تتعدد أسباب النجاح بأي مؤسسة ما بين التكنولوجيا المتقدمة، ووفرة رأس المال، وتوفر السوق المستهلكة، وسيطرة النقابات العمالية، إلى جانب المهارة الفنية للعاملين، فكلها من أسباب النجاح إلا أنها ليست وحدها السبب الحقيقي للتفوق؛ فالمال والتكنولوجيا والأفكار تنساب مثل الزئبق عبر الحدود بين الدول، ولكن التفوق الحقيقي يرجع إلى مؤسسة قادرة على الوفاء باحتياجات العاملين بها، وبالتالي فهي تجتذب الأفضل إليها، وهؤلاء يكونون أكثر حماسًا لإنجاز أعمالهم بشكل ممتاز.
هذا النوع من المؤسسات يهتم بفهم دوافع الرغبة في العمل لدى موظفيه، فهي توجه الثقافة والأنظمة والهيكل التنظيمي للشركة نحو الاهتمام بالعوامل التي من شأنها تحفيز العمل. وهنا تكون وظيفة المدير ليست أن يقول للموظفين ما الذي يجب أن يفعلوه، بل هو الذي عليه أن يجيب على السؤال التالي: “ما الذي يحفز العاملين؟ وما الذي يجعلهم أكثر إنتاجًا وحبًّا للعمل؟”، فالنجاح ليس مجرد راتب جيد فحسب.
المدير الناجح متى يصمت؟!
تخرج تريبون من جامعة كيس ويسترن بمدينة كليفلاند بعد حصوله على الدرجة العلمية في الهندسة الكيميائية. وتبدأ قصته عندما تم ترقيته لإدارة أحد مصانع الشركة التي يعمل بها في منطقة بيتسبرج وكان مختصًّا بتصنيع مادة اللاتكس Latex التي تستخدم في تقوية السجاجيد، وكان معظم العاملين بالمصنع -الذين بلغ عددهم 130 عاملاً- أكبر سنًّا وخبرة من تريبون البالغ من العمر 24 عامًا. وبالرغم من أن طاقة المصنع تقدر بحوالي 4 ملايين رطل من مادة اللاتكس بالشهر، فإنه لم ينتج أكثر من مليوني رطل شهريًّا، ولم يحقق تريبون في أيامه الأولى أفضل ممن سبقوه.
الغريب في الموضوع أن الأمور كانت تسير على ما يرام، فالعمال على كفاءة فنّية عالية، وهو كمدير للمصنع يقوم بتنفيذ واجباته على أكمل وجه، إذن أين المشكلة؟.
كان ذلك السؤال الذي سأله تريبون لنفسه، وبدأ يبحث في الإجابة عنه من خلال الإحصائيات الخاصة بإنتاج المصنع، وكانت دهشته عظيمة عندما اكتشف أن إنتاج المصنع يكون في أحسن حالاته عندما يكون غير متواجد، حتى إنه في أحد الأسابيع وصل الإنتاج إلى 4 ملايين رطل. وبمجرد أن ظهرت تلك الحقيقة واضحة أمامه بدأ تريبون ببساطة ترك السيطرة للعاملين، فإذا عرفوا ما يريده العميل فإنهم ينجزونه بدون تدخل كبير منه، وهنا تعلم تريبون الدرس المهم في الإدارة على حد قوله، وهو: لكي تكون قائدًا حقيقيًّا عليك أن تتخلى عن التحكم والسيطرة بمفهومها الضيق، فليس وظيفة الرئيس أن يقول لمرؤوسيه ما يجب عليهم أن يفعلوه. ويعتقد تريبون من خلال تجربته في عالم الإدارة أن أكبر تحدٍّ هو معرفة التوقيت المناسب لإصدار التوجيهات، والتوقيت المناسب للالتزام بالصمت وعدم التدخل وترك الأمر للمرؤوسين.
أكثر تحكمًا أكثر إنتاجًا
ربما تكون تجارب منع الضوضاء أفضل مثال على ذلك، والتجربة ببساطة هي تكليف مجموعة من البالغين بسلسلة من المهام، ولا يعترض تنفيذ تلك المهام سوى صعوبة واحدة تتمثل في ضوضاء شديدة وعالية تشتت التفكير تصدر من حين لآخر. وتم تقسيم المشتركين بالتجربة إلى مجموعتين؛ مجموعة لها القدرة على التحكم وإنهاء تلك الضوضاء من خلال مفتاح تحكم، ومجموعة أخرى لا قدرة لها على ذلك. ولم يكن من المدهش أن يكون إنجاز المجموعة الثانية المزودة بمفتاح التحكم أفضل، ولكن الغريب أن أفراد المجموعة الأولى لم يستخدموا مفتاح التحكم الخاص بالصوت على الإطلاق، ولكن هذا التفوق في الأداء جاء من معرفتهم بما لديهم من إمكانية السيطرة على هذه الضوضاء التي تقتحم عليهم الغرفة وقتما يريدون.
ويبدو أننا جميعًا نكون أكثر سعادة وقدرة على الإنتاج عندما يتوافر لدينا نوع من التحكم والسيطرة على مجريات الأمور، وتطبيقًا لهذه النتيجة جاءت فكرة فرق العمل ذاتية الإدارة، وهي مجموعات من العاملين من 3 إلى 10 أفراد يعملون بدون أي إشراف مباشر. وتتخذ هذه الفرق الذاتية الإدارة القرارات اللازمة لإنجاز الأعمال وتحديد الأهداف ومسئولية المراقبة والجودة وحضور العاملين وسلوكهم. وتستطيع هذه الفرق -مع توافر التطبيق الجيد- أن تحقق نتائج مذهلة بالنسبة للإنتاجية والروح المعنوية، ومن أمثلة ذلك شركة “بروكتر وجامبل” التي تُقِرّ أن الإنتاجية في المصانع تعتمد على تلك الفرق محدثة تفوقًا على الشركات التي لا تستعمل هذه الفرق بنسبة 30-40%، وكذلك شركة “جنرال ميلز” التي تتفوق بنسبة 15% على الشركات الأخرى في مجال إنتاج رقائق الحبوب التي تستخدم في الإفطار مع اللبن (سيريال Cereal ) حتى في جودة علب التغليف. إلى غير ذلك من الأمثلة العملية من أرض الواقع مثل “مصانع شابارال” للصلب ، وكذلك مؤسسة تكرونكس ، و”شركة شيناندوه “، وجميع تلك الأمثلة تؤكد على نجاح فرق العمل وعلى نجاح مبدأ أكثر تحكمًا أكثر إنتاجًا.
رضاء العميل يبدأ بإرضاء العامل
كيف تفعلون ذلك؟ كان ذلك هو السؤال الذي سأله روبرت هـ. ووترمان لمدير شركة “فيدإكس” لخدمات البريد، عندما اكتشف أن جميع العاملين على مستوى واحد من البشاشة وحسن الخلق في التعامل مع الآخرين. فعندما ضل الطريق في المدينة اتجه إلى أحد مكاتب الشركة، وفوجئ بمعاملة غير عادية من الذوق، حتى إن أحد الموظفين خرج ليصحبه إلى المكان الذي يريده رغم أنه ليس عميلاً لديهم. وهنا يثار التساؤل: كيف نجعل جميع العاملين في شركة واحدة على هذا القدر من الأدب والألفة والرغبة في تقديم المساعدة؟ ورغم أن الإجابة ليست سهلة فإنها تتلخص في شعار واحد، وهو دعِ العاملين يتولون مسئولية العمل بالكامل واجعل اهتمامك أنت كمدير بالعاملين.
نعم إن مسئولي الشركة يريدون أن يعرفهم الناس بمستوى الخدمة فائق الجودة التي يقدمونها للعملاء، ويريدون أن يتصدروا القائمة على مستوى الشركات التي تعمل في نفس الخدمة ويحققوا أرباحًا طيبة، ولكنهم في فيديرال إكسبريس “فيدإكس” يضعون العاملين قبل كل شيء، حيث اكتشفوا أن رضاء العميل يبدأ بإرضاء العامل أولاً، وأفضل المديرين في فيديرال إكسبريس يبذلون الوقت اللازم لمعاملة العاملين بصورة طيبة، ولقد أتت هذه الطريقة ثمارها حقًّا؛ ففي عام 1990 حصلت الشركة على جائزة مالكولم بولدرج لجودة الخدمة، وكانت أول شركة خدمات تحصل على هذه الجائزة.
ويعلق جون ويست الذي يتولى المسئولية العامة عن الجودة في الشركة قائلاً: إن سبب الحصول على تلك الجائزة القيمة هو العناية بالعاملين أولاً أكثر من تطبيق برنامج إداري جديد كبير، والخطأ كل الخطأ في تجاهل العامل الإنساني الذي يعتبره ويست الأساس لأي نظام لدعم الجودة أو الخدمة. وتلك البرامج التي تضع الأدوات قبل العامل الإنساني تكون مثل السراب لا تحقق شيئًا، فالعاملون إذا لم يحملوا شعورًا طيبًا نحو أنفسهم ونحو وظائفهم ونحو المكان الذي يعملون فيه فلن تستطيع الحصول منهم على شيء.
محمد خليل – من كتاب براعة الإدارة في الشركات الأمريكية – دروس نتعلمها من الشركات التي تهتم بالعاملين في المقام الأول – تأليف روبرت هـ. ووترمان الابن “Rober H. waterman, Jr.