تستغرق الرواية عادةً مساحة زمنية كبيرة تعتبر بمثابة ” الأرضية الزمنية” التي تقف عليها الرواية، أو “الشريان الزمني” الذي تجري فيه دماء أحداث الرواية؛ ولذا فمن الصعب على كاتب رواية تجاهل المناسبات الزمنية الهامة التي يعيشها مجتمع روايته بما فيها من مواسم وأعياد ومناسبات دينية أو وطنية، فيشير الكاتب إلى هذه المناسبات أو يقف عند بعضها قليلاً أو طويلاً حسب موضوع روايته، ورمضان في الرواية العربية وسيلة جيدة لوصف الحياة الاجتماعية.
من هنا، فكثيرًا ما نجد “شهر رمضان المبارك” يحتل مكانًا مرموقًا في عدد كبير من الروايات العربية.. (بل إن بعض الروايات تدور أحداثها بالكامل خلال شهر رمضان مثل رواية إحسان عبد القدوس الشهيرة “في بيتنا رجل”).
فرمضان ليس مجرد مناسبة عابرة ليوم أو يومين.. إنه شهر كامل.. وأثره في الحياة والناس والعادات اليومية كبيرة يمتد لفترة غير قصيرة بعد انقضائه، بالإضافة إلى التغيرات العميقة التي تحدث في أيام رمضان ولياليه والتي تستهوي الأدباء فيصفونها في رواياتهم.
ورمضان في الرواية العربية تظهر الفروق بين طبقات المجتمع من خلال وصف عاداتهم في رمضان، فرغم عمومية مظاهر الاحتفال الاجتماعي بالشهر الكريم؛ فإن لكل طبقة ـ اجتماعية أو مهنية ـ خصائص مختلفة في بعض تفاصيل هذا الاحتفال..
كما أن تعامل شخصيات الرواية مع رمضان يلقي ضوءًا باهرًا على طبيعة الشخصية، فهو شهر الشفافية والصفاء والسمو النفسي، فوصف الشخصية وتصرفاتها في أيام وليالي رمضان يبين الفرق بين الشخصية المتدينة الجادة، والشخصية الغليظة أو المستهترة أو اللامبالية..
هذا بالإضافة إلى الطابع “الكرنفالي الشعبي” في عيد مستمر لمدة شهر كامل، والطابع “الأنثروبولوجي” في حالة ما إذا كانت أحداث الرواية تدور في الماضي البعيد أو القريب، وهو أمر يغري القلم بالحديث والاسترسال، ويجعل الخواطر والمشاعر تتدفق على ذهن الروائي أو الشخصية الروائية.
وسوف نعرض هنا لثلاثة نماذج روائية تتناول شهر رمضان بطرق مختلفة، وهذه الروايات هي: “خان الخليلي” لنجيب محفوظ، و”الرهينة” لزيد مطيع دماج، و”مد الموج” لمحمد جبريل.
فإذا كان شهر رمضان خلفية لرواية “في بيتنا رجل” فإنه ” شخصية فاعلة” في رواية “خان الخليلي” لأن كثيرًا من الأحداث، والتفاعل بين الشخصيات وبعضها، وبينها وبين المكان واللحظة الزمنية الروائية ما كان ليتم بالشكل الذي جرى في الرواية في غير رمضان، في “جو رمضان” في مدينة القاهرة في أثناء الحرب العالمية الثانية هذا هو الإطار الزمني الذي تتحرك فيه الرواية، والكاتب على وعي بكل تفصيلات هذا الجو وطقوسه السائدة وبالذات في الأحياء الشعبية ولدى الطبقة المتوسطة في مدينة القاهرة، وهو يستخدم هذا الجو وهذه التفصيلات ليدفع الأحداث إلى الأمام، وليرسم الإطار الواقعي لعمله..
ورواية عربية أخرى تطرقت لرمضان هي للكاتب اليمني زيد مطيع دماج حيث قدم في رائعته “الرهينة” ما يمكن أن يكون “بانوراما” متكاملة لشهر رمضان في اليمن في الأربعينيات من القرن العشرين، فهو يقارن بين طقوس الاحتفال برمضان في القرية والمدينة، ولدى الفقراء والجنود والأمراء، ولدى الرجال والنساء، ورمضان هنا أيضًا ليس مجرد وصف فلكلوري لطقوس معينة، ولكن الكاتب يستخدمه بذكاء للتعبير عن تفتح وعي الشخصية الروائية الرئيسة في الرواية، وذلك من خلال ملاحظته للفروق المختلفة في طقوس الاحتفال برمضان، وما يشير إليه هذا الاختلاف من اختلافات أعمق على المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فرمضان في هذه الرواية أيضًا يمكن اعتباره “شخصية فاعلة” أو محركًا أساسيًّا/ حافزًا؛ لتطور الوعي في الرواية مما يدفع بأحداثها إلى الأمام ويطورها.
” مد الموج” هي رواية عربية أخرى تطرقت لشهر رمضان للكاتب المصري “محمد جبريل” .. وسبب تميزها وقوعها في منطقة وسطى ما بين الرواية والسيرة الذاتية، بل هي نتاج حوار جدلي إيجابي بين مكونات وأسس بناء العمل الروائي وأدب السيرة الذاتية، بحيث حصلنا على عمل ينتمي إلى كل منهما، لكنه متميز عنهما أيضًا.. وقد استخدم الكاتب في هذا العمل أسلوب الفن التشكيلي في التعبير وبالذات تقنية “التبقيع اللوني” الذي يعتمد على التحاور بين بقع اللون ومساحات الضوء على فضاء اللوحة مما يعطي لها معناها النهائي.. في “مد الموج” يتعرض “محمد جبريل” لرمضان من خلال ذكريات الطفولة، فيصف ألعاب أطفال الإسكندرية في رمضان منتصف الأربعينيات.
ويصف محمد جبريل ليلة الرؤية قائلاً: ” وجاء مساء الرؤية” وانتظر الناس بعد الغروب يتساءلون، وعند العشي أضاءت مئذنة مسجد الحسين إيذانًا بشهود الرؤية ـ وقد اجتزءوا بالإضاءة عن إطلاق المدافع لظروف الطوارئ ـ وازينت المئذنة بعقود المصابيح مرسلة على العالمين ضياء لألاء، فطاف بالحي وما حوله جماعات مطبلة هاتفة ” صيام صيام كما أمر قاضي الإسلام” فقابلتها الغلمان بالهتاف والبنات بالزغاريد، وشاع السرور في الحي كأنما حمله الهواء الساري، فلم يملك أحمد عاكف أن يقول: أين من رمضان شارع قمر؟!
فابتسم والده وقال: وما رأيت مما رأيت يا غلام؟!.. أشهدت رمضان في حيّنا الجديد هذا قبل اندلاع الحرب؟.. إنه النور والسرور، إنه الليل المنير اليقظان، إنه الليل العامر بالسمار والمنشدين واللهو البريء، وفي أيام الفتوة والصحة كنت أسري قبيل السحور بساعة في جمع من الإخوان من السكاكيني إلى حيّنا هذا نتسحر كوارع ولحم الرأس وندخن البوري في مقهى الحسين ونستمع إلى أذان الشيخ على محمود ثم نعود”.
ويقول عن ليلة القدر : ” ثم كانت ليلة القدر من الشهر المبارك فاحتفلت بها الأسرة احتفالاً بدا في الدجاجة المحمرة التي ازدانت بها سفرة الإفطار وصينية الكنافة، وعند العشاء راحت الست دولت تدعو لبلعها بالصحة ولولديها بطول العمر والسعادة، أما عاكف أفندي ـ الأب ـ فذهب إلى مسجد سيدنا الحسين لشهود احتفال رابطة القراء بالليلة المفضلة، فكانت ليلة سعيدة وقبل أن يأووا إلى أسرتهم قبيل الفجر أطلقت صفارات الإنذار فارتدوا معاطفهم وهرعوا بين جموع السكن إلى المخبأ”.
وعلى لسان بطل رواية الرهينة يصف “زيد مطيع دماج” رمضان في قرية في حضن الجبل قائلًا: “نسكر لسماع آيات القرآن الكريم. نحفظها على ضوء سراج زيتي ذي ذبائل قطنية حارقة”.. وفي قلعة الرهائن “كان رمضان بالنسبة إلى العساكر ورئيسهم والفقيه المعلم أيضًا رتيبًا.. فبعد الفرجة على مدافع رمضان التي تطلق من جوارنا، كنا نتناول طعام الإفطار ثم نهجع ونستكين فترة ونخلد للنوم لنقوم باللعب في الصباح”.. وفي دار النائب “يختلف جو رمضان.. هنا تغمرنا أنوار بيضاء لبنية وتعم كل غرفة ، وديوان النائب مكتظ دائمًا بالسمار، وأحاديث تقال كل ليلة تلوكها الألسن عن الشعر والأدب والسياسة، ومنادمات لا تصل إلى درجة السماجة إلا في بعض الأحيان، أما نساء قصر الحاكم “فلهن مريدات للسمر أيضًا، معظمهن من الجيران وبعض الأسر العريقة ذات المركز الاجتماعي المرموق، وفي بعض الليالي يفاجأن بنسوة من الأسرة المالكة، من قصور ولي العهد، اللواتي تطغى روائحهن العطرية على كل مخلفات الدخان المتصاعد من المداخن والمواقد.
ويشير محمد جبريل إلى “شقاوة أطفال الإسكندرية في رمضان..” كان يقودنا في حمل الفوانيس.. نسعى بها بعد صلاة التراويح، نقف أمام كل دكان ونغني لصاحبه: الدكان ده كله عمار.. وصاحبه ربنا يغنيه، إذا وهبنا “العادة” انصرفنا ونحن نعيد الأغنية، إذا رفض، نغني في لهوجة: الدكان ده كله خراب.. وصاحبه ربنا يعميه! ثم نجري.