المسئول عن التمويل بتقدير هذين العنصرين؟ وماذا يحدث إذا أخفق في عمل تقديرات صحيحة؟ أليس في هذا تعريض لأموال العملاء والبنك للضياع؟
إن ثمة اقتراحين يمكن التقدم بهما لمعالجة الفجوات النظرية في نظام المضاربة، وذلك بهدف تطويره وإحيائه في مجال استخدام الموارد التمويلية للبنوك، ويعتمد الاقتراح الأول على وضع أسس موضوعية وشرعية يمكن الاعتماد عليها في التطبيق العملي للثقة في العميل وأمانته وخبرته، وذلك بدلا من الاعتماد على التقديرات الخاصة لإدارة التمويل بالبنك. أما الثقة في العميل فليست مسألة شخصية، إنما هي موضوعية بحتة تتعلق بالثقة في مشروعية الذي يطلب له تمويلا والثقة في قدرته على القيام به بنجاح، ومن الممكن الاعتماد على إحدى إدارات البنك للقيام بدراسة جدوى المشروع المقدم، والتأكد من وجود الجدية والخبرة والكفاءة اللازمة لدى صاحب المشروع والفريق الذي يعمل معه، وأما أمانة العميل فلا يمكن أن تترك للتقديرات الخاصة – كما كان الأمر في ماضي الزمان – وإنما يجب اعتمادا على معلومات دقيقة أن تبنى على عوامل موضوعية خاصة بسجله السابق وسيرته الذاتية وشهرته في المعاملات، أو مدى استعداد طرف آخر لتزكيته لدى البنك أو ضمان تعهداته لدى البنك، ومن المؤكد – نظريا – أن مثل هذه الآلية في تطبيق المضاربة توفر أمانا أكبر بالنسبة لاستخدامات الموارد التمويلية، ليس فقط بما هو قائم الآن في البنوك الإسلامية، بل بالمقارنة بممارسات للبنوك التقليدية القائمة على قاعدة الملاءة المالية، وأخذ الضمانات.
أما الضمانة الأولى فتتمثل في وضع شروط تشتق من دراسة الجدوى يلتزم بها المضارب في استخدام الموارد التمويلية، والثانية تتمثل في تنظيم تدفقات التمويل إلى المشروع في دفعات مرتبطة بجدول زمني، بناء على دراسة جدوى المشروع من جهة، وتقارير دورية خاصة بمتابعة المشروع من جهة أخرى، ويلاحظ أن وضع الشروط يعني تقييد المضاربة، وهو جائز لدى الحنفية والحنابلة، فإذا لم يلتزم المضارب بالشروط يصبح ضامنا لرأس المال الذي أخذه من البنك دون نقص في حالة الخسارة (تبعا لقاعدة الضمان عند التعدي)، كذلك يلاحظ أن متابعة المشروع من خلال تقارير دورية لا تعني، ولا يجب أن يقصد بها التدخل في إدارة المشروع؛ لأن هذا أيضا يفسد المضاربة.
أما الاقتراح الثاني لتطوير المضاربة فيرتبط بتهيئة موارد تمويلية أكثر ملاءمة لها، وذلك بإصدار شهادات أو صكوك مضاربة مخصصة لمشروعات معينة على أن تكون قابلة للتداول في سوق الأوراق المالية، ولا يجوز استرداد قيمتها نقدا مرة أخرى، بل تصفيتها بالزيادة أو بالنقص عند انتهاء عمل المشروع أو بعد خمس سنوات مثلا أيهما أنسب، ومن حق أصحاب هذه الصكوك التعرف على المركز المالي للمشروع في كل سنة، والحصول على نصيبهم من الأرباح حسب الشروط المعلنة عند الإصدار.
ويختلف هذا الاقتراح في مضمونه وتفاصيله عما هو قائم الآن في ممارسات بعض البنوك الإسلامية. فشهادات المضاربة المصدرة الآن غير مخصصة لمشروعات معينة، وإنما هي مرتبطة بمجموع الموارد التمويلية على أساس صيغة المضاربة المختلطة. كذلك فإن شهادات المضاربة المصدرة قابلة للاسترداد من البنك المصدر لها بنفس قيمتها، إما عند الطلب أو بعد عدة سنوات، ويلاحظ أن التعهد برد قيمة الشهادات نفسها يلقي شبهة على تطبيق مبدأ المشاركة في الغنم والغرم، خاصة أن الشهادات تتلقى ربحا دوريا في نفس الوقت.
هذا الاقتراح عند تنفيذه سوف يفتح بابا عريضا لممارسة المضاربة على نحو يتمشى مع مقاصد الشريعة الإسلامية ويحقق أهداف المصرفية الإسلامية وأهداف التنمية التي ترتبط ولا شك بالاستثمارات طويلة الأجل في النشاط الاجتماعي.
خاتمة
إذا كان البعض يعتقد أن الدفاع عن البنوك الإسلامية ينطلق فقط من مجرد عواطف إيمانية فهو مخطئ، ذلك لأن هناك أدلة اقتصادية عديدة تبرهن على أن النظم التمويلية القائمة على المشاركة في الربح أو الخسارة تؤدي إلى تعبئة المدخرات بشكل أتم، وإلى توظيف الموارد التمويلية للبنوك في أفضل الاستخدامات الممكنة لها بالإضافة إلى تحقيق عدالة توزيع الدخل وبث روح المشاركة في نفوس أصحاب الأموال والمدخرات بدلا من السلوك السلبي المتمثل في “ضع أموالك في بنك ودع الآخرين يعملون، واضمن لنفسك مهما حدث لهؤلاء إيرادا منتظما ومضمونا”.
لقد قامت البنوك الإسلامية خلال ربع قرن أو يزيد في بعض الحالات في بلدان إسلامية عديدة بتجميع مدخرات أشخاص لم يكن لهم تعامل مع الجهاز المصرفي التقليدي لإيمانهم الراسخ بحرمة الفائدة في مجالات الاستثمار، كما نجحت البنوك الإسلامية عن طريق أدوات تمويلية مستحدثة بالاشتقاق من عقود إسلامية معروفة كالمرابحة والإجارة والمشاركة، بتمويل أعداد كبيرة من المشروعات الصغيرة والصغرى التي لم يجد أصحابها طريقا من قبل إلى البنوك التقليدية في ظل أنظمتها القائمة على الملاءة المالية والضمانات، ولا شك أن تنمية هذه المشروعات تمثل نقطة انطلاق خطيرة في عملية التنمية بشقيها الاقتصادي والبشري؛ فالعالم كله يتكلم عن التمويل الصغيرMICRO FINANCE الآن ويحاول أن يوائم بين متطلبات البنوك التقليدية في الضمانات وغيرها، ومتطلبات المشروعات الصغيرة والحرفية في التمويل.
وهناك دخول للبنوك التقليدية في مجال التمويل الصغير، ولكن بحذر شديد، وبالتعاون مع شركات التأمين أو شركات ضمان الاستثمار، وبالالتفاف حول تعريف المشروعات الصغيرة بما يقلل من حجم المخاطرة المحتواة في تمويلها. أين كل هذا مما فعلته البنوك الإسلامية في أنحاء عديدة من العالم الإسلامي، وما يزال أمامها باب مفتوح لتفعل أكثر بأدواتها التمويلية التي استقرت من البداية على إقرار مبدأ التمويل بالمشاركة في الربح أو الخسارة؟
إلا أنه من حق البنوك الإسلامية علينا أن نعمل على تطوير أدواتها التمويلية بشكل مستمر، وذلك لتصحيح أخطاء التجربة، وتجربة بلا خطأ في عالمنا وهم وكذبة كبرى، والتصحيح طريق للكفاءة، ولكي تصبح هذه البنوك أكثر فاعلية في تلقي الأموال واستثمارها ليس فقط لتحقيق مصالح أصحابها وعملائها، بل لدفع النشاط الإنتاجي الحقيقي نحو النمو بأعلى معدلات ممكنة، لذلك نتناول كيف يمكن تطوير التمويل بالمرابحة، وقد لعبت دورا مهما في تمويل المشروعات الصغيرة بالرغم من كل ما وجه لها من نقد حتى تؤدي دورا أكبر في نمو هذه المشروعات على أسس إسلامية خالية من أي لبس، كما نتناول كيفية تطوير التمويل عن طريق التأجيرLEASING ، وكيفية إحياء وتفعيل عقود لم تعتمد عليها البنوك الإسلامية بعد كما ينبغي، مثال ذلك عقود الاستصناع والسلم والتي باستحداث آليات عملية لتنفيذها بكفاءة، تصبح قادرة على تنمية نشاط أصحاب الصناعات الصغيرة والمتوسطة، وتنمية الصادرات في نفس الوقت الذي تدر فيه أرباحا مناسبة للبنوك ومن تشاركهم من عملاء.
كذلك فإن هناك اقتراحات مقدمة لإحياء المضاربة من جهة توظيف الموارد التمويلية في أفضل الأنشطة الاستثمارية، كل ذلك مما يخدم قضية التنمية الاقتصادية بشكل مباشر، وهو الأمر الذي يقارن بما تفعله البنوك التقليدية في البلدان النامية بما لديها من موارد تمويلية، فهذه البنوك لا تبالي في المقام الأول إلا باسترداد أموالها مع الفوائد، وليس لديها، ولم يكن لديها في أي وقت مضى منهجية ذاتية للمشاركة في عملية التنمية بشقيها الاقتصادي أو الاجتماعي. إن ما قد تشارك به هذه البنوك التقليدية في أنشطة إنتاجية يحدث تبعا لآليات السوق والربحية الخاصة، وفي إطار الضمانات، ويظل محصورا في المشروعات الكبيرة، وقد تصبح مشاركة هذه البنوك في أنشطة طفيلية لا تبالي بالتنمية أو في تحويل أموال خارج البلد أكبر من مشاركتها في الأنشطة الإنتاجية، وقد تقود عمليات التمويل بالفائدة إلى اختلالات في هيكل النشاط الإنتاجي أو إفراط في الاستهلاك أو في الاستثمار كما تؤكد النظريات الوضعية بسبب الاعتماد على آلية الفائدة.
إن صاحب هذا المقال على يقين – بحمد الله – أنه سبحانه وتعالى لم ينهنا عن الربا إلا لأنه خسارة، إن لم يكن في بدايته ففي نهايته، دعنا نتأمل في أحوالنا وأحوال عديد من الدول النامية الإسلامية الأخرى ونتساءل: ماذا حقق لنا نظام الفائدة (الربا)؟ ألم يكثر الحديث عن أهميته للتنمية الاقتصادية أين هي هذا التنمية؟ هل يعتبر البعض أن ما يتحقق من معدلات نمو للدخل في حدود 3% أو 4% سنويا تنمية اقتصادية بينما الفجوة الاقتصادية Economic Gap بيننا وبين الدول المتقدمة مستمرة في الاتساع؟ وبينما فجوة الفقر بين أغلبية أبناء المجتمع من الفقراء والقلة من الأثرياء وأصحاب النفوذ مستمرة في الاتساع أيضا؟
من جهة أخرى فإن نجاح البنوك الإسلامية في أداء الدور المنوط بها لا يعتمد على مقولات أو مقالات، وإنما على نوايا صادقة من القائمين عليها وأفعال تؤكد ناحيتين هما: التوسل بالشريعة الإسلامية ومقاصدها في جميع المعاملات والتصرفات وابتغاء أقصى كفاءة في أداء الأعمال، فحينما تتحقق الكفاءة القصوى ويتحقق النجاح والأرباح المرتفعة نتيجة رفض الربا والتعامل فقط على أساس المشاركة في مخاطرة الربح أو الخسارة، حينئذ لن يستطيع أحد أن يجادل في الجدوى الاقتصادية لهذه البنوك، وحينما يتحقق هذا على أسس شرعية سليمة لا ريب فيها، حينئذ فقط سوف تسد أفواه الذين ينتقدون البنوك الإسلامية في أن الربا ما يزال يداخل بعض عملياتها مع أنهم هم أنفسهم يتعاملون بالربا الصريح.
وكلمة أخيرة فإنه لكي تنجح هذه البنوك الإسلامية في دورها الإنمائي لا بد من توافر مناخ عام فيه جهد من الجميع، على المستويين الجزئي والكلي، يبذل لإحياء العمل بالشريعة الإسلامية دون إفراط أو تفريط، مناخ فيه نضج تدريجي من حيث التعرف على الثقافة الإسلامية ووعي بعقيدتها، خاصة في مجال الرزق، وفيه مساعدة من الجهات التشريعية ومن البنوك المركزية لمن يسعون لمحو الربا من المعاملات حتى لا نفضل من يعمل بالربا على هؤلاء، ومناخ فيه مؤسسات تعليمية وتدريبية تمد البنوك الإسلامية بحاجتها من الكفاءات البشرية.
والحمد لله في بدء وفي ختم. وصلى الله وسلم على النبي الهادي الأمين الذي بعثه الله فينا فعلمنا ما لم نكن نعلم.