تتجسد عظمة الإسلام وقوة المسلمين عندما يبدأ زحف الحجيج نحو منى وعرفات من يوم التروية، فالعلاقة بين الحج وعظمة الإسلام قوية جدا، حيث يبدأ زحف الحجيج مشاة وركبانًا رجالاً ونساء فقراء وأغنياء، أطفالا وشبّانًا، شيوخًا مرضى وأصحاء، أسود وأبيض، لا يبالون بحرارة الشمس ولا بزمهرير الشتاء، لا يمنع زحفهم وسيرهم حرّ ولا قَرّ، يتقدمون وكل واحد منهم يردد “لبيك اللهم لبيك” كأن صوت الداعي يرنّ في أذن كل منهم، فيندفع ويقول “لبيك اللهم”، يتوجه إلى منى وعرفات وقلبه متوجه إلى باري السماوات، يرى عفوه ورحمته ويطلب منه أن يتقبل خروجه هذا إليه.
إذا شئت أن تقر عيناك ويتمتع بصرك بمناظر تبعث في نفسك المؤمنة معاني العزة الإسلامية والغبطة الروحية والسمو الديني والشعور بالأخوة، أخوة الإيمان (إنما المؤمنون إخوة)، وتكون في الوقت نفسه نفس المناظر غُصّة ومبعث حَنَق وكَدَر وغيظ في نفوس أعداء الإسلام وأعداء الأديان وعُبّاد المادة- إذا شئت ذلك فتقدّم مع جموع الحجيج إلى أم القرى حيث وضع أول بيت للناس، والبلد الأمين الذي تهوى إليه القلوب المؤمنة كما تهوى العطاشى إلى موارد الماء، وتقدم معهم إلى ما حول أم القرى من المشاعر العظام والمواقف الجليلة والأماكن المقدسة، وإلى الحرم النبوي الشريف.. تجد وأنت تحمد الله وتشكره فرحًا مبتهجًا.
أن المسلمين ما زالوا بخير، وأن دواعي حب الخير، وحب الإنفاق في سبيل الله ابتغاء رضوانه لا يزال يعمر أفئدة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.. إنهم ينفقون أموالهم في سبيل الوصول إلى البقاع المقدسة لأداء فريضة الحج والقيام بالركن الخامس من أركان الإسلام طلبًا للغفران وأملاً في مضاعفة الأجر في الدنيا والآخرة، معتقدين أن ما ينفقون في هذا السبيل هو (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم).
تجدهم وقد تجردوا عند دخولهم مكة عن كل ما يميز جنسًا عن آخر من الثياب والفروق المادية ليقدموا إلى بيت الله أفواجا أفواجا يمثلون الأخوة الإسلامية مَخْبَرًا ومنظرًا.
يتقدمون إلى الكعبة المطهرة التي جعلها الله مثابة للناس وأمنًا في أدب ووقار وخضوع لرب العالمين، ويطوفون حولها مجتمعين متّحدين لا يشغل فكرهم شيء سوى التوجه إلى العلي العظيم.
وانظر إليهم من وهم يؤدون صلاة المغرب أو العشاء أو الجمعة فلا ترى ظلاً ولا شمسًا إلا وجدتهم كالبنيان المرصوص، يقفون في صفوف دائرية متلاصقة بعضها مع بعض يناجون ربهم “إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم“.
وتجدهم بين الصفا والمروة يسعون ويهرولون وقد ازدحم بهم المسعى على اتساعه وامتداده كأنهم فِرَق من المجاهدين الذين باعوا نفوسهم في سبيل الله، يستعدون للدفاع عن بيضة الإسلام.. إنه أي السعي عبادة في صورة رياضة، ورياضة تقصد بها عبادة، وعمل يدفع عن المسلم كل آثار الخمول والكسل والرهبنة.
وتتوجه هذه الجموع العظيمة يوم 9 من شهر ذي الحجة إلى أرض عرفات، الأرض الرملية التي تحيط بها الجبال وتتسلط عليها أشعة الشمس مائلة وراسية بحرارتها ووهجها، تتوجه في صورة لا يستطيع إنسان تصورها في غير هذه الأرض؛ تنفيذًا لأمر الله، واتباعًا لسنة رسول الله، وإحياء لذكرى خليل الله إبراهيم.
إنها مناظر الحج وعظمة الإسلام المتأصلة في نفوس هذه الجموع التي يغص بالنظر إليها الملحدون الجاحدون أعداء الأديان عامة والإسلام خاصة.
ولسوف تبقى هذه المناظر وهذه الأعمال ما بقي في الأرض حرم الله والكعبة والقرآن. ولسوف يغص الأعداء بالسماع عن هذه الاجتماعات السنوية رغم ضعف المسلمين، ورغم ما مُنوا به من جراء طغيان المادة على العالم بأنواع من التفكك وعدم الترابط.
وبالرغم من كل ذلك فمشاعر الحج والمواقف التي وقف عندها رسول الله سوف تجدد للمسلمين سنويًا فرصة الاجتماع والظهور بمظهر الوحدة والتآلف.
وإذا غربت شمس يوم عرفة رأيت الحجيج وهم كالبحر الزخّار أو النهر الهدّار أو الجيش الجرّار، يفيضون إلى المزدلفة تزدحم بهم السَّبَاسِب والأودية الفسيحة والأرجاء، مبدؤهم من عرفات ومنتهاهم منى ومزدلفة ويستمر هذا السير إلى فجر يوم الأضحى.
ومنى على اتساع واديها وامتداده تغدو باجتماع المسلمين في سهولها وجبالها كبقعة ضيقة قد لا يجد المرء مكانًا فيها لخيمة إذا تأخر في الوصول إليها يوم العيد.
وتتحول شوارع منى من بعد العصر إلى ما قبل الغروب إلى بِحَار بشرية تتماوج فيها جموع المسلمين والمسلمات، لا يُرى منهم غير الرءوس يذهبون لرمي الجمرات أو يعودون منها.. هكذا تنقضي أيام التشريق ثم يؤبون إلى مكة فإلى أوطانهم.
إن مناظر الحج من مبدئها إلى منتهاها تصور لكل راءٍ معاني الأخوة الإسلامية، تجدد له صورًا رائعة من عظمة الإسلام وقوته وعزته، ولا يتمالك المسلم إذا رأى هذه المناظر دموع عينيه وهي تذرف فرحًا وابتهاجًا ويبتهل إلى الله أن يؤلف بين قلوبهم كما ألّف بينهم من قبل، ويكوّن منهم قوة متحدة متماسكة كجسد واحد تعمل لرفع شأن المسلمين وقهر أعداء الله الطغاة.
أحمد علي