إن ثمة حدًّا أدنى لا بد أن يتفق عليه المسلمون والمسيحيون، وهو: “شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا نبي ورسول الله إلى العالمين”.. هذا ما يراه مطران بيروت السابق الأب حداد.. الذي يضيف: “إذا لم يتيقن المسلمون بأن المسيحيين لا يؤمنون بثلاثة آلهة بل بإله واحد؛ فلا يمكن للمسلمين أن يقبلوا بحوار مع المسيحيين، ولا يوجد شيء يمنع بأن يعترف المسيحيون بأن محمدا نبي؛ فمحمد كان السبب في أن يؤمن بالله مليارات الأشخاص منذ بعثه حتى الآن.. فلماذا نبخل عليه بصفة نبي؟”.

وهو يعتقد بحسم أنه لا وجود للتثليث في المسيحية، وأن ما رفضه القرآن في المسيحية ليس من صلب المسيحية، إنما كانت هناك بدع وهرطقات في القرون الأربعة الأولى من ظهور المسيحية. والتثليث الذي رفضه القرآن هو قول قالت به إحدى البدع النصرانية في القرون الأولى، ورفضته المسيحية في المجامع المسكونية الأولى.

إنه الأب حداد المولود عام 1920 في قرية “عبيه” بقضاء “عالية” في منطقة جبل لبنان القريبة من بيروت. جده لوالده كان أرثوذكسيا، بينما والده كان إنجيليا. وبالمقابل فهو قرر أن “يعتمد” على طريقة الروم الكاثوليك، وتابع دراسته الدينية في “المدرسة الإكليركية الشرقية” التي كان يديرها الآباء اليسوعيون في إطار “جامعة القديس يوسف”. هذا التنوع المذهل ربما هو الذي جعله أكثر تسامحا مع الجميع من معتنقي الديانات والمذاهب الأخرى.

اقرأ أيضا:

الحركة الاجتماعية.. الخير للجميع

أسس الأب حداد في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي الحركة الاجتماعية التي تعتبر من أهدافها: المساعدة على إحداث التنمية الشاملة للمجتمع المدني بكل فئاته وطوائفه ومناطقه، على عكس المنطق السائد في لبنان؛ حيث يُعنى رجل الدين بأبناء طائفته فقط. وقد كان لهذه الحركة إسهامات كبيرة في مساعدة المحتاجين في الضواحي الفقيرة لبيروت وفي المناطق النائية من لبنان؛ لذلك أطلق عليه لقب “مطران الفقراء”.

المطران المختلف.. الإقصاء قدره

شارك عام 1965 في أعمال “المجمع الفاتيكاني الثاني”، وحين كان أعضاء المجمع يتناقشون في وثيقة تسمى: “المسيحيون شعب الله” قدم اقتراحا بجعلها: “تلاميذ المسيح” أو “المؤمنون بالمسيح”؛ لأن الجميع هم “شعب الله”. لكن اقتراحه لم يلق قبولا وبقيت العبارة كما هي، ولم ينَل حداد إلا السخط ونظرات الاستهجان.

وفي عام 1968 صار مطرانًا لبيروت، فأصدر مجلة “آفاق”، وهي مجلة عقائدية ما زالت تصدر إلى اليوم، وبعد عدة مقالات اتهم بالهرطقة. ووصل الأمر إلى “الفاتيكان” فشكلت لجنة كنسية للنظر في أمره، ورغم أن اللجنة أقرت ببراءته من الهرطقة وعاد إلى لبنان، لكنه أقصي عن مطرانية بيروت، وأعطي مطرانية شرفية. أي بدون رعية!

وعن هذه المرحلة يقول: لقد كان لهذا الإقصاء بُعد سياسي؛ فالكثير من الزعماء السياسيين كانوا يقولون لـ”البطريرك”: إلى متى تحتمل وجود هذا المطران “الشيوعي” عندك؟ في الوقت نفسه كان الشيوعيون يعتقدون أن أفكاري تعمل على قص العشب تحت أقدام الشيوعية، وهكذا كنت مع الحركة الاجتماعية، متهما من قبل اليمين واليسار معا. وفي عام 1975 ومع بدء الحرب الأهلية ساهم في تشكيل “الإدارة الشعبية” التي كانت تشرف على الأوضاع الأمنية والتنموية في مناطق قضاء “عاليه”.

قرر عام 1992 أن يعتكف في أحد الأديرة، وتخلى عن كافة مسؤولياته في المجال الديني والاجتماعي، وامتنع عن الإدلاء بأي تصريح أو إجراء أي مقابلة صحفية، وبعد 5 سنوات عاد إلى كتابة مقالاته في مجلة “آفاق”، وبعدها بسنة عاد إلى مزاولة نشاطاته الاجتماعية.

وتتويجا لحملة كراهيته فقد تعرض في يوليو 2002 لاعتداء من ثلاثة شبان ينتمون إلى تيار مسيحي يرفض آراء الأب حداد، ويراها خروجا عن المسيحية، وقد أظهرت استطلاعات الرأي أن هؤلاء الشبان يحظون بتأييد نسبي في المجتمع المسيحي اللبناني.

مسلم على الطريقة الكاثوليكية!!

للأب حداد وجهة نظر مختلفة بعض الشيء حول التنوع الديني؛ فهو يقول: “أختار أن أكون مسلما لله على الطريقة الكاثوليكية والأورثوذوكسية والبروتستانتينية والإسلامية؛ إذ عندما نتعمق حقًّا نجد أنه يجب التمييز بين الإيمان والدين؛ فالأديان مختلفة بينما الإيمان واحد، ولو خيرت لكنت اخترت الإيمان المشترك بين جميع الأديان دون إعطاء أهمية كبرى للفوارق الدينية”.

ويرى حداد أن القرآن الكريم يعبر عن هذا الاختلاف بين الإيمان والدين في أكثر من آية كريمة، منها “قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ”، كذلك حين يقول متوجها إلى أهل الكتاب: “وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ”، وهو ما يطلب من الجميع الإيمان به، بينما يقول عنهم في مكان آخر: “لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا” كتعبير عن اختلاف الشرائع والأديان، كما يعتقد أن الخلافات داخل الكنيسة بين المذاهب المسيحية نفسها تعود لأسباب سياسية، اقتصادية، وثقافية حضارية متنوعة.

الثورة على المسلَّمات

في المجال اللاهوتي يعتبر الأب حداد أن المقاييس المعتمدة في الكنيسة التي هي الإنجيل والتقليد الكنسي وتعاليم الكنيسة مقاييس نسبية لا مطلقة؛ فالمسيح فقط هو المطلق، وينبغي تحريره من المسيحيين أولا، ويجب تحريره من الكنيسة المسيحية المستولية عليه، بل تحريره من المسيحية ذاتها التي يرى أنها تأثرت بالثقافات والحضارات الغابرة. بل على حد قوله “يجب تحرير المسيح من المسيح التاريخي؛ أي من التصورات المتأثرة بالتاريخ واللاهوت القديمين، ثم تحرير القيم الإنسانية من إمبريالية واستعمار القيم المسيحية، وذلك ليس إنكارا لتأثير المسيحية على القيم الإنسانية بل لتأكيد مساهمة جميع الأمم في عملية تطور القيم الإنسانية”، ولأن هذه الأفكار تناقش “مسلمات” فإن الراديكاليين المسيحيين يخشون من انهيار كثير من الأفكار؛ لذلك فقد اتهم الأب حداد بأنه يقوم “بنقد جذري للفكر الديني”.

من يخدم الإنسان يخدم الله

يعتبر حداد أن كل إنسان له بعد روحي إضافة إلى البعد المادي والنفسي حتى لو بدا هذا البعد غير مدرك؛ فكل إنسان برأيه على علاقة بالخالق، وبالنسبة له يكفي أن يؤمن الإنسان بالإنسان، ويقدم له خدمات حتى يكون سائرا باتجاه تنمية علاقته بالله، ويستشهد بقول للسيد المسيح –عليه السلام- الذي قال: إنه يوم الدينونة “يقول الرب للذين على يمينه: كنت جائعا فأطعمتموني، وكنت عطشان فسقيتموني، وكنت غريبا فآويتموني، وكنت عريانا فكسوتموني، وكنت مريضا فزرتموني، وكنت محبوسا فأتيتم إلي. فيجيب الأبرار: متى رأيناك جائعا فأطعمناك؟ أو عطشان فسقيناك؟ أو غريبا فآويناك؟ أو عريانا فكسوناك؟ ومتى رأيناك غريبا أو محبوسا فأتينا إليك؟ فيجيبهم الحق أقول لكم: بما أنكم فعلتم ذلك بأحد الإخوة هؤلاء الصغار فبي فعلتموه”.

الكاهن السيد أم الكاهن الخادم؟

يرى حداد أن مسؤوليات السلطة في الكنيسة ليست سلطة عليا بل محض خدمة؛ فالبابا يجب أن يكون “خادم خدام المسيح”، ويذكر بكلمة السيد المسيح الذي قالها لتلامذته: “إنكم تعلمون أن رؤساء الأمم يسودونها، وأن عظماءها يتسلطون عليها؛ فلا يكن فيكم هكذا، بل من أراد أن يكون كبيرا فيكم فليكن لكم خادما، ومن أراد أن يكون فيكم الأول فليكن لكم عبدا.. هكذا ابن الإنسان (السيد المسيح) لم يأت ليخدم بل ليكون هو الخادم”.

كما يستشهد الأب حداد بقول القرآن الكريم “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا”، وكذلك بالآية الكريمة: “فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ”.

ليس ثمة أرض مقدسة

ينفي حداد أن تكون في المسيحية الأصلية فكرة “الأرض المقدسة” لا في بيت لحم ولا الناصرة ولا القدس؛ فالأراضي المقدسة بالنسبة له موجودة حيثما يكون هناك مؤمنون يعيشون مع الله، والكنيسة ليست مقدسة إلا بالنسبة للمؤمنين ليس جدران الكنيسة أو الأيقونات المعلقة بها هو المقدس، المهم هو البشر لا الحجر، وإعطاء الحجر أهمية أكثر من اللازم يصبح وثنية، وعندما سئل: هل هذا تخلٍ سياسي عن فكرة الأرض المقدسة في فلسطين؟ قال: إنه بنظره “كل فلسطين ممنوع أن تبقى مع الإسرائيليين وليس فقط القدس، ومطلوب منا أن نعمل على استرجاعها، ليس لأنها أرض مقدسة؛ بل بسبب الظلم الحاصل على الفلسطينيين”.

اللاعنف سبيل للخلاص

من الأفكار الجديدة التي طرحها الأب حداد بعد خروجه من العزلة التعبدية فكرة “اللاعنف” كسبيل للوصول إلى الأهداف الكبرى للإنسانية، ويميز الأب حداد بين التخاذل، وعدم استخدام العنف، كما يميز بين العنف والقوة. ويعتبر أن هناك وسائل أخرى لمقاومة الظلم والطغيان غير استخدام العنف مثل التعبئة الجماهيرية، واستخدام الوسائل الاقتصادية، وكذلك استخدام وسائل المقاطعة المدنية ضد الحكام والظالمين.

وأخيرا.. قد تتفق مع الأب حداد في الكثير من النقاط، وقد تختلف معه في نقاط أخرى، إلا أنه لا شك يشكل ظاهرة فريدة في انفتاحه الفكري الذي يحلق فيه إلى أبعد مدى؛ بحثا عن الحق والحقيقة، في استعداده لخدمة الناس ببساطة العارفين؛ لما لهؤلاء الناس من كرامة عند الله.