يقول “د. يوسف إدريس” في جريدة الأهرام (3/6/1977): “يُخيل أننا في بلادنا العربية أكثر الشعوب جهلا في مواجهة هذه الثورة.. ثورة الشباب، لم ندرك أنها ليست مسألة هيّنة.. نسميها مشاكل المراهقة، وما هي بمشاكل، وما هي بمراهقة، وإنما هي ثورة ميلاد”.
وكي يتم التعامل مع “ثورة الميلاد” فلا بد من تفهم طبيعة هذا المولود الثائر الهائج، وتفهم ما يمر به.. وإذا ما تم ذلك؛ فسوف تكون خطوات التعامل واضحة، نخطوها بقدمين راسختين” و هنا ينتهي كلام د/يوسف أدريس.
يشكو معظم الشباب – وبصفة خاصة الشباب العربي في هذه الأيام – من أن آباءهم لم يعودوا يفهمونهم، كما كانوا يفعلون معهم من قبل وهم في مرحلة الطفولة، ويلاحظون وجود “هُوّة” تزداد اتساعًا بين فهمهم هم للأمور – وبخاصة شئونهم الحياتية الشخصية، وتصرفهم فيها – وفهم الآباء وتصرفاتهم إزاءها.
هناك سببان كامنان وراء هذه الهوة:
أولاً: اختلاف مفاهيم الآباء عن مفاهيم الأبناء، وهذا طبيعي لاختلاف الأجيال والأزمان، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار سرعة تغير مجتمعاتنا (لا ننسى أن الأبناء يعيشون الآن في عالم أكثر انفتاحية: فضائيات، إنترنت، كمبيوتر…، بينما عاش جيل الآباء خبرة التلفاز – أبيض وأسود – عندما كانوا في مثل سنهم).
ثانيًا: اختلاف البيئة، بين البيئة التي نشأ فيها الأهل وتكوّنت شخصيتهم وبيئة البنين؛ ولذا نرى أن “صراع الأجيال” تقل حدته في الريف؛ حيث يتلاشى عامل اختلاف البيئة.
المشكلة لم تكمن أبدًا في وجود الهوة التي هي من سنن الله في كونه، ولا مجال لمَحْوِها أو التخلص منها، ولكن المشكلة هي أن الأهل نادرًا ما يحاولون أن يتصرفوا على أساس رؤية الأمور من موقع الأبناء لا من مواقعهم هم، وهنا بالضبط ما أكدته الدراسات التي أظهرت أن أكثر من 80% من مشكلات المراهقة – في عالمنا العربي – كانت نتيجة مباشرة لمحاولة الوالدين تسيير أولادهم بموجب آرائهم وعاداتهم وتقاليد مجتمعاتهم، وبالتالي يحجم الأبناء، وبخاصة في سنوات الشباب الأولى، عن الحوار مع أهلهم؛ لأنهم يعتقدون أن الآباء إما أنهم لا يهمهم أن يعرفوا مشكلاتهم، أو أنهم لا يستطيعون فهمها، أو أنهم – حتى إن فهموها – ليسوا على استعداد لتعديل مواقفهم.
وهكذا يلوذ البنون إلى “الضِّدِّية” (السباحة ضد تيار الأهل) بطريقة تؤلم الوالدين – كما وصفتي تمامًا – ولكن دونما شعور منهم، وقد وصف شاب هذه الحالة بالاغتراب بينه وبين والديه (كما ورد في كتاب “هواجس شبابية حول الأسرة والحب” للكاتب “كوستى بندلي” اللبناني).
لماذا..؟ لماذا هذه “الضِّدية”؟ ولماذا حالة الاغتراب بين المراهق ووالديه؟
هذا السؤال إجابته تكمن في “محورية الأنا” التي يتميز بها المراهق؛ فالمراهق مدفوع – رغمًا عنه، وبحكم عوامل نفسية تعتمل فيه في هذه المرحلة من نموه – إلى التركيز الشديد على ذاتيته الشخصية الناشئة التي تتحول إلى محور اهتمامه وهواجسه؛ حيث إنه يكتشف تمايزه وتفرده – وهو الذي كان بالأمس القريب جزءاً لا يتجزأ من بيئة عائلية في حالة اندماج معها – هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تطرأ عليه – دون وعي أو شعور منه – حالات من القلق والمزاجية وعدم الاستقرار و”أزمة هوية”.. (إنه مخاض ذلك المولود الجديد الذي وصفناه من قبل بالمولود الثائر).
فانسلاخ المراهق عن مواقف وثوابت ورغبات الأسرة ما هو إلا وسيلته لتأكيد وإثبات تفرّده وتمايزه، وهذا يستلزم بالطبع معارضة سلطة الأهل – سواء أكانت صادرة بصورة حازمة أم بصورة هادئة -؛ لأنه يعتبر أي سلطة فوقية أو أي توجيه إنما هو استخفاف لا يطاق بقدراته العقلية التي أصبحت موازية جوهريًّا لقدرات الراشد، واستهانة بالروح النقدية المتيقظة لديه، والتي تدفعه إلى تمحيص الأمور كافة؛ وفقًا لمقاييس المنطق.
إذن، هذا هو “المولود الثائر”؛ فما الحل؟
إن معالجة مثل هذه الأوضاع لا يكون إلا بـ “إحلال الحوار الحقيقي” بدلاً التنافر والصراع والاغتراب المتبادل. وهنا لا بد من التنويه إلى أنه ليس المقصود بلفظ “الحوار” إزالة كافة أنواع الخلافات أو انسحاب الأهل أمام رغبات الشباب ونزواتهم، بل المطلوب من الأهل أن يكونوا موجودين، بكل ما تحمله كلمة “موجودين” من معنى.
لا بد من تفهم وجهة نظر الأولاد، فعلاً لا شكلاً؛ بحيث يشعر الشباب أنه مأخوذ على محمل الجد ومعترف به وبتفرده – حتى لو لم يكن الأهل موافقين على كل آرائه ومواقفه – وأن له حقًّا مشروعًا في أن يصرّح بهذه الآراء (وهو ما تفعلينه حسب وصفك). الأهم من ذلك أن يجد الشاب لدى الأهل آذانًا صاغية وقلوبًا متفتحة من الأعماق، لا مجرد مجاملة. كما أنه ينبغي أن نفسح المجال لأن يشق الشاب طريقه بنفسه حتى لو أخطأ؛ فالأخطاء طريق للتعلم.
وأحب دومًا تسمية “فن الحوار” مع الأبناء بأنه “أبو الفنون التربوية”، وإليك أيتها الأم الفاضلة بعض جوانب هذا الفن:
– لفن الحوار أساليبه وطرقه ووسائله، فمثلاً عليك اختيار الوقت المناسب لبدء الحوار مع الشاب؛ بحيث تكونا – أنت وابنك – غير مشغولين، بل مكرّسين وقتكما للحوار عن موضوع معين.
– وإذا تحدث الوالدين مع ابنهما جالسين؛ فلتكن الجلسة معتدلة، لا فوقية، ولا تحتية ، بل جلسة صديق مع صديقه ، والابتعاد عن التكلف والتجمل، و الحذر من نبرة التوبيخ، والنَّهر، والتسفيه.. وتغليف الكلام بأسلوب من يريد أن يصل إلى قلب قبل عقل من يحاوره.
– من ممنوعات “فن الحوار مع المراهق” التلويح باليد أو المقاطعة بتعليق، بل يترك ذلك إلى نهاية تعبيره عن نفسه.. ومحاولة الابتعاد عن الأسئلة التي تكون إجاباتها “بنعم” أو “لا”، أو الأسئلة غير الواضحة وغير المباشرة، وإفساح له مجالاً للتعبير عن نفسه؛ فمثلاً: عدم قول : هل أعجبتك الرحلة؟ بل يكون السؤال: ما أكثر شيء استثارك أو لفت انتباهك خلال الرحلة؟..
– عدم استخدام الوالدين ألفاظً قد تكون جارحة دون قصد مثل: ” كان هذا خطأ” أو “ألم أنبهك لهذا الأمر من قبل؟”…
– وليس بالضرورة الإجابة على كل تساؤلاته فورًا، ولا مانع من الاتفاق على تأجيل الإجابة لحين تأكدك من صحة ما ستقولينه.. (لا بد من تحديد موعد، ولا تُترك الموضوعات مفتوحة، وأهم من ذلك الوفاء بالموعد المحدد حتى لا تضيع مصداقيتك عنده).
وفي النهاية الأذن الواعية، والقلب المتفهم، والدعاء المستمر بصلاح الأبناء هم “العصا السحرية” التي ترشد المراهق إلى طريق الصواب.. والعيش معهم قليلاً داخل عالمهم من أجل فهمهم واستيعاب مشاكلهم ومعاناتهم ورغباتهم، عيشا معًا بمعنى الكلمة، بحيث ينصهر عالم الأباء مع عالم الأبناء . وهذا لن يفيد الأبناء وحدهم بل سيفيد الآباء كذلك.
أ/مني يونس5>