لم تشهد قضية طبية وشرعية مثل هذا الجدل الواسع الذي شهدته -وما تزال تشهده – في قضية الموت الإكلينيكي ونقل وزراعة الأعضاء البشرية، وزاد من رقعة هذا الجدل والخلاف غياب رؤية واحدة قائمة على أحكام فقهية واضحة تجمع الأمة الإسلامية تجاه هذه القضية؛ ففي الوقت الذي شرعت فيه بعض الدول العربية والإسلامية – ومنها إندونيسيا والمغرب وتونس والسعودية والكويت وقطر والإمارات – في إجراء عمليات نقل وزراعة الأعضاء ووضع القوانين اللازمة لذلك فإنه ما يزال هناك جدل حول هذه العمليات في دول أخرى، ومنها مصر التي أوشكت على دخول نادي نقل وزراعة الأعضاء البشرية من خلال أحد مشروعات القوانين الخمسة المقدمة إلى مجلس الشعب المصري.
ويرجع أساس الخلاف حول قضية الموت الإكلينيكي إلى سببين رئيسيين:
الأول: هو كيفية تحديد الوفاة: فهل تتحقق بموت جذع المخ في الإنسان المريض المراد نقل أعضاء جسده لزرعها في جسد إنسان آخر، حتى ولو كان هناك أعضاء أخرى تعمل في جسد المريض بوفاة جذع المخ مثل القلب والرئتين؟ أو بمعنى آخر: هل يتم الأخذ بمفهوم الموت الإكلنيكي في تحديد الوفاة، مع العلم أن هناك حالات غيبوبة عميقة تشبه وفاة المخ عاد أصحابها إلى الوعي والحياة أم أن الوفاة تعني ضرورة توقف كافة أعضاء الجسم عن العمل وخروج الحياة منها تماما؟ وهي في هذه الحالة الأخيرة لا تصلح لنقلها وزراعتها في جسد شخص آخر حي، وخاصة القلب والكبد والكلى.
الثاني: وهو سبب فقهي وشرعي: ويتعلق بملكية الأعضاء، وهل تخص الإنسان فيكون له أن يتصرف فيها بالمنح والتبرع، أم أنها وديعة لله – عز وجل – ولا يجوز التصرف فيها؟
وقد شهدت السنوات الأخيرة صدور عدة فتاوى، وعقد العديد من المؤتمرات الطبية الإسلامية، شارك فيها علماء في الطب والشريعة والفقه حول تحديد معنى الوفاة، تعارضت بشكل واضح فيما بينها بين مؤيد لفكرة الموت الإكلينيكي وبين معارض لها.
وفاة لا رجعة فيها
ومن فريق المؤيدين لموت جذع المخ أو الموت الإكلينيكي يرى د. “محمد لطفي” – رئيس الجمعية المصرية لجراحة المخ والأعصاب – أن هناك ضوابط وقواعد طبية صارمة تحدد وفاة المريض؛ حيث يتم إجراء العديد من الاختبارات حول أنشطة المخ، فإذا ثبت توقف الدم عن الوصول إلى جذع المخ ثلاث دقائق فقط؛ فهذا يعني حدوث وفاة حقيقية للشخص المريض لا رجعة فيها، مشيرًا إلى أن الدول المتقدمة؛ سواء في أوروبا أو أمريكا تحترم جثث موتاها، ورغم ذلك أخذت بنقل الأعضاء البشرية وزراعتها منذ سنوات طويلة، وأنه يمكن وضع ضوابط لمنع الاتجار في الأعضاء البشرية.
ويعتبر د. “حمدي السيد” – أستاذ جراحة القلب، ونقيب أطباء مصر، ورئيس لجنة الصحة بمجلس الشعب – من أشد المتحمسين لصدور قانون ينظم نقل الأعضاء البشرية وزراعتها؛ حيث يشير إلى أن هناك آلاف المرضى الذين يعانون من الفشل الكلوي والكبد ويحتاجون لأعضاء بديلة، وأن الوفاة لها علامات يحددها الأطباء المتخصصون، وهناك قواعد متفق عليها دوليًّا، ويمكن التأكد من وفاة جذع المخ بهذه القواعد المنضبطة.
وقد أجاز الإمام الأكبر الدكتور “محمد سيد طنطاوي” شيخ الأزهر عمليات نقل الأعضاء البشرية وزراعتها؛ حيث يقول: “إن التبرع بالعضو البشرى؛ سواء من إنسان حي أو ميت يعتبر صدقة جارية للمتبرع، وردا على مقولة إن جسم الإنسان ملك لله بأن الكون كله ملك لله، ورغم ذلك أباح لنا التصرف في كثير من الموجودات بما يخدم حياتنا على الأرض”.
وقال الدكتور “نصر فريد واصل” مفتى الديار المصرية: “إن دار الإفتاء قد انتهت إلى جواز إجراء عمليات نقل الأعضاء البشرية وزراعتها ما دامت هناك ضرورة وحاجة لذلك، ودون ضرر للمتبرع”.
كما أصدر المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث فتوى مؤخرًا قال فيها بجواز نقل الأعضاء البشرية إذا لم يكن هناك ضرر، واشترط موافقة الميت بالتبرع قبل موته، وعدم جواز بيع الأعضاء البشرية أو نقل عضو تتوقف عليه حياة الإنسان كالقلب
.
المعارضون بين الشريعة والقانون
وقد ناقش الفقيه القانوني المستشار “طارق البشري” – النائب الأول السابق لرئيس مجلس الدولة المصري – القضية في كتيب قيم تحت عنوان: “نقل الأعضاء في ضوء الشريعة والقانون”، أوضح فيه أن عقدة الموضوع ليست في نقل الأعضاء التي تتجدد كالجلد والشعر والدم، وليست في الأعضاء التي لها نظير مثل الكلى، ولا في الأعضاء التي يمكن نزعها من الجسد بعد ساعات من الوفاة مثل قرنية العين، وإنما العقدة في نزع عضو ينبض بالحياة من جسد ميت مثل القلب.
كما يؤكد أنه لا تعارض بين الشريعة والقانون في الأخذ بمبدأ الضرورات تبيح المحظورات، فيما يتعلق بنقل الأعضاء بين الأحياء، أما بالنسبة لتحديد الوفاة فيرى البشري أنها أخطر من أن يقررها الأطباء وحدهم، ويتساءل: إذا كان الطب تخصصًا يقوم على خدمة الحياة؛ فهل من رسالة الطبيب إزاء مريضه أن يخمد فيه عضواً يكون لا يزال حيًا ولا يزال متحركًا حركته الطبيعية؟
ويقول: “الموت ليس واقعة طبية فقط، إنما هو على ما عبّرت عنه فتوى الجمعية العمومية للفتوى والتشريع بمجلس الدولة حقيقة دينية فلسفية وواقعة قانونية وحالة اجتماعية”، مشيرًا إلى أن الشريعة الإسلامية لا تختلف عن القانون الوضعي في تحديد الموت، باعتبار أن شواهده واحدة بين البشر أجمعين؛ سواء كانوا مسلمين أو من أتباع الديانات السماوية أو غير السماوية الأخرى، كما أن القانون الوضعي شأنه شأن الشريعة الإسلامية في منعه قتل الإنسان وفي تجريمه لهذا الفعل.
كما أصدر الإمام الأكبر “جاد الحق على جاد” الحق شيخ الأزهر الراحل – عندما كان مفتيًا للديار المصرية – فتوى عام 1979، وأكدها أثناء شياخته للأزهر في فتوى لمجمع البحوث الإسلامية عام 1992، وأوضح فيها أن توقف جذع المخ ليس دليلاً على الوفاة إذا لم تصحبه الدلائل التي أقرها الطب الشرعي من قديم الزمان، وهي توقف الجهاز التنفسي والجهاز الدموي والجهاز العصبي.
وأوضح فضيلته أن الوفاة – وفقًا للمفهوم الشرعي – تحدث بتوقف القلب عن ضخ الدم إلى أعضاء الجسم، بما يؤدي إلى برودة هذه الأعضاء، وهو ما يعني خروج الروح منها.. وأكدت الفتوى أن نزع عضو من الجسم أثناء الاحتضار هو قتل لصاحبه، ويذكر في هذا الصدد أن الشيخ “محمد متولي الشعراوي” – رحمه الله – قد أفتي بعدم جواز التبرع بالأعضاء البشرية باعتبارها ملكا لله ووديعة لدى الإنسان، ولا يجوز له التصرف فيها.
ويؤكد الدكتور “محمد رأفت عثمان” عميد كلية الشريعة والقانون أن القول بموت الدماغ أو جذع المخ بدعة طبية يراد بها انتزاع الأعضاء من جسد المحتضر قبل أن تستكمل روحه الصعود إلى بارئها، مشيرا إلى أن الطب لم يعط إجابات شافية عن الأضرار التي قد تلحق بالمتبرع الحي، وبالتالي يصبح التبرع بالأعضاء البشرية حراما أيضا؛ تجنبا للضرر.
وينفى الدكتور “ممدوح سلامة” – أستاذ جراحة المخ والأعصاب – بشدة أن يكون موت جذع المخ وفاة حقيقية، مشيرا إلى استمرار الحياة ولو كانت بمساعدة أجهزة صناعية، وإلا اعتبرنا الذين يعيشون بصمامات قلب صناعية في عداد الموتى
.
موت جذع المخ أكذوبة
وهناك واقعة مذهلة تكذب مقولة “موت جذع المخ”، رواها الدكتور “كمال زكي قديرة” – أستاذ التخدير والعناية بكلية طب عين شمس – في رسالة بعث بها للكاتب الصحفي “وجيه أبو ذكري” بجريدة “الأخبار” المصرية، والذي يتبنى حملة ضد نقل الأعضاء وزراعتها.
وقد جاء في الرسالة: “كنت متعاقدًا للعمل رئيسًا لقسم العناية المركزة بأحد المستشفيات الكبيرة في إحدى الدول العربية التي تبيح انتزاع الأعضاء من مرضى ما يسمى “موت المخ”، وحدثت الجريمة أمامي، ولم أستطع منعها؛ فلقد نقل إلى العناية المركزة شاب هندي الجنسية، مصاب في حادث سيارة، وكان في حالة فقدان للوعي، وقد وضع على جهاز التنفس الصناعي، وكان قلبه ينبض بدون أي دعم دوائي، كما كان يتم تغذيته عن طريق أنبوبة، وأظهر رسم المخ عدم وجود أي نشاط كهربي، وأجريت له كل اختبارات موت المخ، وتم تشخيص الحالة على أنها “موت دماغي”. ولم أكن مقتنعًا بكل ذلك طالما أن القلب ينبض والحرارة طبيعية، وكل مظاهر الحياة قائمة، وقد بلغت إدارة المستشفى فريق التشريح للحضور، وطلبت مني إدارة المستشفى إعداد المريض لانتزاع أعضائه فامتنعت، وقلت لهم: إن هذه جريمة، وأنا مستعد أن أغادر بلادكم الآن.. فأجبروا مستشارًا هنديًّا للتخدير على القيام بهذا الدور فقام بإعداد مواطنه المريض الهندي لانتزاع أعضائه”.
ويواصل الطبيب المصري قائلا: “وقد حضرت عملية انتزاع الأعضاء لأعرف ماذا يتم في هذه الحالات.. وأقسم بالله أن المصاب قد قفز بشدة من الألم عندما وضعوا المشرط على جسده، وارتفع النبض من 80-160، كما ارتفع الضغط من 120/80 إلى 200/120، وهو ما يعني أننا أمام شخص حي، وأن جذع المخ الذي يحكم عليه بالموت هو في حالة غيبوبة مرضية، وأنه يعي جيدًا جميع الإشارات العصبية التي ترسل إليه ويترجمها إلى أفعال انعكاسية في الحركة وارتفاع ضغط الدم وزيادة النبض”.
وأضاف: “لقد استلزم الأمر حقن المصاب بمسكنات ومرخيات العضلات وزيادة جرعة التخدير، واستمر فريق التشريح في غيه وجريمته، ولم يترك الضحية إلا بعد أن جردها من القلب والكبد والرئتين والكيلتين، وتركها قفصًا خالي الوفاض، وأقسم بالله أنني قد تقيأت ثم أغمي عليَّ من هول ما رأيت”.
وتبقى في النهاية مخاوف لها وجاهتها من إقرار قانون ينظم نقل وزراعة الأعضاء هو أن تتحول العملية إلى تجارة للأعضاء البشرية، كما يحدث في تركيا، وأن تصبح القاهرة هدفًا للإسرائيليين، خاصة أن القوانين في إسرائيل لا تبيح نقل الأعضاء.
وهناك تحليلات ترى أن هناك شبكات دولية لمافيا تجارة الأعضاء ومنها شبكة C.S.O.S (أي الشبكة الدولية للمشاركة في الأعضاء التي تحاول ضم مصر إليها، وترعى مؤتمرات طبية فيها لهذا الغرض).