كثيرا ما نسمع: نزل القرآن الكريم في الحجاز، وقرئ في مصر، وكتب في تركيا.. فما هي قصة المصحف المرتل؟ ومن صاحب فكرة هذا المشروع العظيم والقائم على تنفيذه؟
في صباح (الإثنين 8 من ربيع الآخر 1381هـ = 18 سبتمبر 1961م) وفي تمام الساعة السادسة صباحا، أذيع لأول مرة عبر إذاعة القاهرة المصحف المرتل بصوت القارئ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، فتلا القرآن بصوته العذب وطريقته الآسرة وأدائه الجميل، وكان له جمهوره الواسع المحب لسماعه، وبخاصة في مناطق جنوب شرق آسيا، وكان مصحفه المرتل من أسباب إقبال الناس على سماع القرآن هناك، والإقبال على تلاوته.
امتلأ قلب لبيب السعيد (صاحب مشروع الجمع الصوتي للقرآن الكريم) بحب القرآن، والشغف بقراءته ومدارسته، وحضور حلقاته العلمية المعروفة باسم “المقارئ” في المساجد الكبرى في القاهرة، حيث كانت القاهرة آنذاك عامرة بالقراء الأفذاذ من أهل الرواية والدراية بهذا الفن العظيم، الذين يملئون حلقات القرآن علما وجلالا، وتشد إليهم الرحال من أنحاء الدنيا كلها. وكانت مصر قد ورثت هذا العلم العظيم منذ القرن الثامن الهجري، وتوافد عليها أفذاذ القراء.
ويذكر التاريخ أسماء عظيمة لمعت في سماء مصر في القرن الرابع عشر الهجري باعتبارها من أهل القرآن، من أمثال: الشيخ محمد أحمد المتولي، والشيخ محمد مكي نصر، والشيخ علي محمد الضياع، والشيخ محمد خلف الحسيني، والشيخ عبد الفتاح القاضي، والشيخ عامر عثمان، والشيخ أحمد عبد العزيز الزيات، وغيرهم من جهابذة القراءات.
دوافع مشروع المصحف المرتل
ويحكي صاحب المشروع أنه كان يتابع في حلقات المقارئ الكبرى الممتازين من علماء القراءات، وكان يؤلمه أنه إذا مات منهم حاذق خلفه من لا يعادله علما وإتقانا، وكان ذلك يعني ضياع ثروة إلى الأبد، لأنها لم تسجل، فهؤلاء القراء إنتاجهم غير إنتاج الآخرين من أصحاب العلوم والفنون، فهو تراث صوتي يضيع بموتهم ما لم يسجل. وعلى الرغم من انتشار التسجيل حينذاك، فإن أحدا لم يهتم بعمل تسجيلات صوتية لهؤلاء، أصحاب هذا العلم الدقيق.
وشغل الرجل بكيفية الحفاظ على هذا التراث العلمي المبني على الرواية والسماع، وهداه تفكيره إلى مشروع “الجمع الصوتي”، يجمع فيه القرآن الكريم صوتيا بكل رواياته المتواترة والمشهورة غير الشاذة.
ولما اختمرت الفكرة ووضع معالمها وكيفية تنفيذها تقدم في سنة (1379هـ= 1959م) إلى مجلس إدارة “الجمعية العامة للمحافظة على القرآن الكريم” -وكان هو رئيسها- بفكرة مشروعه الذي يقوم على تسجيل تلاوة القرآن الكريم كله برواية حفص، ثم بمختلف القراءات على ألا تردد الآية الواحدة بأكثر من قراءة واحدة في التلاوة الواحدة.
كما يشمل التسجيل دروسا عملية في أحكام التجويد بطريقة سهلة تمكن جمهور المستمعين من الانتفاع بها، وأن يقوم على التلاوة علماء فن التجويد والقراءات، والقراء المهرة من أصحاب الأصوات الجيدة والأداء المتقن، وأن تختارهم لجنة لها خبرتها في القرآن وعلومه، يشارك فيها الأزهر الشريف والهيئات العلمية واللغوية والثقافية.
لقيت الفكرة استحسانا من الناس، ورحب بها الأزهر الشريف، وأبدى الإمام الأكبر محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر حينئذ ارتياحه ورضاه عن هذه الفكرة.
أراد لبيب السعيد أن يأنس ويقبل الرأي العام التلاوة المرسلة التي سيسجل بها الجمع الصوتي؛ فطلب من الشيخ محمود خليل الحصري أن يقرأ بها في حفل أقيم بقاعة المحاضرات الكبرى بالأزهر، فلاقت هذه التلاوة قبولا عند أغلب الحاضرين.
معوقات مشروع المصحف المرتل
احتاج هذا المشروع العظيم إلى تمويل عالٍ، ولم تكن جمعية المحافظة على القرآن الكريم، ولا رئيسها، من أصحاب الثروات الكبيرة، حتى يمكنهما الإنفاق على مثل هذا المشروع، غير أن مساعي لبيب السعيد أسفرت عن قبول الإذاعة المصرية التسجيل في أستديوهاتها، شريطة أن يكون لها الحق في أن تذيع من محطاتها ما يتم تسجيله لديها. ولم يكن هذا كافيا لإتمام المشروع الذي يحتاج إلى نفقات كبيرة، وإن كان خطوة هامة في نجاح العمل.
وبالرغم من ذلك دعا لبيب السعيد 3 من أشهر القراء والعلماء للبدء بالتسجيل، وهم:
- الشيخ محمود خليل الحصري، اتفق على أن تسجل القرآن برواية حفص عن عاصم.
- والشيخ مصطفى الملواني، وكان حاذقا في القراءات، واتفق على أن يسجل رواية خلف عن حمزة.
- والشيخ عبد الفتاح القاضي، وكان يشغل رئيس لجنة مراجعة المصاحف بالأزهر الشريف، واتفق على أن يسجل قراءة أبي جعفر برواية ابن وردان، وهي من القراءات العشر، وفي الوقت نفسه يشرف على التسجيل.
وتعثرت الجهود الأهلية في تمويل المشروع، ولم يتقدم أحد من الأثرياء لدفعه إلى الأمام، فتقدم صاحب المشروع إلى وزارة الأوقاف طالبا منها أن يجعل هذا المشروع تحت رعايتها المالية، فاستجابت على الفور، وتشكلت لجنة عامة للإشراف على تنفيذ هذا المشروع، ضمت عددا من رجال الشريعة والدعوة والقراءات، من أمثال الشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ محمد الغزالي، والشيخ سيد سابق، والشيخ عامر عثمان المدرس بمعهد القراءات، وعلي عبد الواحد وافي أستاذ علم الاجتماع، وطه نصر كبير مهندسي الإذاعة.
الحصري المرتل الأول
نجح لبيب السعيد بهذه الطريقة في أن يستأنف التسجيل، ورأى أن يمضي الشيخ محمود الحصري في تسجيل رواية حفص، وفق الشروط والضوابط التي وضعتها اللجنة المشرفة على التسجيل، وكانت تضم عمالقة فن التجويد والقراءات في مصر، يتقدمهم الشيخ عامر عثمان.
ولم يكن التسجيل هينا، فمع امتياز الشيخ الحصري في القراءة، فإن اللجنة كانت تستوقفه كثيرا ليعيد التسجيل على النحو النموذجي المطلوب. وبعد الانتهاء من التسجيل بدأت مرحلة طبع أسطوانات المصحف المرتل، وانتهت في ( 10 صفر 1381هـ = 23 يوليو 1961م) حيث بدئ في توزيع المصحف المرتل للمرة الأولى في تاريخ الإسلام.
أذيع المصحف المرتل من الإذاعة المصرية بالقاهرة للمرة الأولى في صباح (الإثنين 8 من ربيع الآخر 1381هـ = 18 سبتمبر 1961م) إيذانا بعهد جديد للمصحف الشريف، وإعلانا عن نجاح الخطوة الأولى في مشروع “الجمع الصوتي” للقرآن الكريم.
أحمد تمام