الدكتور أحمد الريسوني
هل درء المفاسد مقدم دوما على جلب المصالح، وهل الأولوية دائما تُعطى للسلامة من المفاسد والمحظورات، ولو بالتضحية بالمصالح والمشروعات؟ وأيضا هل التخلية سابقة على التحلية، أم أنها قواعد وجب النظر فيها والاجتهاد في حيثياتها ليكون العكس هو الصحيح؟!..
إنه نوع من “قلب الطاولة” على العديد من المفاهيم الإسلامية المُسَلَّم بها، قام به عالم المقاصد المغربي الدكتور أحمد الريسوني، الخبير الأول بمجمع الفقه الإسلامي، وهو يقلب النظر في قضايا إسلامية عديدة في مقالات تنشرها جريدة المساء المغربية خلال شهر رمضان الجاري.
وقد أكد الدكتور أحمد الريسوني في بعض هذه المقالات أن الأصل هو جلب المصالح وتكميلها، أما الفرع فهو دفع المفاسد والعمل على الحد منها، على عكس ما هو متعارف عليه في أدبيات القواعد الفقهية الشهيرة الجارية على كل لسان: “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح” أو “الاجتناب مقدم على الاجتلاب” الذي يُستدَل عليه بالحديث النبوي القائل: “ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم…”.
لكن الريسوني يرى هنا أن الحديث وإن كان حاسمًا في ضرورة اجتناب كافة المنهيات، إلا أن هذا الاجتناب يكون مقدورًا عليه وفي المستطاع؛ لأنه عبارة عن الإمساك وعدم الفعل، وعدمُ الفعل يستطيعه الجميع، فلا يحتاج إلى قدرة أو جهد أو سعي أو وسائل.. بخلاف المأمورات، فهي بحاجة إلى جهد وسعي وبذل، ووسائل وإمكانات… بحسب الريسوني.
ويخلص عالم المقاصد إلى أنه لا يوجد في الحديث “دلالة صريحة ولا صحيحة، على أفضلية درء المفاسد على جلب المصالح، ولا أولوية الاجتناب على الاجتلاب”، مستدلا ببحث “عميق” لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قال فيه: “إن جنس فعل المأمور به أعظمُ من جنس ترك المنهي عنه، وجنس ترك المأمور به أعظم من جنس فعل المنهي عنه، وأن مثوبة بني آدم على أداء الواجبات أعظم من مثوبتهم على ترك المحرمات، وأن عقوبتهم على ترك الواجبات أعظم من عقوبتهم على فعل المحرمات» (مجموع الفتاوى 20/85).
دلائل
وللدلالة على ما ذهب إليه ساق الريسوني عددا من الآيات تفيد كلها تقديم المأمور به على اجتناب المنهي عنه، وأن المأمور به أدخلُ في البر والتقوى والإيمان من عدم المنهي عنه..
ومنها قوله تعالى “الـم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون…”؛ وفيها وصف الله تعالى المتقين بفعل المأمور به من الإيمان والعمل الصالح من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وقوله تعالى: “يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون” وقوله تعالى: “ليس البر أن تولوا وجوهكم قِـبَل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون”..
ثم يعقب الريسوني: “فلو كان القصد الأساسي من الخلق ومن التكاليف هو ترك المنهيات واجتناب المفاسد، لكان الأفضل تحقيقا لذلك عدم خلق البشر؛ ومعنى هذا أن الناس خلقوا أساسًا ليفعلوا لا ليجتنبوا… وإنما يجب اجتناب المنهيات ومفاسدها، بسبب ضررها بالمأمورات ومصالحها”.
ويستشهد عالم المقاصد المغربي كذلك بالعديد من الدلائل الأولى للبعثة النبوية ليثبت أن النبي ﷺ وقبله الأنبياء جميعا جاءوا أساسًا للتأسيس والبناء والتشييد، أي بالمصالح وعمل الصالحات، مصداقًا للحديث النبوي الشريف: “مَثَلي ومَثَلُ الأنبياء من قبلي، كَمَثَلِ رجل بنى بنيانا، فأحسنه وأجمله، إلا موضع لَبِنة من زاوية من زواياه. فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلاَّ وُضعتْ هذه اللبنة. قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين”.
وهو حديث ليس فيه -وفق الريسوني- ذكر للمفاسد أصلا، لا مقدَّمة ولا مؤخَّرة، وإنما ذُكر البنيان والتحسين والتجميل والتتميم، وكل ذلك مرصَّع ومُحلى بمكارم الأخلاق.
لكنه يستدرك قائلا: “هذا لا يعني، ولا أعني به إغفال مسألة المفاسد وإخراجَها من الحسبان، ولكنه يعني وأعني به، أنها مسألة ضمنية وفرعية وتابعة”.
ويستشهد الفقيه المغربي بقول الإمام الشاطبي رحمه الله: “إن الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية، إذا اكتنفتها من خارجها أمورٌ لا تُرضى شرعًا، فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج؛ كالنكاح الذي يلزمه طلب قوت العيال مع ضيق طرق الحلال واتساع أوجه الحرام والشبهات، وكثيرًا ما يلجئ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز، ولكنه غير مانع لما يؤول إليه التحرز من المفسدة المربية على توقع مفسدة التعرض، ولو اعتُبر مثل هذا في النكاح في مثل زماننا، لأدى إلى إبطال أصله، وذلك غير صحيح.. وكذلك طلب العلم، إذا كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها، وشهود الجنائز، وإقامة وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضى، فلا يُخرج هذا العارضُ تلك الأمور عن أصولها؛ لأنها أصول الدين وقواعد المصالح، وهو المفهوم من مقاصد الشارع، فيجب فهمها حق الفهم، فإنها مثار اختلاف وتنازع”.
الحسنات لا تنتظر التخلية
ولم يتوقف الريسوني عند هذا الحد، بل تطرق إلى قاعدة أخرى كثيرًا ما يرددها الدعاة والعلماء وهي “التخلية قبل التحلية” والتي تروج بين أبناء الحركات الإسلامية.
ويقصد أهل التربية والتزكية بقاعدة “التخلية قبل التحلية” تخلية المسلم وتخليصه من المفاسد والشرور والآثام بشكل مُقدم على تحليته بالفضائل والطيبات، حتى يتم غرسها في أرض خصبة، قابلة لأن تستوعب هذه الخصال الحميدة.
وتعقيبا على ذلك تساءل الريسوني: إذا كان الإنسان قبل أن يتهيأ لتلقي العلم الشريف، عليه أولا أن يكون قد تطهر من الغش، والغل، والحسد، وفساد المعتقد، وسوء الخلق، فماذا بقي أن يستفيده من تلقي هذا العلم؟! وإذا لم يكن العلم هو الذي يطهره من كل هذا، فما جدوى هذا العلم؟..
ويستطرد الريسوني في سرد أدلة أخرى تشير إلى أن التحلية هي التي تحقق التخلية وتساعد عليها، وأن استنبات المصالح والفضائل هو الذي يمكن من دفع المفاسد والرذائل، ومنها قول الله عز وجل: “وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا”، وقال سبحانه: “أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ”
ويعقب قائلا: “فالحسنات لا تنتظر التخلية وإفراغ المكان لها، بل هي التي تنجز التخلية بوجودها، وهي التي تزيل السيئات وتحل محلها، وكذلك الصلاة، لا تنتظر أن يتطهر الإنسان من الفواحش والمعاصي، قبل أن يقدم عليها، بل هي التي تطهره بعد ممارستها والتلبس بها: “اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ”..
ويستطرد: “وكذلك الصيام، لا ينتظر حتى تتحقق له التخلية، بل هو صاحبها فالتحلي بالصيام هو سبيل التخلية ووسيلتها: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ”، والزكاة أيضا: تتحقق وتنفذ أولا، ثم هي التي تطهر وتنقي وتزكي، أي تنجز التخلية والتحلية معا؛ لأن هذا بعض من مقاصدها وحكمة مشروعيتها، قال تعالى “خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا”، فالتطهير يحصل بها ومعها لا قبلها.