كُتب من الأبحاث والدراسات القرآنية خلال العقود الأخيرة نتاج كبير لم يسبق أن ظهر مثله في مدة زمنية مماثلة من قبل، وتأتي دراسة القرآن وتفسيره كـ”تقليد” سارت عليه كل حركات الإصلاح الديني والسياسي في تاريخ الحضارة الإسلامية، فكل تفكير بالنهضة لا بد له من أن يتخذ موقفا تجاه النص الكريم وفهما يسوغ رؤيته للحاضر والمستقبل.
وفي الفترة الأخيرة قدم عبد الوهاب المسيري محاضرتين في قضية التفسيرات الحداثية والحرفية للقرآن الكريم، الأولى جاءت في الندوة التي نظمها اتحاد الطلاب الإندونيسيين السولاسيين بالقاهرة عن الهرمينوطيقا وتفسير القرآن الكريم، والثانية استضافتها جمعية مصر للثقافة والحوار عن “نقد التفسيرات الحرفية للقرآن الكريم”.
ويسعى هذا التقرير لإلقاء الضوء على أهم ما جاء في محاضرتي المسيري وكتابه “اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود”. إذ إن قضية الكتاب هي علاقة اللغة والمجاز برؤية الإنسان للكون وتصوره لعلاقة الخالق بالمخلوق، وعلى الرغم من غياب العلاقة المباشرة بين موضوع الكتاب وموضوع تفسير القرآن فإن القضايا التي يتناولها -خاصة الباب الثاني من الكتاب الذي هو مزيج من الدراسات اللغوية والنفسية والدينية- تقدم معالجة ذات صلة بقضية التفسيرات الحرفية للقرآن الكريم.
تصور العلاقة بين المخلوق والخالق
غلاف كتاب اللغة والمجاز
بدأ المسيري بشرح المفاهيم الفلسفية ذات الطابع التحليلي التي لا بد منها عند الحديث في قضية تفسير القرآن، فبدأ بشرح جوهر الرؤية الإسلامية السنية التي يرى أنها تقوم على وجود مسافة بين الخالق والمخلوق لا يمكن إلغاؤها على الإطلاق، ويمكن أن نفهم العلاقة بين المخلوق والخالق من قوله تعالى: “قاب قوسين أو أدنى”؛ ففي لحظة من أشرف اللحظات اقترب أفضل المخلوقات -محمد ﷺ- من العرش، ولكن دون أن يصل إليه، والخالق في علاقته بالمخلوق “أقرب إليه من حبل الوريد”، ولكن دون أن يجري في هذا الوريد أو يلتقي به.
وثنائية الخالق والمخلوق يتردد صداها في الكون كله، فالله عز وجل منفصل عن الإنسان وعن كل ما في الكون، وجوهر الرؤية السنية هو الإيمان بهذه الثنائية وبأن هناك انفصالا بين الكل والجزء، هناك علاقة اتصال ولكن مع انفصال يحول دون اللقاء والتوحد، نحن نتفاعل مع الله ولكن لا نمتزج به.
وينتج عن هذه الرؤية قدر عالٍ من التركيبية، فالإنسان والواقع، وكل شيء في الكون مركب وليس بسيطا، والله عز وجل متجاوز للصورة البسيطة، وبين الله وبين الكون ومفرداته المختلفة علاقة اتصال وانفصال في الوقت نفسه: الله يتصل بنا عبر الوحي وعبر العناية الإلهية، ونحن نتصل به عبر الدعاء والصلاة.. إنه اتصال مع انفصال تام.
ويناقض هذا التصور تماما العقائد الحلولية وعقيدة وحدة الوجود التي تلغي المسافة فيحدث حلول للإله في الإنسان والكون وتوحد بين الخالق والمخلوق، وهو ما ينطبق أيضا على الفلسفة العلمانية وفلسفات ما بعد الحداثة التي تماثل وحدة الوجود هي الأخرى حين تلغي المسافة أو تختزلها بين الخالق والمخلوق وتختفي فيها علاقة الانفصال والاتصال بين الله وبين خلقه، وتنتهي إما إلى “تأليه” الإنسان أو “أنسنة” الله.. وهي في كل الأحوال تنتهي إلى ما يسميه المسيري بالواحدية التي هي ضد التوحيد، فهي شكل من أشكال المادية حيث لا يوجد إلا جوهر واحد فقط.
المادية تعبر عن الروح!!
ويلفت المسيري النظر إلى إحدى المفارقات التي تستحق النظر، وهي أن المادية قد يعبر عنها -أحيانا- بطريقة روحية مثل القول بأن العالم هو الله انطلاقا من تفسير حرفي خاطئ لقوله تعالى: “أينما تكونوا فثم وجه الله”، فالقول بأن العالم هو الله يعني أيضا أن الله هو العالم وهو المادية بعينها.
ويخلص المسيري إلى أن غياب هذا التصور هو الذي يسقط التفسيرات القرآنية في فخ “الحرفية”، حيث تلغي التعدد والمسافة وتنتهي إلى السقوط في فخ المادية الواحدية، وهذه يغيب عنها أن القرآن -وهو نص مقدس من عند الله وليس نصا بشريا- إنما يتعامل مع الكليات دون التفصيلات الكاملة، لأن الإنسان –في التصور الإسلامي- حر، ولا بد من مسافة يتحرك فيها ويختار، وإلا أصبح غير مسئول.
والجزئيات هي مجال تفاعل الإنسان مع الخالق (عبر النص) ومع الكون، وهو ما يعني أن العقل الإنساني عاجز عن الإحاطة بكل النص القرآني (معانيه ومراميه)؛ لأنه عاجز ونسبي في حين أن القرآن كامل ومطلق، ولا يمكن الإحاطة به تماما ونهائيا، إذ لو كان النقاد يقرون بأنهم لا يستطيعون الإحاطة الكاملة بالنص الأدبي فما بالهم بالنص القرآني، ومن هنا نفهم معنى كلمة “اجتهاد” باعتبارها نوعا من الجهد العقلي الدءوب.
كل هذا يغيب تماما -في رأي المسيري- عن مفسري هذه الأيام من المفسرين الحرفيين الذين لا يعترفون بالنسبية. وهنا يفرق المسيري بين النسبية الإسلامية وبين النسبية الغربية، ففي حين تقول الغربية بغياب المطلق تماما فإن النسبية الإسلامية تقول: إن عقل الإنسان محدود، وإن النص القرآني يتجاوزه، وإننا وإن كنا لن نصل للحقيقة المطلقة، ولكن لنا مرجعية مطلقة تقول إن “فوق كل ذي علم عليم”.
ويرى المسيري أن التفسيرات الحرفية متأثرة بالتصور الغربي، وأبعد ما تكون عن التصور الإسلامي، ويضرب مثالا لهذه التفسيرات بالتفسيرات التاريخية والتفسيرات العلمية للقرآن والتي تسعى للمطابقة بين القرآن والواقع، سواء الواقع التاريخي (مثل المطابقة بين وقائع تاريخية وبين القصص القرآني) أو الواقع العلمي (مثل المطابقة بين نظريات واكتشافات علمية وبين نصوص قرآنية)، ويؤكد على أن القرآن حاكم للتاريخ وللواقع وليس العكس، ولا يجوز المطابقة بين المطلق الإلهي والنسبي البشري.
أخطاء منهجية للتفسيرات الحرفية
ويعدد المسيري عددا من الأخطاء المنهجية التي تقع فيها التفسيرات القرآنية للقرآن منها:
- أنها تتجاهل أن النص القرآني ليس نصا بسيطا واضحا كلية، بل هو نص مركب يتطلب جهدا وخيالا.
- كما تتجاهل أن علاقة هذا النص بالواقع ليست بسيطة أو سببية بسيطة (مثل قول بعضهم: من يقرأ كذا يحدث له كذا…) فالنص هو إرادة الله، والسهل والبسيط هو إرادة البشر، وهي أيضا تؤدي إلى إغلاق باب الاجتهاد حين تلغى المسافة بين النص وبين الواقع، كما تحول المعرفة من الاجتهاد لتصبح أقرب إلى انتزاع الآيات من سياقها لتطابق واقعا تاريخيا أو علميا أو يفرض عليها أي معنى في رؤية بسيطة اختزالية.
- كما تنزع النص من سياقه ورؤيته الكلية الشاملة، وهنا يؤكد المسيري على أهمية السياق والنظرة الكلية للنص، ويشير إلى أن مقولة “لا اجتهاد مع النص” يجب أن تتسع لتصبح “لا اجتهاد مع النص في كليته وتركيبيته”، مؤكدا على أن الاجتهاد الحالي في مسائل مثل الاستنساخ والقضايا العلمية، يجب أن يكون جماعيا ولا ينفرد به مفسر واحد.
وينتقد المسيري مطابقة التفسيرات الحرفية بين النص القرآني وبين الواقع التاريخي أو العلمي، ويرى أن القول بتطابق القرآن مع الواقع دعوة ربوبية، والربوبية هي أصل العلمانية وهي تدعو إلى إمكانية وصول الإنسان للقيم الأخلاقية بمفرده، ولكن لا مانع من الوحي، وعنها ظهرت فكرة أن الله صنع الكون وتركه كصانع الساعة.
ويرفض المسيري دعوى التطابق ويقول: “لو كان هناك تطابق لذهبنا للواقع بدلا من النص” كما أن هذه المطابقة تجعلنا نحاكم القرآن من منظور الواقع وليس العكس، ويرفض مقولة حسن حنفي –أحد من ينادون بالتفسيرات الحداثية للقرآن- عن أن النص هو الواقع والتي تسير به إلى القول بأن الله هو الواقع والله هو الشعب، (تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا) ويرى أنها رؤية تشابه الرؤية الصهيونية.
ومما يأخذه المسيري على التفسيرات الحرفية أنها تؤمن بأن العقل الإنساني قادر على الإحاطة بمعنى القرآن إحاطة كاملة شاملة، ويرى أن هذه التفسيرات (ترى الإله متجسدا في النص المقدس وفي المفسر صاحب القول الفصل الذي يكتشف التطابق التام بين النص المقدس والواقع التاريخي العلمي)، كما أن المفسر الحرفي للقرآن يرى نفسه باعتباره صوت الله ويخلع على تفسيره ومن ثم على نفسه القداسة.
بين المجازية والحرفية
ولكي يكشف مأزق التفسيرات الحرفية يحلل المسيري فهم المفسر للغة فيؤكد أن هناك لغات بسيطة واضحة كاللغة الرياضية لا تتناسب مع التعبير عن العلاقات الإنسانية، إذ لكي يفصح الإنسان أكثر لا يمكن أن يستخدم اللغة الرياضية الحيادية، ومن ثم يصير اللجوء للمجاز مهما في اللغة الإنسانية بسبب تركيبية الواقع، وهو ما يساعدنا على عبور المسافة بين النص والواقع ويحولها لمجال التفاعل. فالمجاز يجعل هناك قدرة على التعبير عن المركب واللا محدود، ويربط غير المعروف وغير المحسوس بالمعروف والمحسوس، والمعنوي بالمادي دون أن يمزجهما عضويا فيصيرا شيئا واحدا.
ويؤكد أنه من دون مجاز لا يمكننا إدراك الله الذي هو رب المحدود واللا محدود وهو متجاوز (مفارق) للمخلوقات و”ليس كمثله شيء”. فالله موجود ولكن ليس وجودا ككل الوجود، ونحتاج للمجازية في الحديث عن الله، فالسؤال: هل الله موجود هو سؤال علماني مادي لا يرى وجودا إلا للمادة، ولأن الله لا يتجسد وهذا جوهر التوحيد، كان المجاز هو وسيلتنا في فهم وجوده سبحانه وتعالى.
ويلاحظ المسيري أن الحضارة الإسلامية العربية التي زخرت بالمجاز لم تلجأ للرموز لأنها -الرموز- تعني امتزاج العنصرين (الدال والمدلول) على عكس الحضارة الغربية الغارقة في التجسيد والتي تحل فيها الصور والأيقونات بديلا عن المجاز، وعند الحلوليين فإن الله هو مركز الكون والكامن فيه أيضا، على عكس الرؤية الإسلامية التي ترى أن الله لا يمكن إدراكه على وجه الكلية.
ويقارن المسيري بين الإله في اللغة المجازية وبينه في التفسيرات الحرفية ليوضح خطورة هذا النوع من التفسير، فالإله في اللغة المجازية مدلول متجاوز مفارق لنا، مختلف عنا ولكنه لا يهجرنا بل يرعانا، وعلاقتنا به علاقة اتصال وانفصال، وهو متجاوز للتاريخ والواقع ولا يمكن تجسده أو تصويره. بينما هو في التفسيرات الحرفية يتجسد ويصبح مثلنا وعلاقتنا به علاقة اتصال والتحام وذوبان للمسافة ويتجسد فينا وفي الدنيا وفي النص المقدس.
فالمفسرون الحرفيون يرون أن القرآن هو الله، وبما أنهم قادرون على معرفة النص فهم قادرون على معرفة الله، ومن ثم فإن الله يحل فيهم! فبما أن النص عندهم يحوي التاريخ والعلم والواقع إذن يصبح الواقع والنص والإله شيئا واحدا! وهذا – برأي المسيري- هو النموذج الكامن الخفي وراء التفسيرات الحرفية التي ترى إمكانية الوصول للمعنى الكلي والنهائي من خلال معرفة النص والواقع والطبيعة.
وهم اليقين والولع بالعلم
وينتقد المسيري التفسيرات الحرفية، فالنص المقدس فيها كأحداث التاريخ وقوانين الطبيعة، وأن تفسيراتها خطية متوازية مع الواقع المادي، وأن صاحبها يميل للاجتزاء، وعلى عكس المفسر الأصولي التوحيدي الذي يميل للتواضع، ولا يتوقف عن قول “الله أعلم”، في حين يؤكد المفسر الحرفي دائما وصوله لليقين المطلق وهو متعجرف شبه متأله وأحيانا متأله!.
ويؤكد المسيري على أن الخطورة في التفسير الحرفي ليست في مجرد مطابقة النص القرآني بالواقع، وإنما في الرؤية الكامنة وراء هذه المطابقة، فالرؤية المتوازية الحرفية بين الواقع والنص تؤدي لاحتفاء المركز (الله)؛ لأن المرجعية تنتقل هنا للواقع. وأخيرا فإن التفسيرات الحرفية يموت فيها النص ويبقي المفسر الحرفي الذي يصبح ديكتاتورا يتحكم بالنص.
ويرى المسيري أن من أكبر المآخذ على التفسيرات الحرفية ولعها بالعلم، وينتقد التفسير بالإعجاز العلمي الذي يعتبره أحد التفسيرات المغرقة بالحرفية، ويفسر ظهورها وانتشارها بأنها ناتجة عن أزمة حضارية تتعلق بمحاولة اللحاق بركب التقدم العلمي في أوربا والغرب، وأنها تقع تحت تأثير سطوة العلم، وسطوة أن اليقين الكامل لا تحققه إلا العلوم الطبيعية، في حين أنها تفتقد الوعي بأن للعلم بعدا إلحاديا، وأنه في أفضل حالاته لا يمكن أن يزيد من الإيمان أو ينقصه.
ويرى المسيري أن ثمة تأثيرات علمانية على التفسيرات الحرفية التي تأخذ بالإعجاز العلمي؛ فالعلمانية تؤله الإنسان في نهاية الأمر وتؤمن بأن الإنسان قادر على الوصول إلى الحقيقة الكاملة، وأن العلوم الطبيعية تعطينا الحقيقة الكاملة كما نتصورها، ويعلق المسيري ساخرا: “إن تفسيرات الإعجاز العلمي تبدو وكأنها تريد أن تثبت أن الله عالم طبيعة لا بأس به!”.
من المفارقات التي يتوقف عندها المسيري أن سطوة العلم الطبيعي تم تقويضها في الغرب في حين أن مفسرينا الحرفيين ما يزالون يعيشون عصر الولع بالعلم ويرونه مدخلا لإنسان هذا العصر، ويضيف “هناك أشياء في الإنسان لا يمكن تفسيرها علميا ولا ماديا، والأفضل ألا نتحدث عن تفسير علمي لها بل الأفضل عكس ذلك تماما: أن نثبت أن العلم لا يصلح مدخلا للإنسان”.