الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
يقول فضيلة الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر
زيارة قبر النبي ـ ﷺ ـ أو على الأصح زيارته في قبره، على رأس زيارة القبور استحبابًا. وقد عقد القسطلاني في المواهب اللدنية فصلاً خاصًا بها، كما عقد الشيخ السمهودي في كتابه ” وفاء الوفا ” فصلًا خاصًا بها أيضًا، أورد فيه أحاديث كثيرة، قال الذهبي عنها: طرقها ليِّنة يقوي بعضها بعضًا، وليس في رواتها متهم بالكذب.
نقل القاضي عياض أن السفر بقصد الزيارة غايته مسجد المدينة لمجاورته القبر الشريف، وقصد الزائر الحلول فيه لتعظيم من حلَّ بتلك البقعة، كما لو كان حيًا، وليس القصد تعظيم بقعَة القبر لعَيْنِها بل من حلَّ فيها.
إن زيارته ـ ﷺ ـ زيارة لمسجده الذي ورد في فضله قوله: ” صلاة في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ” وزيارة قبور الأنبياء والصالحين بما فيها من التبرُّك إلى جانب ما ذكر، مُسْتَحَبَّة، كما قال الإمام الغزالي في كتابه ” الإحياء ” والتبرُّك في حدِّ ذاته غير ممنوع، لكن قد تكون له مظاهر لا يوافق عليها الدين، منها:
1 ـ الطواف حول القبر، وهو مكروه لما فيه من التشبُّه بالطواف حول البيت الحرام.
2 ـ التمسُّح بالقبر وتَقْبِيله للتبرُّك، فقد قال فيه الإمام الغزالي: وليس من السُّنة أن يمسَّ الجدار ولا أن يُقَبِّله، بل الوقوف من بعد أقرب إلى الاحترام. وعن أحمد بن حنبل في ذلك روايتان. ففي ” خلاصة الوفا ” ما نصه:
وفي كتاب العلل والسؤالات لعبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت أبي عن الرجل يمس قبر النبي ـ ﷺ ـ يتبرَّك به ويُقَبِّله ويفعل بالمنبر مثل ذلك، رجاء ثواب الله تعالى، فقال: لا بأس به. قال أبو بكر الأثرم: قلت لأبي عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل ـ: قبر النبي ـ ﷺ ـ يُمَسُّ ويُتَمَسَّح به؟ فقال: ما أعرف هذا. ولعل رواية الجواز خاصة بالتبرُّك بالمنبر لا بالقبر، فقد جاء في ” الإحياء ” للغزالي عن التبرك بالآثار النبوية: ويُسْتحب أن يضع يده على الرمانة السُّفلى التي كان رسول الله ـ ﷺ ـ يضع يده عليها عند الخُطْبَة. وجاء عن أحمد بن حنبل منقولاً عن ابن عمر قال ابن تيمية في كتابه ” الصراط المستقيم “: ورخَّص أحمد وغيره في التمسُّح بالمنبر والرُّمانة التي هي موضع مقعد النبي ـ ﷺ ـ ويده، ولم يرخص في التمسح بقبره، وقد حكى بعض أصحابنا رواية عنه في مسح قبره؛ لأن أحمد شيَّع بعض الموتى فوضع يده على قبر يدعو له، والفرق بين الموضعين ظاهر. وصحَّ في البخاري أن عبد الله بن سلام كان يتبرَّك بالقدَح الذي شرب منه النبي ـ ﷺ ـ وبالمكان الذي صلَّى فيه.
3 ـ الدُّعاء عند القبر، وهذا الدعاء يجب أن يكون الاتجاه فيه إلى الله تعالى؛ لأنه هو وحده الذي يملك النفع والضُّر، ولا يجوز الاتجاه به إلى صاحب القبر مهما كانت منزلته، أما التوسُّل والاستشفاع به عند الله فقد مرَّ بيان حكمه.
ودعاء الله عند زيارة هذه الأضرحة قال جماعة: إنه أرجى للقبول، لما يصاحبه من روحانية يحس بها الداعي وهو بجوار رجل صالح يحبه ويحترمه، وقال آخرون: ليس للدعاء عنده مَيْزَة على الدعاء في غير هذا المكان. ومن هؤلاء ابن تيمية حيث قال: إن قصد القبور للدعاء عندها ورجاء الإجابة بالدعاء هناك رجاء أكثر من رجائها في غير هذا المَوْطِن أمر لم يشرِّعه الله ولا رسوله، ولا فَعَلَه أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا من أئمة المسلمين، ولا ذكره أحد من العلماء الصالحين المتقدِّمين. اهـ. لكن ليس هذا الكلام دليلًا على منعه، وقد تكون هناك وجْهَةٌ للمنع وهي الاحتياط وسد الذريعة لدعاء صاحب القبر بدل دعاء الله أو معه.
هذا، وفي الدعاء عند زيارة النبي ـ ﷺ ـ في قبره أُثِيرَت مسألة الجهة التي يتجه إليها الداعي، هل هي قِبْلة الصلاة أو هي القبر الشريف؟ روى القاضي عياض في كتابه “الشفا في التعرُّف بحقوق المصطفى” ما جاء عن الإمام مالك بن أنس لمَّا ناظره أبو جعفر المنصور في المسجد النبوي، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدَّب قومًا فقال ( لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِي وَلا تَجْهَرُوا لَه بِالْقَوْلْ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأًنْتُمْ لا تَشْعُرُون ) ( الحجرات: 2 ) ومدح قومًا فقال ( إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّون أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) ( الحجرات: 3 ). وذم قومًا فقال ( إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُون ) ( الحجرات: 4 ) وإنَّ حرمته ميتًا كحُرْمَته حيًّا. فاستكان لها أبو جعفر، وقال: يا أبا عبد الله أستقبل القِبْلَة وأدعو أم أستقبل رسول الله ﷺ؟ فقال: ولمَ تصرفْ وجْهَكَ عنه وهو وسيلتُك ووسيلة أبيك آدم ـ عليه السلام ـ إلى الله تعالى يوم القيامة؟ بل استقْبِلْه واستَشْفِعْ به فيشفعه الله، قال الله تعالى ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءوكَ فاسْتَغْفَرُوا اللهَ واسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) ( النساء: 64 ).
وابن تيمية يُكَذِّب هذه الرواية. وردَّ الزرقاني في شرحه للمواهب اللَّدنية للقسطلاني على ابن تيمية بأنها مروية عن ثقات ليس فيهم وضَّاع ولا كذَّاب، ثم يرد عليه ما ادَّعاه من كراهية مالك لاستقبال قبر النبي ـ ﷺ ـ عند الدعاء بأن كُتب المالكية طافحة باستحباب الدعاء عند القبر واستقباله، مع مسِّ القبر بيده. ويقول: وإلى هذا ذهب الشافعي والجمهور، ونُقل عن أبي حنيفه. قال ابن الهُمام: وما نقل عنه أنه يستقبل القِبْلَة مردود بما روي عن ابن عمر: من السُّنة أن يَسْتَقْبِل القبر المكرَّم، ويجعل ظهره للقِبْلَة، وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة، وقول الكرماني: مذهبه خلافه ليس بشيء؛ لأنه حي، ومن يأتِ الحي إنما يتوجَّه إليه. وصرَّح النووي في كتابه ” الأذكار ” بذلك. وقد أشير إلى شيء من ذلك في موضع التوسُّل من هذا البيان.
هذا، ومع استحباب زيارة قبور الأنبياء والصالحين يجب التنبُّه إلى ما جاء من النهي عن اتخاذها مساجد وعيدًا، فقد وردت في ذلك نصوص كثيرة، منها قوله ـ ﷺ ـ ” لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد”، وقوله ” اللهمَّ لا تجعل قبري وَثَنًا يُعْبَد، اشتدَّ غضبُ الله على قومٍ اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد”، وقوله ” لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تتخذوا قبري عِيدًا، وصلُّوا عليَّ، فإن صلاتكم تبلُغني حيث كنتم”.
واتخاذ القبور مساجد يعني التوجُّه بالعبادة إليها وإلى من فيها، وذلك شرك، فالعبادة لله وحده، وهو معنى جعْل القبر وَثَنًا يُعْبَد. والمراد بالمسجد هنا موضع العبادة بالصلاة وغيرها، واتخاذها عيدًا يُقصد به التقرُّب إلى الله عندها في المواسم وفي مواعيد معيَّنة شأن الأعياد في ذلك، وقال جماعة: إن هذا الحديث ينهَى عن التقصير في قبره وهجره وعدم زيارته إلا في مواسم كالأعياد، فهو يحثُّ على مداومة زيارتها. هذه وجهات نظر مختلفة في فهم الحديث.
جاء في ” خلاصة الوفا للسمْهودي “: أن هذا الحديث قيل عندما رأى راوية الحسن بن الحسن أو علي بن الحسين ـ رجلًا يحرص كل يوم على زيارة قبر النبي ـ ﷺ ـ ويبالغ في الدنو منه، وقد كره مالك ذلك ممن لم يقدُم من سفر، وجاء فيه أيضًا: قال الحافظ المنذري في حديث ” لا تجعلوا قبري عيدًا ” يُحتمل أن يكون حثًّا على كثرة الزيارة وألا يُهمل حتى لا يُزار إلا في بعض الأوقات كالعيد ويؤيده قوله ” لا تجعلوا بيوتكم قبورًا ” أي لا تتركوا الصلاة فيها. قال السُّبكي: ويُحتمل أن يكون المراد: لا تتخذوا له وقتًا مخصوصًا لا تكون الزيارة إلا فيه، أو لا يُتخذ كالعيد في العكوف عليه وإظهار الزينة والاجتماع وغيره مما يُعمل في الأعياد، بل لا يؤتَى إلا للزيارة والسلام، ثم ينصرف عنه.
ومهما يكن من شيء فإن اتخاذ قبور الأنبياء ومثلهم الصالحون للتقرُّب هو لصلتها بمن فيها والتبرُّك بهم ـ كما قدَّمنا ـ وإن كانت العبادة لله وحده، وكان بعض الصحابة كعبد الله ابن أم مكتوم يحرص أن يصلي النبي ـ ﷺ ـ في بيته ليتَخذَه مسجدًا، وابن عمر كان يَتَتَّبع مواضعه عليه الصلاة والسلام وآثاره، جاء في صحيح البخاري عن موسى بن عقبة قال: رأيت سالم بن عبد الله يتحرَّى أماكن من الطريق ويصلِّي فيها، ويحدِّث أن أباه ـ عبد الله بن عمر ـ كان يصلِّي فيها، وأنه رأى النبي ـ ﷺ ـ يصلِّي في تلك الأمكنة. قال موسى: وحدثني نافع أن ابن عمر كان يصلِّي في تلك الأمكنة. وقد رخَّص أحمد بن حنبل في ذلك ـ كما قال ابن تيمية ـ ولكن كره أن يُتخذ ذلك عيدًا للناس يعتادونه، استنادًا إلى ما رُوي أن عمر رأى جماعة ابتدروا مكانًا يصلُّون فيه؛ لأن النبي ـ ﷺ ـ صلَّى فيه، فقال: هكذا هلكَ أهل الكتاب قَبْلَكُمْ، اتخذوا آثار أنبيائهم بِيَعًا، من عَرضت له منكم الصلاة فيه فليصلِّ، ومن لم تَعرض له الصلاة فليمضِ، فقد نهى عن التزام ذلك واتخاذه موسمًا يعتادونه، أما القليل العارض غير المقصود فلا بأس به.
والتبرُّك في حدوده المعقولة ـ كما قلنا ـ لا مانع منه، فقد كان الصحابة يتبرَّكون بآثار النبي ـ ﷺ ـ، جاء في صحيح البخاري أن النبي ـ ﷺ ـ اتخذ خاتَمًا في يده من الوَرِق ـ الفضة ـ ثم كان في يد أبي بكر بعده، ثم كان في يد عمر، ثم كان في يد عثمان حتى وقع في بئر ” أريس “، وكان نقشه ” محمد رسول الله ” وفي بعض الروايات أنه مَكَثَ في يد عثمان ست سنوات، واجتهدوا في العثور عليه في البئر فلم يفلحوا. وبئر ” أريس ” بجوار مسجد قباء ويعرف باسم ” بئر الخاتم “.
وجاء في البخاري أيضًا أن الزبير بن العوام كانت له عَنْزَة طعن بها عبيدة بن سعيد بن العاص يوم بدر، فسأله النبي ـ ﷺ ـ إياها، فأعطاها له، ولما قُبِضَ أخذها، ثم سألها إياه أبو بكر ومن بعده عمر وعثمان وعلي. والعَنْزَة كالحربة.
وكذلك جاء في البخاري أن عمر ـ رضى الله عنه ـ لم يقطع الشجرة التي كانت عندها بَيْعَة الرضوان إلا لاختلاف الناس بعدها فيها وفي مكانها.
تكملة: ـ جاء في فتوى الشيخ عبد المجيد سليم بتاريخ 22 من يونية سنة 1940 ما ملخصه: أن ابن تيمية منع دَفْنَ الميت في المسجد وقال في إحدى فتاويه: إنه لا يجوز دفنُ ميت في مسجد، فإن كان المسجد قبل الدَّفن غُيِّر، إما بتسوية القبر وإما بنبشه إن كان جديدًا، والعِلَّة في المنع هي عدم اتخاذه ذريعة للصلاة إلى القبر. وجاء عن ابن القيم في ” زاد المعاد “: أنَّ الإمام أحمد وغيره نصَّ على أنه إذا دُفِنَ الميت في المسجد نُبش، وقال ابن تيمية: لا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر، بل أيُّهما طرأ على الآخر مُنِعَ منه وكان الحكم للسابق.
وقال النووي في شرح المهذَّب: اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على كراهة بناء مسجد على القبر، سواء كان الميت مشهورًا بالصلاح أو غيره، لعموم الأحاديث، قال الشافعي والأصحاب: وتُكره الصلاة إلى القبور، سواءٌ كان الميت صالحًا أو غيره قال الحافظ أبو موسى: قال الإمام الزعفراني رحمه الله: ولا يُصلَّى إلى قبر ولا عنده تبرُّكُا به ولا إعظامًا له، للأحاديث أهـ.
وأعدل الأقوال أن الصلاة إذا كانت تعظيمًا للقبر فهى حرام وباطلة؛ لأن ذلك شِرْكٌ، أما إذا خلت من التعظيم فهى صحيحة مع الكراهة إن كان القبر أمام المصلِّي، أما إن كان خلفه أو عن يمينه أو عن يساره فلا كراهة.
والله أعلم
الشيخ عطية صقر