ناهد إمام
د.هبة رؤوف عزتهبة رؤوف عزت. واحدة من أهم المفكرات الإسلاميات في الوقت الحاضر، ولأنها ليست نموذجًا تقليديًّا للمرأة المسلمة الأكاديمية المحجبة فقد خاضت التنظير المتقن، واستطاعت أن تبلور العديد من الصّيغ الاجتهادية في موضوعات السياسة العامة وعلاقات الدين بمؤسسات المجتمع المدني. شاءت الأقدار أن أكون وقتها إحدى طالبات كلية الإعلام بجامعة القاهرة اللاتي جذبتهن العبقرية الفكرية لهبة رؤوف في أوائل التسعينيات، عندما كانت تناظر “نوال السعداوي” في موضوعات النسوية كنا نتسابق للوصول إلى قاعات المناظرة قبل موعدها، وكانت هي الأقل كلامًا والأكثر تجرّدًا وعلمية، وفي نهاية المناظرة لا تملك إلا أن تسلمها راية الانتصار، بينما لا تعبأ هي كثيرًا بذلك، فهناك مشوار طويل وساحات كثيرة ما زالت تنتظرها!.
المزيد عن رسالة الدكتوراه :
دراسة: مواطنة المصريين غير واضحة المعالمقارب النجاة الذي ألقته هبة رؤوف لجيلي ومن تتالى بعدي من الأجيال مثَّل علامة فارقة في حياتنا وتوجهاتنا جميعًا، وكنزًا كنّا نفتش عنه في ظل التيه الفكري والثقافي والمجتمعي الذي يحيط بنا.النسوية
فمن خلال موضوع النسوية طلت على عقولنا في رفض لواقع المرأة، بما في ذلك ما تبشّر به بعض الرؤى الإسلامية والتي تجمّد حركة المرأة أو تعزلها وتحيطها بالأوهام الذكورية, فهي تدعو إلى قوامة حقيقية، نابعة من العدل، ومنها تؤسس مفهوم المساواة الحقيقية.
أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة والكاتبة والمفكرة والناشطة النسائية كانت قد حصلت على درجة الماجستير في العلوم السياسية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة سنة 1413ﻫ/ 1992م، وتناولت فيها مسألة مهمة من المسائل المطروحة اليوم على الساحة الفكرية الإسلامية، ألا وهي قضية المرأة والعمل السياسي في الفكر الإسلامي.
وهي لا تعيش بإنتاجها الأكاديمي والفكري في برج عاجي وإنما تقتحم واقع الحياة العامة بشكل غير عادي، فهي مؤسس لرابطة الأمهات المصريات التي يراد لها أن تؤسس عمليًّا لدور فاعل للأمهات في الحياة المدنية، وحركة “سجين” المعنية بالدفاع عن السجناء السياسيين والتي ابتدعت “هبة” فيها أسلوبًا جديدًا في ربط القضايا السياسية بالمواطن العام وبحياته العادية، إلى اهتمامها الأدبي وعلاقتها المميزة مع الأديب العالمي باولو كويليو والذي زارَ القاهرة عبرها.
في كل ذلك تقدّم هبة نفسها باعتبارها مسلمة معاصرة، تجتهد بفكرها المتنوِّر في شئون المرأة والرجل معًا، ولا تقبل رأيًا إلا عن قناعة وجدال علمي لا يخدشه الانسلاخ عن الانتماء الديني، وتمارس شراكتها في المجتمع بجدارةٍ وبمبادرات قيادية أيضًا.
ولأن هذا بعض من انشغالاتها وسماتها ولأنها إلى جانب ذلك كله وقبله أم لثلاثة من الأطفال، فقد خرجت أخيرًا دراستها عن المواطنة إلى النور ونالت عنها درجة الدكتوراة.
مرتبة الشرف الأولى
تهنئة خاصة من والدتهاففي يوم الخميس 31-5-2007 تجمعت ألوان الطيف السياسي في قاعة “ساويرس” بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بمصر؛ لمناقشة رسالتها التي حصلت بها على دكتوراة الفلسفة في العلوم السياسية مع مرتبة الشرف الأولى مع التوصية بطباعة الرسالة على نفقة الجامعة، وتبادلها مع الجامعات العربية بعنوان “المواطنة.. دراسة لتطور المفهوم في الفكر الليبرالي”.
الدراسة التي أصلَّت لمفهوم المواطنة في الفكر الليبرالي الغربي، ودعت إلى العمل على تطوير النظرية السياسية في العالم العربي والإسلامي لتصوغ رؤى ديمقراطية للمواطنة من ناحية، وتزود الفضاء النظري الغربي بمفاهيم ثرية؛ وذلك لإحداث تفاعل الثقافات على مستوى النظرية الاجتماعية المعاصرة، استطاعت أيضًا من خلالها ربط العلوم البينية مثل علم الاجتماع والتاريخ والفلسفة والجغرافيا بالظاهرة السياسية فأبدعت وتميزت، وقد عبر د. سيف الدين عبد الفتاح أستاذ النظرية السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، عن ذلك بقوله “الجمع بين المسالك راحة للسالك”!.
مضيفًا أن ذلك من شأنه أن يزيد الأنس والتواصل والفهم للظاهرة السياسية، مشيرًا إلى أن الباحثة تنتمي لمدرسة تؤكد أن التفلسف ضرورة لعملية التنظير فكان المفهوم سيرة ومسيرة وصيرورة.
على منصة المناقشة اصطف الأساتذة.. د. حورية مجاهد أستاذة العلوم السياسية بالكلية “المشرفة على الرسالة”, د. سيف الدين عبد الفتاح، د. علي ليلة أستاذ الاجتماع بكلية الآداب جامعة عين شمس.
جمهور مميز مثّل الحالة المعرفية والثقافية في مصر.. عدد كبير من أساتذة السياسة والشريعة والإعلام والأدب بالإضافة إلى الناشطين وممثلي أحزاب وإعلاميين، وطلبة وطالبات الكلية امتلأت بهم قاعة المناقشة في مشهد وصفته الدكتورة حورية بأنه نادر الحدوث في مناقشة رسائل جامعية صعبة كهذه بالكلية، قالت: “إنها رسالة حب في رسالة ينتظر الجميع حصول صاحبتها على درجتها العلمية وكأن الجميع عائلتها”!.
في البداية عرضت الباحثة هبة رؤوف باختصار شديد فحوى دراستها محل المناقشة وأهمية الموضوع شاكرة في النهاية أساتذتها بالكلية، وكل من ساندها فكريًّا وبحثيًّا ومعرفيًّا، وخصت بالذكر والشكر والدعاء الدكتور عبد الوهاب المسيري والدكتور علي جمعة، ومن أسرتها شكرت والدتها وبناتها.
في ود غريب
أما المناقشة التي غالبًا ما “يعصر” فيها الأساتذة الباحث فقد بدت منصفة وقوية ولكن في ود غريب وصفه د. علي ليلة أستاذ الاجتماع مداعبًا الباحثة: “إنه تأثير الهيمنة الفكرية التي تمارسها هبة على من يقترب منها والتي أحاول أنا شخصيًّا أن أنجو منها على الأقل لمصلحة المناقشة والبحث العلمي وطقوس المناقشة!”.
وصف الدكتور ليلة “المواطنة.. دراسة لتطور المفهوم في الفكر الليبرالي” بأنه بحث متماسك المعمار إلى حد بعيد يغلب عليه الطابع التجريدي الصعب، فيما تدفقت في الوقت نفسه -على حد وصفه- أفكار الباحثة بغزارة في حيوية وقوة الشباب، وأضاف: عندما تتأمل البحث تجده عبارة عن تقاطع 3 خطوط هي: باحث متميز جاد وأستاذ مشرف مقتدر أما الضلع الثالث فهو قضية تعيش الآن حالة أزمة، تصادف معها أن العلوم الاجتماعية لم تَعُد تستند إلى ما يسمى بالحقائق الثابتة، فالحقائق الآن متدفقة في حالة من السيولة تحتاج إلى باحث جاد يستطيع الإمساك بها.
أما د. عبد الفتاح سيف الدين فقد تميزت مناقشته بخفة دم واضحة خففت ما يمكن أن يشوب هذه الأجواء الصارمة من جدية وتوتر، ابتدأ د. سيف بالقول: إننا اليوم نشهد مولد منظرة في رسالة تعبر عن جهد تنظيري غاية في الأهمية وعلامة بارزة ومهمة في تاريخ كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.. فقد أرهقني أنا شخصيًّا المعمار المسبوك للرسالة والجرعة التنظيرية الدسمة التي أضافت إلى معنى العلوم السياسية، حيث استطاعت الباحثة رغم كثرة المراجع -386 مرجعًا أجنبيًّا وخمسة مراجع عربية- أن تهيمن على مادتها قبل أن تهيمن على قرائها.
وفي قفشة باسمة تحدث د. عبد الفتاح قائلاً: لقد توقفت قليلاً في مقدمتك التي أشرت فيها إلى أن الباحثة إنما أرادت بطول مدة البحث منذ التسجيل عام 93 عدم التعجل حتى تظهر الرسالة في صورة لائقة!.
وأرجو يا هبة ألا تكوني قدوة للباحثين في التريث “14 عامًا”.. ولولا أنني أعرف أنك ناشطة وباحثة كثيرة الحركة والبحث والمشاركة في المؤتمرات والفعاليات العربية والعالمية لما تفهمت الأمر!.
ثم استطرد قائلاً: ولكن من كرم الله عليك أن موضوع المناقشة “المواطنة” لم تنقض أهميته مع الأيام، وإنما حدث العكس تمامًا بأن ازداد سخونة وأهمية.
وهكذا خرجت رسالة المواطنة المفهوم المركب والمتشابك والمتشعب أيضًا كمفهوم قديم ارتبط بنشأة علم السياسة إلى النور، واستعصت على التجاهل والاستغناء فكان محل بحث عميق من الباحثة هبة رؤوف كمفهوم عابر للفجوات التي صنعتها العولمة.
تعلمت وعلمت
أما خاتمة د. سيف التي سبقت المداولة، وصفق لها الجمهور طويلاً: “حق لهبة أن تفخر بعملها فقد جمعت فأوعت، ونقدت فأحسنت، وحللت فأمعنت، ونظمت فأحسنت، ونظرت فتمكنت، وأظنها في رسالتها تعلمت وعلمت.. وأنا ممن تعلموا” فقد جعلت دموع الكثيرين أيضًا تتساقط مع التصفيق “دموع الفرح طبعا”!.
وبصفتي شاهد عيان أستطيع القول: إن مناقشة رسالة الدكتوراة تلك انقلبت إلى احتفالية بديعة بالفعل زيّنها وبشكل لافت كم هائل من الورود الرائعة المتنوعة التي امتلأت بها قاعة المناقشة، وممرات الكلية الموصلة إليها وكأنه عرس جميل في حديقة ربيعية، احتفى فيه الجميع وفرح بهبة وكأنهم يعرفون جيدًا أنه من إحدى تعريفاتها أيضًا أنها “عاشقة الورد”!.
تحية للدكتورة هبة الإنسان والأم لـ(نوران وإيمان وعلى)، وأستاذتي التي شرفت بالقرب من عقلها “كمفكرة وباحثة متألقة” وقلبها “كداعية متميزة” ووجهها “كإنسان قريب يرشد وينصح” فتتلمذت على يديها.
وكل التهاني لنا جميعًا بمولد عالمة ومنظرة مسلمة، مبدعة، مجددة.. ساهمت وستساهم بشكل كبير في تشكيل وعي الكثيرات والكثيرين أيضًا.. رجالاً ونساء.. تحمل بتألقها الفكري وإنجازها المتواصل شعلة نور وخلاص لمجتمعاتنا وأمتنا بأسرها.. وتؤمن أن الأمل كبير والخير قادم إن شاء الله.. ونحن أيضًا!.
صحفية مهتمة بالشأن الاجتماعي.