سمير حلبي

"دار العلوم" .. مسيرة قرن من التنوير (في ذكرى إنشائها: 24 من جمادى الأولى 1289هـ)

علي باشا مبارك

يقول الإمام “محمد عبده” في معرض حديثه عن “دار العلوم”: “إن باحثًا مدققًا إذا أراد أن يعرف أين تموت اللغة العربية؟ وأين تحيا؟ لوجدها تموت في كل مكان، ووجدها تحيا في هذا المكان”.

 يرجع الفضل في إنشاء “دار العلوم” إلى “علي مبارك باشا” الذي أحس بالهوة الكبيرة والعميقة التي كانت بين المعلّمين في عصره؛ فقد كان المعلمون الذين يتولون تربية النشء وتعليمه لا يخرجون عن إحدى فئتين:

الفئة الأولى: فئة الأزهريين الذين كانوا يرون أن كل علم خرج عن تلك العلوم التي تلقوها في الأزهر، إنما هو كفر بواح وضلال صريح، وأن الاشتغال به عبث لا طائل من ورائه، فكانوا يرمون مدرسي العلوم الأخرى كالجغرافيا والكيمياء والطبيعة وغيرها بالكفر والإلحاد.

أما الفئة الأخرى: فهي فئة معلمي العلوم الكونية الذين كانوا ينظرون إلى زملائهم من معلمي اللغة العربية والدين نظرة دونية، ويرون فيهم جهلا فاضحًا وضلالا واضحًا.

فأراد “علي مبارك” أن يتلافى ذلك الخلل، ويقرب الهوة بين الفريقين فعمل على تأسيس “دار العلوم” ليتلقى فيها الطلاب العلوم الكونية التي لا تتيسر دراستها في الأزهر، بالإضافة إلى العلوم الشرعية وعلوم اللغة العربية.

النواة الأولى لدار العلوم

بدأت أولى حلقات الدرس في مدرج بالمكتبة الخديوية التي صارت نواة لدار الكتب المصرية، في يوم الخميس [1 من صفر 1288 هـ= 6 من مايو 1871م]، وقد سمي هذا المدرج بـ”دار العلوم”.

وكان يقوم بإلقاء تلك الدروس نخبة من كبار العلماء والمعلمين على رأسهم “علي مبارك باشا”، وكانت تلك الدروس تمثل تثقيفًا عامًا، وقد أبيح للناس كافة على اختلاف طبقاتهم وثقافتهم حضور هذه الدروس. ولكن مؤسس هذا المشروع لم يقنع بتلك الوظيفة المحدودة للدار، فبعد مضي نحو شهرين من افتتاح “دار العلوم” للدروس العامة، طلب “علي مبارك باشا” من الشيخ “محمد العباسي” شيخ الأزهر تعيين بعض العلماء للتدريس بالدار، وتم اختيار ثمانية من نجباء طلاب الأزهر، بالإضافة إلى طالبين آخرين لحضور دروس “دار العلوم” العربية والشرعية إلى جانب ما يختارونه من العلوم الأخرى كالفلك والطبيعة، ليتم بعد ذلك اختيار المدرسين منهم، ومن هؤلاء الطلاب العشرة تكونت الفرقة الأولى، وهي نواة مدرسة “دار العلوم”.

مدرسة دار العلوم

وبعد عام من بدء الدراسة في “دار العلوم” سعى “علي مبارك” إلى جعلها مدرسة مستقلة، واستطاع في [ 24 من جمادى الأولى 1289هـ= 29 من أغسطس 1872م]، استصدار قرار من الخديوي إسماعيل بفتح مدرسة “دار العلوم” واختير لها خمسون طالبًا، وبموجب هذا القرار تم قبول (32) طالبًا، منهم:

محمد علي المنياوي، وحسين جلال المصري، وعبد العظيم مصطفي، وعبد الواحد وافي، والسيد أيوب العابدي، وعبد الباري وهبة، وكان ناظر المدرسة “حامد نيازي” الذي كان معاونًا بدار الكتب.

وقد استمر عدد الطلبة أقل من (50) طالبًا حتى عام [ 1300 هـ= 1882م] وفي عام [1301 هـ= 1883م] بلغ عدد طلبتها (56) طالبًا.

وكان أول من تخرج فيها الشيخان “محمد عبد الرؤوف”، و” عمر إبراهيم السمالوطي”.

المرحلة الأولى: النشأة

مرت دار العلوم بمراحل كثيرة منذ نشأتها الأولى وحتى الآن، وكانت في الفترة الأولى من عهدها التي امتدت لنحو خمسة عشر عامًا ـ من [ 1289 هـ= 1872م] إلى [1304 هـ= 1887م] ـ ليس لها منهج دراسي مطبوع ولا مدة دراسية محددة، فقد تخرج الطلاب في الأعوام الثلاثة الأولى بعد عام دراسي واحد درسوا خلاله التفسير، والفقه، والعلوم الأدبية، والتاريخ العام، والجغرافيا، والحساب، والهندسة، والكيمياء، والطبيعة، والخطوط العربية.

وفي عام [ 1292هـ= 1875م] تم طبع المناهج الدراسية، ووزعت على خمس سنوات دراسية، وكان عدد الطلاب في عام [ 1293هـ= 1876م] لا يزيد عن (16) طالبًا، وأصبح عددهم (38) طالبًا في عام [ 1294 هـ=1877م] موزعين على فرقتين دراسيتين.

وفي سنة [1297 هـ=1880م] اشترطت نظارة المعارف عقد الامتحان العملي لخريجي “دار العلوم” بالمدارس الابتدائية التمرينية قبل تعيينهم، وأضافت النظارة مادة اللغة الفرنسية إلى مواد الدراسة للفرقتين الثانية والثالثة.

وفي عام [ 1302هـ= 1885م] ضُمّت “مدرسة الألسن” إلى “دار العلوم”، وأصبح متاحًا للطلاب تعلم إحدى اللغتين: الفرنسية أو الإنجليزية، وكان الطلاب يتلقون دروس الكيمياء والطبيعة في مدرسة الطب مرة كل أسبوع.

المرحلة الثانية: الحركة والتغيير

وقد امتدت هذه الفترة لمدة ثماني سنوات ـ من [ 1304 هـ= 1887م] إلى [1313هـ=1895م] ـ وتميزت بالحركة المستمرة، ففي عام [1304 هـ=1887م] أصدر مجلس النظار قانونًا يحدد العلوم التي تدرس بدار العلوم، وهي:

اللغة العربية (نحو وصرف)، ورسم الحروف (الإملاء) وعلوم الأدب، (بيان ومعاني وبديع)، والعروض والقوافي، والمنطق، والإنشاء، والفقه الحنفي، وتفسير القرآن، والحساب، والهندسة، والجبر، والتاريخ العام، والجغرافيا، والطبيعة، والكيمياء، والتاريخ الطبيعي، وخط الثلث، وخط النسخ، وخط الرقعة، وطرق تعليم الأطفال.

وأباح للطالب اختيار إحدى اللغات الثلاث: التركية، والفرنسية، والإنجليزية، ليتعلمها وفي عام [ 1305هـ= 1888م] أضيف إلى المواد التي يدرسها الطلاب: علم الأصول، وعلم الهيئة، وعلم الجيولوجيا (طبقات الأرض)، وأصبح خريجو دار العلوم يعملون في وظائف: القضاء والإفتاء والنيابة بالمحاكم الشرعية، بالإضافة إلى التدريس.

وفي عام [1309هـ= 1891م] صدر قرار بإنشاء قسم يختص بتخريج معلمين يقومون بتربية وتعليم الأطفال، أطلق عليه “القسم الثاني” من مدرسة “دار العلوم”، على حين ظلت المدرسة الأصلية كما هي، وسميت “القسم الأول”، إلا أن ذلك القسم سرعان ما ألغى في عام [1313هـ= 1895م].

المرحلة الثالثة: الطور التربوي

"دار العلوم" .. مسيرة قرن من التنوير (في ذكرى إنشائها: 24 من جمادى الأولى 1289هـ)

أمين سامي باشا في وسط هيئة تدريس دار العلوم

وتمتد من سنة [ 1313 هـ= 1895م] إلى [1331 هـ= 1913م]، وفيها قررت النظارة تسمية مدرسة “دار العلوم” باسم ” قسم المعلمين العربي”، ووضعت تحت إدارة “أمين سامي باشا”، وتم تعديل توظيف بعض المواد بها لزيادة دروس التربية في جميع سنوات الدراسة، وجعل اللغة الأجنبية إلزامية، وأدخلت الرياضة البدنية بها.

وفي عام [1315 هـ= 1897م] تم اعتماد قانون مدرسة قسم المعلمين العربي الذي نص على أن مدة الدراسة بها أربع سنوات تسبقها سنة تحضيرية.

وفي عام [ 1318 هـ= 1900م] انتقلت المدرسة إلى مقرها الجديد بالمنيرة، وأصبح اسمها “مدرسة المعلمين الناصرية”.

وفي سنة [ 1331 هـ= 1913م] تقرر جعل السنة التحضيرية هي السنة الأولى من سنوات الدراسة الخمس، كما تقرر التوسع في تدريس قانون الصحة، وعلم النفس للسنتين الدراسيتين الأخيرتين.

المرحلة الرابعة: النهوض والاتساع

وهي تمتد من سنة [ 1331 هـ= 1913 م] إلى سنة [1338 هـ= 1920م]، وفي هذه المرحلة اتسعت “دار العلوم” اتساعًا لم يسبق له نظير، وزاد عدد طلابها زيادة عظيمة، إلا أن هذه الزيادة واكبها ضعف في مستوى المتخرجين فيها، وكان من نتيجة ذلك إنشاء القسم التجهيزي لدار العلوم.

المرحلة الخامسة: التقلبات والتحولات

وامتدت هذه الفترة من سنة [1338 هـ= 1920م] إلى سنة [ 1349 هـ= 1930م]، وقد اتسمت هذه المرحلة بكثير من التقلبات والتحولات، فظهرت عدة نظم وعدة أقسام، لكل قسم منهج خاص، وذلك نتيجة لوجود نوعيات مختلفة من الطلاب، فبعض الطلاب قُبلوا بعد النجاح في امتحان الدخول على النظام القديم، وبعضهم حصلوا على شهادة القسم الأول من مدرسة القضاء الشرعي، وبعضهم أتموا الدراسة الثانوية بالمعاهد الدينية، وبعضهم حصلوا على شهادة العالمية من مدرسة القضاء الشرعي، فضلا عن الطلاب الذين درسوا في تجهيزية دار العلوم، بعد حصولهم على شهادة الدراسة الثانوية.

المرحلة السادسة: الاستقرار على نظام واحد

وتمتد من سنة [ 1349هـ= 1930م] إلى [1357 هـ= 1938م] وفي هذه المرحلة انتهت الدراسة المتشعبة لطوائف الطلاب المختلفة بانتهاء سنة [1349هـ= 1930م]، ومع بداية سنة [ 1350 هـ= 1931م] استقر الحال في “دار العلوم” على نظام واحد هو النظام الخاص بخريجي تجهيزية دار العلوم ومن في مستواهم.

المرحلة السابعة: تشكيل المجلس الأعلى لدار العلوم

من سنة [ 1357 هت= 1938 م] إلى سنة [1364 هـ= 1945م] وقد امتازت هذه المرحلة بإنشاء قسم داخلي للطلاب للمرة الأولى في تاريخ “دار العلوم”، وصارت سنوات الدراسة بالدار ست سنوات، كما تم تكوين مجلس أعلى لها، وأصبح ناظر المدرسة يسمى عميدًا.

وبتشكيل المجلس الأعلى لدار العلوم من: وكيل وزارة المعارف (رئيسًا) وبقية المجلس من الأعضاء، ويتم اختيارهم على النحو التالي:

وكيل وزارة المعارف المساعد أو سكرتيرها العام، وأقدم مراقبي التعليم العام بوزارة المعارف، وعميد دار العلوم، وعميد معهد التربية للمعلمين، والمفتش الأول للغة العربية، وأستاذ الأدب العربي بكلية الآداب بالجامعة المصرية، وأحد أساتذة دار العلوم.

ويختص المجلس الأعلى بترشيح أعضاء هيئة التدريس واقتراح ترقيتهم، واقتراح القوانين واللوائح وخطط الدراسة والمناهج الخاصة بالدار، وتوقيع عقوبتي فصل الطلاب نهائيًا أو حرمانهم من دخول الامتحانات.

المرحلة الثامنة: دار العلوم كلية جامعية

وفي سنة [ 1364هـ= 1945 م] أقر المجلس الأعلى لدار العلوم فكرة جعل “دار العلوم” كلية جامعية للتخصص في الدراسات العربية مع احتفاظ الدار بكيانها وطابعها الإسلامي الخاص، واسمها التاريخي، على أن تصبح الدراسة بالكلية لمدة أربع سنوات بدلاً من ست سنوات، فضمت السنتان الخامسة والسادسة من الدار إلى معهد التربية في عام [1364هـ= 1945م]، وانضمت كلية دار العلوم إلى جامعة “فؤاد الأول” (القاهرة فيما بعد).

من أبناء دار العلوم

تخرج في “دار العلوم” على مدى تاريخها الطويل عدد كبير من أبناء الدار الذين سعوا إلى نشر رسالة الدار في حفظ اللغة العربية في كل مكان، وقد أنجبت الدار عددًا كبيرًا من العلماء والمشاهير عبر مسيرتها العلمية الطويلة الحافلة، ومن هؤلاء:

  • محمد علي المنياوي (1292 هـ = 1875م)، ومحمد أحمد صالح باشا (1297هـ=1880م).
  • محمد حفني ناصف (1299 هـ = 1882م)، وأحمد الحملاوي (1305هـ=1888م).
  • طنطاوي جوهري (1311 هـ= 1893م)، ومحمد الخضري ( 1313 هـ= 1895م)
  • وعبد العزيز جاويش (1315هـ= 1897م)، وأحمد علي الإسكندري (1316هـ=1898م)
  • ومصطفى أمين إبراهيم ( 1325 هـ= 1907م)، وعلي الجارم (1326هـ= 1908م)
  • وأحمد علي ضيف (1327هـ= 1909م)، وزكي محمد المهندس (1328هـ=1910م)
  • والسباعي السباعي بيومي (1329هـ= 1911م)، ومحمد عبد الجواد ( 1332هـ=1914م)
  • وعلي النجدي ناصف (1339هـ= 1921م)، ومحمد عطية الإبراشي (139هـ= 1921م)
  • وعلي عبد الواحد الوافي (1344هـ= 1925م)، وحسن أحمد عبد الرحمن البنا (1346هـ= 1927م).
  • ومحمد أحمد برانق (1347هـ= 1928م)، ومحمد خلف الله أحمد (1347هـ= 1928م)
  • ومحمود رزق سليم (1347هـ=1928م)، وإبراهيم إسماعيل الإبياري (1348 هـ= 1929م)
  • وإبراهيم أنيس أحمد (1349هـ= 1930م)، ومحمد سعيد العريان (1350هـ=1930م)
  • وعبد السلام محمد هارون (1351هـ= 1932م)، وعمر إبراهيم الدسوقي (1351هـ=1932م)
  • ومحمد عبد الغني حسن (1351هـ= 1932م)، وأحمد أحمد بدوي (1352هـ=1933م)
  • وسيد قطب إبراهيم (1352هـ=1933م)، ومحمد ضياء الدين الريس (1354هـ= 1935م)
  • وأحمد محمد الحوفي (1355هـ= 1936م)، والعوضي الوكيل (1356 هـ= 1937م)
  • وطاهر محمد توفيق أبو فاشا (1359 هت= 1940م)، ومحمد غنيمي هلال (1360هـ=1941م)
  • وأحمد محمد جاب الله شلبي (1362هـ= 1943م)، وتمام حسان عمر محمد داود (1362هـ= 1943).
  • وكمال محمد علي بشر (1365 هـ= 1946م)، وأحمد عبد المقصود هيكل (1367 هـ= 1948م).
  • وعبد الحكيم عبد الحميد محمد بلبع (1368 هـ= 1949م)، وعبد العزيز السيد مطر (1369هـ= 1950م)
  • وعبد العال سالم علي مكرم (1369 هـ= 1950 م)، والطاهر أحمد مكي (1371هـ= 1952م)
  • وعلي حسن محمود حبيبة (1372 هـ= 1953م)، وصلاح الدين الهادي سليمان (1956م)
  • وعبد الصبور شاهين محمد موسى (1375هـ= 1956م)، أحمد مختار عمر عبد المجيد (1378هـ= 1958م)
  • وغيرهم كثيرون وكثيرون، وما زال نهر العطاء يتدفق، وما زال جيل الأبناء يواصل مسيرة الآباء، ويترسم خطى ذلك السلف العظيم الذين بنوا منارة تلك الدار التي صارت بحق “دار العلوم” وأصبحت قبلة الدارسين، ومحط أنظار محبي اللغة العربية في كل ربوع الدنيا.

أهم مصادر الدراسة:

  • تقويم دار العلوم [العدد الماسي يصدر لمرور 75 عامًا على المدرسة].
  • محمد عبد الجواد: دار المعارف بمصر ـ القاهرة = [ 1380هـ= 1960م].
  • علي مبارك أبو التعليم: د. حسين فوزي النجار ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة ـ [ 1407هـ= 1987م] ـ [ أعلام العرب= 129]
  • علي مبارك ـ حياته ومآثره: محمد عبد الكريم ـ مطبعة الرسالة ـ القاهرة [د.ت]
  • علي مبارك مؤرخ المجتمع ومهند العمران: د. محمد عمارة ـ دار المستقبل العربي ـ بيروت = [1404هـ= 1984م].