قام النبي (عليه الصلاة والسلام) يخطب يوم الجمعة إلى جذع نخلة في المسجد، وكان الجذع بين مكان المنبر والمحراب، ولما شق على النبي (ﷺ) القيام اتخذ منبرًا يجلس عليه ويخطب. وفي الصحيح أنه (ﷺ) أرسل إلى امرأة من الأنصار كان لها غلام نجار يقول لها: “انظري غلامك النجار يعمل لي أعوادًا أكلم الناس عليها”؛ فعمل هذه الدرجات الثلاث ثم أمر بها فوضعت في هذا المكان؛ فأصبحت منبره الشريف في مكانه الدائم.
فلما تحوّل النبي (ﷺ) بخطبته عن الجذع إلى المنبر حنَّ الجذع إلى النبي (ﷺ) مثل حنين الناقة التي فقدت ابنها، وارتفع حنينه. عن سعيد بن المسيب عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: كان رسول الله (ﷺ) يقوم إلى جذع قبل أن يجعل المنبر، فلما جعل المنبر حنَّ ذلك الجذع حتى سمعنا حنينه، فوضع رسول الله (ﷺ) يده عليه فسكن، وقال النبي (ﷺ): “لو لم اعتنقه لحنّ إلى يوم القيامة.
وقد ورد في منبره الشريف أحاديث عدة تدل على فضله، فمن ذلك:
ما رواه الشيخان، عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله (ﷺ) قال: “ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي”.
وروت أم سلمة (رضي الله عنها) أن النبي (ﷺ) قال: “قوائم منبري رواتب في الجنة”، وهذا يعني أن هذا المنبر بذاته يعيده الله يوم القيامة على حاله فينصبه عند حوضه (ﷺ) كما يعيد الله تعالى الخلائق يوم البعث.
وعن أنس (رضي الله عنه) أن النبي (ﷺ) قال: “منبري على ترعة من ترع الجنة” والترعة هي الروضة أو الباب أو الدرجة. رواه أحمد وغيره، وأخرج أبو داود وابن ماجه.
عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) أن رسول الله (ﷺ) قال: “لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة ولو على سواك أخضر إلا تبوأ مقعده من النار أو وجبت له النار”. وقد عرف الصحابة (رضي الله عنهم) لهذا المنبر فضله، وأنه حظي بوقوف النبي (ﷺ).
ولما ولي الصديق (رضي الله عنه) الخلافة قام في خطبته على درجة المنبر الثانية تأدبًا مع رسول الله (ﷺ)؛ حيث كان يجلس على المنبر، ويضع قدميه على الدرجة الثانية.
ولما ولي عمر (رضي الله عنه) الخلافة قام في خطبته على الدرجة السفلى ووضع رجليه على الأرض تأدبًا مع رسول الله (ﷺ)، وتأدبًا مع الصديق (رضي الله عنه).
وهكذا يكون الأدب والتعظيم لرسول الله (ﷺ)، وهكذا يكون التأدب أيضًا مع أصحابه (رضوان الله عليهم).
ولقد مر المنبر الشريف عبر تاريخه بمراحل عدة:
– في عهد الرسول (ﷺ) وخلفائه الراشدين كان المنبر مكوناً من ثلاث درجات، طوله من الجنوب إلى الشمال أربعة أشبار وشيء، ومجلسه ذراع في ذراع، وارتفاعه ذراعان، له رمانتان، ارتفاع الواحدة نصف ذراع. وكان (ﷺ) يقف على الدرجة الثالثة منه، ثم نزل الصديق درجة، ثم عمر كذلك، وأقام عثمان على الدرجة السفلى ست سنين، ثم ارتقى بعدها حيث كان (ﷺ) يقف.
– في عهد مروان بن الحكم عامل معاوية (رضي الله عنه) على المدينة زاد فيه ست درجات من أسفله، فصار تسع درجات، يقف الخلفاء على الدرجة السابعة، وهي الأولى من المنبر الشريف واستمر المنبر على هذا حتى عام 654هـ.
– في عام 654هـ احترق المسجد النبوي فاحترق باحتراقه المنبر، وفقد الناس بركته، فأرسل المظفر ملك اليمن منبراً جديداً من الصندل، له رمانتان، فنصب في موضع المنبر النبوي الشريف.
– في سنة 664هـ أرسل السلطان الظاهر بيبرس البندقداري منبراً جديداً بتسع درجات، له باب بمصراعين، في كل مصراع رمانة من فضة، كتب على الجانب الأيسر منه اسم صانعه، فنصب موضع المنبر السابق، وخطب عليه حتى عام 797هـ، وفي العام المذكور ظهرت في المنبر آثار الأرضة، فأرسل الملك الظاهر برقوق منبرًا جديدًا استمر حتى عام 820هـ.
– في عام 820هـ أرسل السلطان المؤيد شيخ منبرًا آخر بثمان درجات بعدها مجلس، ارتفاعه ذراع ونصف، له قبة يعلوها هلال، وبابه بمصراعين؛ فحل محله.
– في عام 886هـ احترق المسجد النبوي الشريف، واحترق معه المنبر، فبنى أهل المدينة منبرًا من الآجر، طلوه بالنورة والجير ثم أرسل السلطان الأشرف قايتباي منبرًا من الرخام الأبيض، حرص السيد السمهودي أن يضعه موضع منبر النبي (ﷺ) تحديدًا، فلم يوافق متولي العمارة، فوضع مقدمًا إلى القبلة عشرين قيراطًا، وزحف إلى الروضة ثلاثة قراريط (خمس أصابع)
– في عام 998هـ أرسل السلطان مراد العثماني منبرًا جديدًا وضع موضع منبر قايتباي، ونقل منبر قايتباي إلى مسجد قباء، ثم إلى مكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة.
من المعلوم أن منبر السلطان مراد صنع من المرمر النقي، وهو غاية في الجمال ودقة الصناعة، يتكون من اثنتي عشرة درجة، ثلاث خارج الباب، وتسع داخله، تعلوه قبة هرمية لطيفة، محمولة على أربعة أعمدة مضلعة رشيقة من المرمر، وبابه من الخشب القرو يتكون من مصراعين مزخرفين بزخارف هندسية إسلامية، مدهون باللون اللوزي الجميل، كتب عليه أبيات من الشعر، وفوقه شرفات آية في الروعة، كتب في الوسط: “لا إله إلا الله محمد رسول الله”.