في سنة رحيل العلماء الأعلام، وفي العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، وفي يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، وفي آخر يوم من السنة الميلادية التي يعتبرها الكثيرون نهاية القرن العشرين، وقبل صلاة الجمعة، وقد توضأ الشيخ واستعد للصلاة، وشرع يقرأ سورة الكهف من كتاب الله -تعالى- كما تعوّد كل جمعة ـ وافى الأجل المحتوم العلم المفرد، والداعية الرباني، والعلامة المتميز، العربي الأرومة، الحسني النسب، الهندي الجنسية، العالمي العطاء: شيخ الأمة ولسانها الناطق بالحق، الداعي إلى الخير: السيد أبا الحسن علي الحسني الندوي. وهو أشهر من أن يعرَّف، وأعظم من أن يؤدى حقه بكلمات.
لقد قدر الله -سبحانه وتعالى- على أمتنا في هذا العام: أن تودِّع عددًا من كبار العلماء وخيارهم علمًا وعملاً ودعوة إلى الله، ابتداءً بعلامة الجزيرة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ومرورًا بأديب الفقهاء وفقيه الأدباء الشيخ علي الطنطاوي، ومن بعده الفقيه الكبير المجدِّد العلامة الشيخ مصطفى الزرقا، وبعده المحدث الكبير الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وختم هذا الموكب الحافل بهذا الإمام الجليل الشيخ أبي الحسن الندوي.
وقدر الله عليَّ أن أنعي إلى أمتنا الكبرى هؤلاء الأعلام بالحديث عن مناقبهم وآثارهم في حياة الأمة، بالكتابة في الصحف، أو بالكلام عنهم في برنامجي (الشريعة والحياة) في قناة الجزيرة الفضائية في قطر، وبرنامجي الآخر (المنتدى) في قناة “أبو ظبي” الفضائية، وذلك وفاء ببعض حقهم علينا، وكذلك حق الأجيال الصاعدة أن تعرف قدر هؤلاء الأكابر وما أدوه لدينهم وأوطانهم، طيلة حياة عامرة بالخير، فياضة بالبذل والعطاء.
فلا غرو أن أتحدث عن شيخنا الندوي ببعض ما يستحقه، مقتبسًا من بعض ما كتبته عنه في حياته -رحمه الله وغفر له وتقبله في الصالحين.
وكيف لا أتحدث عن هذا الإمام الرباني الإسلامي القرآني المحمدي، وهو أخي وشيخي وحبيبي، رضي الله عنه وأرضاه.
الندوي..الإمام الرباني الإسلامي القرآني المحمدي
أما أنه (رباني) فلأن السلف أجمعوا على أن الرباني هو الذي يعلَم ويعمل ويعلّم، فمن علِم ولم يعمل بما علِم فليس برباني، وعلمه حجة عليه، وهو من العلم الذي لا ينفع، وهو مما استعاذ منه الرسول -ﷺ-: “اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع..” ومن علم وعمل، ولكنه لم يعلّم غيره، ولم يدع الآخرين، فليس برباني، فقد قال الله تعالى: (وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)، ومن علم وعمل وعلّم فذلك هو الرباني الذي يدعى عظيمًا في ملكوت السماء (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
وكلمة (الربانية) هي الكلمة التي اختارها الشيخ أبو الحسن ليعبر بها عن (التزكية) التي عني بها القرآن الكريم، وجعلها شعبة أساسية من مهمة الرسول -ﷺ-وعن مقام الإحسان الذي بينه الرسول الكريم بقوله: “أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”، وذلك في كتابه القيم المعبر (ربانية لا رهبانية) يريد به السلوك الخالص لوجه الله، السالم من البدع ومن المبالغات في الاعتقاد أو السلوك.
وأما أنه (إسلامي) فلأن الإسلام لحمته وسداه، ومبتدؤه ومنتهاه، وأدناه وأقصاه، إليه يسعى وعليه يدور، وله يعمل، وبه يعتصم، ومنه يستمد، وعنه يصدر، وفيه يحب ويبغض، ومن أجله يكتب ويصنف، ويدرّس ويحاضر، ويسافر ويقيم، ويصل ويقطع، فهو شغله في نهاره، وحلمه في ليله، وزاده في سفره، وأنيسه في إقامته، فهو بالإسلام وللإسلام، ومن الإسلام وإلى الإسلام.
إن الذي يشغل عقله وقلبه ووقته باستمرار هو الإسلام: رسالته وحضارته، وانبعاثه وصحوته، وقضايا أمته، وهجمة أعدائه، وأعظم ما يهمه هو تقوية الجبهة الداخلية في مواجهة الغزوة الخارجية، هو تربية الفرد، لأنه اللبنة الأساسية في بناء الجماعة، هو تغيير ما بالنفس حتى يغير الله ما بالأمة: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)
وأما أنه (قرآني) فلأن القرآن هو مصدره الأول، منه يستمد، وعليه يعتمد، وبه يأنس، يتعبد بتلاوته، ويتلذذ بقراءته، ويعيش في رحابه، متجاوبًا مع آياته، متدبرًا لمعانيه، يستخرج منه اللآلئ والجواهر، يعرضها في محاضراته وكتبه ورسائله، بعقل متفكر، وقلب متأثر. يشهد بذلك كله من استمع إليه محاضرًا، أو قرأ كتبه الكبيرة أو الصغيرة، فهو رجل القرآن حقاً.
وأما أنه (محمدي) فلا أعني مجرد أنه من نسل الرسول -ﷺ- ومن السلالة الهاشمية الحسنية، فكم من حسنيين وحسينيين تناقض أعمالهم أنسابهم “ومن بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه” وإنما أعني أنه رجل جعل الرسول الكريم أسوته في هديه وسلوكه وحياته كلها، واتخذ سيرته نبراساً له، في تعبده وزهده، وإعراضه عن زخارف الحياة، وزينة الدنيا، فهو يعيش في الخلف عيشة السلف، لا يهتم بما يهتم به أمثالنا من متاع وتملك ورياض وزينة، تحسبه إذا رأيته سلمان الفارسي أو أبا الدرداء. وحديثه عن الحبيب المصطفى -ﷺ- ليس محض حديث باحث دارس، بل حديث محب عاشق، معجب بهذه الشخصية الضخمة الفريدة، شخصية محمد بن عبد الله، وليس هذا في كتابه القيم “السيرة النبوية” فقط، بل في سائر كتاباته ومحاضراته وأحاديثه المعبرة عن هذا الإعجاب، وهذا الحب، وهذا التأسي. وهي -كلها- نابعة من فهمه لهذه الحياة النبوية الشامخة، وهضمه لهذه السيرة الجامعة، وتذوقه لما فيها من معاني الكمالات التي فرقها الله تعالى في البشر وجمعها في مصطفاه محمد -ﷺ.
وأما أنه (عالمي) فهذا ما يلمسه كل متتبع لنشاط الشيخ العلامة، فهو- وإن كان هندي المولد والنشأة والدراسة- عالمي الوجهة والغاية، عالمي النشاط والحركة. وهو – وإن اهتم بالمسلمين في الهند، وشارك في همومهم، وتصدر الصفوف أحيانًا في ذلك، كما في قوانين الأحوال الشخصية، التي أرادت الحكومة الهندية يومًا أن تفرض على المسلمين فيها ما يحرمهم من خصوصيتهم- لا يقتصر همه ولا نشاطه على القارة الهندية، بل يمتد إلى العالم كله، ولذا نجد شهرة الشيخ في العالم العربي لا تقلّ عن شهرته في الهند، ونجد الشيخ عضوًا في أكثر من مجلس، وأكثر من مؤسسة، مثل المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، والمجلس العالمي الأعلى للمساجد، ومجلس المجمع الفقهي للرابطة، والمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالأردن، والمجمع العلمي بدمشق، وهو الذي سعى لإنشاء مركز إكسفورد للدراسات الإسلامية، ليكون نقطة انطلاق للفكر الإسلامي في جامعة غربية عريقة، وهو الذي يرأس مجلس أمنائه منذ أنشئ، كما أسهم في إنشاء (رابطة الأدب الإسلامي) لتكون منبرًا عالميًا لأدباء الإسلام. وهو رئيسها منذ أنشئت أيضًا. ومن قرأ عناوين محاضرات الشيخ ورسائله وأحاديثه، وأين ألقيت؟ وإلى من وجهت؟ يعرف هذه العالمية بوضوح؛ فهناك أحاديث إلى العرب، وأحاديث صريحة في أمريكا، وهناك جملة (إسمعيات) – إذا صح هذا الجمع – وهي الرسائل التي وجهها إلى البلاد التي زارها ناصحًا لها ومشفقًا عليها: اسمعي يا مصر، اسمعي يا زهرة الصحراء “يعني الكويت”، اسمعي يا إيران… إلخ.
الندوي.. أخي وشيخي وحبيبي
وأما أنه (أخي) فقد ربطت بيني وبينه (أخوة الإسلام) الذي يربط بين الأكبر والأصغر من أبنائه (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) و: “المسلم أخو المسلم” و (أخوة العلم)، والعلم رحم بين أهله، و (أخوة الدعوة) والدعوة رابطة بين الدعاة، وإن بعدت الدار، وشط المزار، و (أخوة المحنة) وأعني المحنة بهموم الأمة، وترشيد الصحوة، وتفرق العلماء وتوحد الأعداء، وهجمة الخصوم، وضعف المقاومة، وفساد الحكام، وغفلة الجمهور، وترف الأغنياء، وشغل الدعاة أتباعهم بالفروع عن الأصول، والجزئيات عن الكليات، وبالشكل عن الجوهر، وبأعمال الجوارح عن أعمال القلوب.
وأما أنه (شيخي) فلأني تتلمذت على كتبه، وانتفعت بها، واقتبست منها، ونقلت عنها في أكثر من كتاب لي، وكل كتاب فيها له طعم خاص، ومذاق معين، وفكرة محورية يدور عليها، ولا أجد داعية من الدعاة المعاصرين، ولا مفكراً من مفكرينا المعتبرين إلا استفاد من كتب الشيخ، واقتبس منها: الشهيد سيد قطب، والداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي، والعالم الأديب الكبير الشيخ علي الطنطاوي.. وغيرهم.
بل إنني تتلمذت عليه مباشرة باللقيا والسماع منذ لقيته في سنة 1371هـ-1951م في مصر وكلما لقيته بعد ذلك، فهو – حفظه الله – قدوة في حركته، وقدوة في سكونه، قدوة في كلامه، وقدوة في صمته.
أذكر أنه حينما زارنا منذ أكثر من ثلاثين عامًا في قطر، وكان يشكو من قلة موارد (دار العلوم) بندوة العلماء، اقترح عليه بعض الإخوة أن نزور بعض الشيوخ وكبار التجار، نشرح لهم ظروف الدار ونطلب منهم بعض العون لها فقال:
لا أستطيع أن أفعل ذلك! وسألناه: لماذا؟ قال: إن هؤلاء القوم مرضى، ومرضهم حب الدنيا، ونحن أطباؤهم، فكيف يستطيع الطبيب أن يداوي مريضه إذا مد يده إليه يطلب عونه؟ أي يطلب منه شيئاً من الدنيا التي يداويه منها؟!
قلنا له: أنت لا تطلب لنفسك، أنت تطلب للدار ومعلميها وتلاميذها حتى تستمر وتبقى. قال: هؤلاء لا يفرقون بين ما تطلبه لنفسك وما تطلبه لغيرك ما دمت أنت الطالب، وأنت الآخذ!!
وكنا في رمضان، وقلنا له حينذاك: ابق معنا إلى العشر الأواخر، ونحن نقوم عنك بمهمة الطلب. فقال: إن لي برنامجًا في العشر الأواخر لا أحب أن أنقضه أو أتخلى عنه لأي سبب، إنها فرصة لأخلو بنفسي وربي.
وعرفنا أن للرجل حالاً مع الله، لا تشغله عنه الشواغل، فتركناه لما أراد، محاولين أن نقلده فلم نستطع، وكل ميسر لما خلق له.
أما أنه (حبيبي) فأشهد أني أحبه، وأرجو أن يكون حبًا لله تعالى، فقد أحببته لتجرده وإخلاصه وربانيته، وأحببته ليقينه وتوكله وقوته، وأحببته لتحرقه وتوقده وغيرته، وأحببته لاعتداله ووسطيته، وأحببته لنقاء فكره من الخرافة، وصفاء قلبه من الحسد، وسلامة عقيدته من الشِّرْكيات، وسلامة عبادته من المبتدعات، ونظافة لسانه من الطعن والتجريح، بالتصريح أو التلويح، أحببته لانشغاله بالقضايا الكبيرة عن المسائل الصغيرة، وبالحقائق عن الصور، وبالمعنى عن المبنى، وبالعمق عن السطح.
أحببته لحسن خلقه وسهولته، أحببته لحيائه، ورقة طبعه ودماثته.
وإني لأتقرب إلى الله تعالى بحبه، وأرجو أن أحشر معه (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا).
وإني أتمثل هنا بقول الشاعر الصالح:
أحب الصالحين ولست منهم عساني أن أنال بهم شفاعة
وأكره مَنْ بضاعته المعاصيوإن كنا سواءً في البضاعة!
ولست أنا وحدي الذي يحب الشيخ الجليل، فأحسب أن كل من عرفه واقترب منه أحبه على قدر معرفته به، وقربه منه، وكلما ازداد منه قربًا ازداد له حبًا.
ولا غرو أن يختلف الناس على أشخاص العلماء، ولكنهم يتفقون على أبي الحسن، حتى الذين ليسوا من مشربه، ولا على طريقته، لا يملكون إلا أن يختاروه في مجامعهم، لما خصه الله به من مزايا قل أن توجد في غيره (وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
عرفت الشيخ أبا الحسن منذ أربعة وأربعين عامًا، حين زارنا في مصر، أول ما خرج من وطنه في الهند، وأراد أن يتحرك إلى العالم من حوله، فكانت زيارته لمصر (1371هـ- 1951م).
كنت وقتها طالبًا في كلية أصول الدين، مشغولاً بدعوة الإخوان المسلمين، مسؤولاً عن طلبة الإخوان في جامعة الأزهر، مع أخي أحمد العسال وعدد من الإخوة الكرام، وأخطب الجمعة في مسجد بمدينة المحلة الكبرى – القريبة من قريتي – وكنت قد قرأت كتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ؟) الذي نشرته (لجنة التأليف والترجمة والنشر) التي يرأسها الأستاذ الكبير أحمد أمين رحمه الله.
وقد أعجبت بالكتاب، ودللت عليه بعض الأصدقاء ليقرؤوه، وإن كنت لا أعرف عن صاحبه شيئًا إلا أنه عالم هندي مسلم، وقد كتب الأستاذ أحمد أمين مقدمة للكتاب، ولكنه لم يوف صاحبه حقه كما ينبغي.
ولكن الكتاب نظرة جديدة إلى التاريخ الإسلامي، وإلى التاريخ العالمي من منظور إسلامي، وهو منظور عالم مؤرخ مصلح داعية، يعرف التاريخ جيداً، ويعرف كيف يستخدمه لهدفه ورسالته.
وقد ساعده على ذلك معرفته باللغة الإنكليزية، كما ساعده الحس النقدي، والحس الحضاري، والحس الدعوي، والحس الإصلاحي – وكلها من مواهبه – على تقديم هذه النظرة الجيدة من خلال كتابه الفريد
*د. يوسف القرضاوي