أجازت الشريعة الإسلامية معاملة أهل الكتاب، فأباحت أكل ذبائحهم (الجائز أكلها في شريعتنا) وأجازت نكاح نسائهم، والبيع والشراء لهم، وكذلك القسط والبر والإحسان إليهم ما داموا غير محاربين، ولذلك لا مانع من تهنئتهم بأعيادهم دون أن نشاركهم في الاحتفالات التي لا تقرها شريعتنا
يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي :
إذا أردنا أن نجمل تعليمات الإسلام في معاملة المخالفين له – في ضوء ما يحل وما يحرم- فحسبنا آيتان من كتاب الله، جديرتان أن تكونا دستورا جامعا في هذا الشأن. وهما قوله تعالى: “لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ” (الممتحنة)
فالآية الأولى لم ترغب في العدل والإقساط فحسب إلى غير المسلمين الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين، ولم يخرجوهم من ديارهم -أي أولئك الذين لا حرب ولا عداوة بينهم وبين المسلمين- بل رغبت الآية في برهم والإحسان إليهم. والبر كلمة جامعة لمعاني الخير والتوسع فيه، فهو أمر فوق العدل. وهي الكلمة التي يعبر بها المسلمون عن أوجب الحقوق البشرية عليهم، وذلك هو (بر) الوالدين.
وإنما قلنا: إن الآية رغبت في ذلك لقوله تعالى: “إن الله يحب المقسطين” والمؤمن يسعى دائما إلى تحقيق ما يحبه الله. ولا ينفي معنى الترغيب والطلب في الآية أنها جاءت بلفظ “لا ينهاكم الله” فهذا التعبير قُصد به نفي ما كان عالقا بالأذهان -وما يزال- أن المخالف في الدين لا يستحق برا ولا قسطا، ولا مودة ولا حسن عشرة. فبين الله تعالى أنه لا ينْهَى المؤمنين عن ذلك مع كل المخالفين لهم، بل مع المحاربين لهم، العادين عليهم.
ويشبه هذا التعبير قوله تعالى في شأن الصفا والمروة -لما تحرج بعض الناس من الطواف بهما لبعض ملابسات كانت في الجاهلية-: “فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا” (البقرة: 158) فنفى الجناح لإزالة ذلك الوهم، وإن كان الطواف بهما واجبا، من شعائر الحج.
موالاة غير المسلمين ومعناها
ولعل سؤالا يجول في بعض الخواطر، أو يتردد على بعض الألسنة، وهو:
كيف يتحقق البر والمودة وحسن العشرة مع غير المسلمين، والقرآن نفسه ينهى عن موادة الكفار واتخاذهم أولياء وحلفاء في مثل قوله: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ” (المائدة:51،52).
والجواب: إن هذه الآيات ليست على إطلاقها، ولا تشمل كل يهودي أو نصراني أو كافر. ولو فهمت هكذا لناقضت الآيات والنصوص الأخرى، التي شرعت موادة أهل الخير والمعروف من أي دين كانوا، والتي أباحت مصاهرة أهل الكتاب، واتخاذ زوجة كتابية مع قوله تعالى في الزوجية وآثارها: “وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً” (الروم:21). وقال تعالى في النصارى: “وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى” (المائدة: 82).
إنما جاءت تلك الآيات في قوم معادين للإسلام، محاربين للمسلمين، فلا يحل للمسلم حينذاك مناصرتهم ومظاهرتهم -وهو معنى الموالاة- واتخاذهم بطانة يفضي إليهم بالأسرار، وحلفاء يتقرب إليهم على حساب جماعته وملته؛ وقد وضحت ذلك آيات أخر كقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتِّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ” (آل عمران: 118،119).
فهذه الآية تبين لنا صفات هؤلاء، وأنهم يكنون العداوة والكراهية للمسلمين في قلوبهم، وقد فاضت آثارها على ألسنتهم.
وقال تعالى: “لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ” (المجادلة: 22). ومحادَّة الله ورسوله ليست مجرد الكفر، وإنما هي مناصبة العداء للإسلام والمسلمين.
وقال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ” (الممتحنة: 1).
فهذه الآية نزلت في موالاة مشركي مكة الذي حاربوا الله ورسوله، وأخرجوا المسلمين من ديارهم بغير حق إلى أن يقولوا: ربنا الله. فمثل هؤلاء هم الذين لا تجوز موالاتهم بحال. ومع هذا فالقرآن لم يقطع الرجاء في مصافاة هؤلاء، ولم يعلن اليأس البات منهم، بل أطمع المؤمنين في تغير الأحوال وصفاء النفوس، فقال في السورة نفسها بعد آيات: “عَسَى اللهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” (الممتحنة:7).
وهذا التنبيه من القرآن الكريم كفيل أن يكفكف من حدة الخصومة وصرامة العداوة، كما جاء في الحديث: “أبغض عدوك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما”.
وتتأكد حرمة الموالاة للأعداء إذا كانوا أقوياء، يرجون ويخشون، فيسعى إلى موالاتهم المنافقون ومرضى القلوب، يتخذون عندهم يدا، يرجون أن تنفعهم غدا. كما قال تعالى: “فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ” (المائدة: 52). “بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًا” (النساء: 138،139).
استعانة المسلم بغير المسلم
ولا بأس أن يستعين المسلمون -حكاما ورعية- بغير المسلمين في الأمور الفنية التي لا تتصل بالدين من طب وصناعة وزراعة وغيرها، وإن كان الأجدر بالمسلمين أن يكتفوا في كل ذلك اكتفاء ذاتيا.
وقد رأينا في السيرة النبوية كيف استأجر رسول الله ﷺ عبد الله بن أريقط -وهو مشرك- ليكون دليلا له في الهجرة. قال العلماء: ولا يلزم من كونه كافرا ألا يوثق به في شيء أصلا؛ فإنه لا شيء أخطر من الدلالة في الطريق ولا سيما في مثل طريق الهجرة إلى المدينة.
وأكثر من هذا أنهم جوزوا لإمام المسلمين أن يستعين بغير المسلمين -بخاصة أهل الكتاب- في الشؤون الحربية، وأن يسهم لهم من الغنائم كالمسلمين.
روى الزهري أن رسول الله ﷺ استعان بناس من اليهود في حربه فأسهم لهم، وأن صفوان بن أمية خرج مع النبي ﷺ في غزوة حنين وكان لا يزال على شركه.
ويشترط أن يكون من يستعان به حسن الرأي في المسلمين، فإن كان غير مأمون عليهم لم تجز الاستعانة به؛ لأننا إذا منعنا الاستعانة بمن لا يؤمن من المسلمين مثل المخذل والمرجف فالكافر أولى.
ويجوز للمسلم أن يهدي إلى غير المسلم، وأن يقبل الهدية منه، ويكافئ عليها، كما ثبت أن النبي ﷺ أهدى إليه الملوك فقبل منهم. وكانوا غير مسلمين.
قال حفاظ الحديث: والأحاديث في قبوله ﷺ هدايا الكفار كثيرة جدا فعن أم سلمة زوج النبي ﷺ أنه قال لها: “إني قد أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي من حرير”.
إن الإسلام يحترم الإنسان من حيث هو إنسان فكيف إذا كان من أهل الكتاب؟ وكيف إذا كان معاهدا أو ذميا؟
مرت جنازة على رسول الله ﷺ فقام لها واقفا، فقيل له: “يا رسول الله إنها جنازة يهودي؟! فقال: أليست نفسا”؟! بلى، وكل نفس في الإسلام لها حرمة ومكان.
ويقول في تهنئة اليهود والنصارى في أعيادهم:
هذه حقوق مشتركة، فإذا كان الكتابي يأتي ويهنئك ويعيد عليك في عيدك ويشارك في أتراحك ومصيبتك فيعزيك بها، فما المانع من أن تهنئه بعيده وفي أفراحه وتعزيته في مصيبته؟ الله سبحانه يقول: “وإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا” (النساء: 86)، وهذا لا يعني أن نحتفل معهم، إنما نهنئ فقط، وهذا من البر والقسط الذي جاء به هذا الدين.