دب الضعف في أوصال دولة الإسلام في الأندلس، وسرى الوهن في أطرافها، وراح العدو القشتالي يتربص بها، وينتظر تلك اللحظة التي ينقضّ فيها على الجسد الواهن، فيمزقه ويقضي عليه، لم تصرفه القرون الطوال عن تحقيق أمله الطامح إلى إزالة الوجود الإسلامي في الأندلس، فلم يكد ينتصف القرن السابع الهجري حتى كانت ولاية الأندلس الشرقية والوسطى في قبضة النصارى القشتاليين، وأصبحت حواضر الأندلس الكبرى أسيرة في قبضتهم؛ حيث سقطت قرطبة وبلنسية، وإشبيلية، وبطليوس، وهي حواضر كانت تموج علما وثقافة وحضارة. ولم يبق للمسلمين هناك سوى بضع ولايات صغيرة في الطرف الجنوبي من الأندلس، قامت فيها مملكة صغيرة عُرفت بـ مملكة غرناطة، شاءت الأقدار لها أن تحمل راية الإسلام أكثر من قرنين من الزمان، وأن تقيم حضارة زاهية وحياة ثقافية رائعة، حتى انقض عليها الملكان المسيحيان: “فرديناند الخامس” و”إيزابيلا”، وحاصرا بقواتهما غرناطة في 12 من جمادى الآخرة 896هـ= 30 من إبريل 1491م حصارا شديدا، وأتلفا الزروع المحيطة بالمدينة، وقطعا أي اتصال لها بالخارج، ومنعا أي مدد يمكن أن يأتي لنجدتها من المغرب الأقصى؛ حتى تستسلم المدينة، ويسقط آخر معقل للإسلام في الأندلس.

غرناطة تلفظ أنفاسها

لم تكن تملك غرناطة سلاحا أقوى من الشجاعة، ولا أمضى من الصبر في المواجهة والثبات عند اللقاء، فصمدت إلى حين، وظلت المدينة تعاني الحصار زهاء سبعة أشهر، وتغالب نكباته في صبر ويقين، وتواجه الجوع والبلاء بعزيمة لا تلين، وحاول الفرسان المسلمون أن يدفعوا هجمة النصارى الشرسة بكل ما يملكون خارج أسوار المدينة، لكن ذلك لم يغن من الأمر شيئا، فالأحوال تزداد سوءا، والمسلمون تتفاقم محنتهم، وانقطع الأمل في نجدتهم من بلاد المغرب.

في ظل هذه المحنة القاسية تداعت أصوات بعض القادة إلى ضرورة التسليم؛ حفاظا على الأرواح، وكان “أبو عبد الله محمد” سلطان غرناطة وبعض وزرائه يتزعمون هذه الدعوى، وضاع في زحام تلك الدعوة المتخاذلة كل صوت يستصرخ البطولة والفداء في النفوس، ويعظّم قيمة التضحية والكرامة في القلوب، فاتفق القائمون على غرناطة على اختيار الوزير “أبي القاسم عبد الملك” للقيام بمهمة التفاوض مع الملكين الكاثوليكيين.

أبو عبد الله محمد سلطان غرناطة

وليس ثمة شك في أن هذين الملكين كانا وراء سريان روح التخاذل وإشاعة اليأس في مملكة غرناطة، وتهيئة الأوضاع لقبول التسليم، واستخدما في ذلك كل وسائل الإغراء مع السلطان أبي عبد الله وبعض خاصته.

استمرت المفاوضات بضعة أسابيع، وانتهى الفريقان إلى وضع معاهدة للتسليم، وافق عليها الملكان في 21 من المحرم 897هـ= 25 من نوفمبر 1491م، وكانت المفاوضات تجري في سرية خشية ثورة أهالي غرناطة، وحتى تحقق غايتها المرجوة.

ويتعجب المرء حين يعلم أن أبا القاسم بن عبد الملك ومساعده في المفاوضات الوزير “يوسف بن كماشة” كان سلوكهما مريبا، يقدمان المنفعة الشخصية على الصالح العام، فقد كتبا إلى الملكين الكاثوليكيين خطابا يؤكدان فيه إخلاصهما وولاءهما واستعدادهما لخدمتهما حتى تتحقق رغباتهما.

وفي الوقت الذي كانت تجري فيه مفاوضات التسليم، عُقدت معاهدة سرية أخرى، مُنح فيها أبو عبد الله وأفراد أسرته ووزراؤه منحًا خاصة بين ضياع وأموال نقدية.

وما كادت تذاع أنباء الموافقة على تسليم غرناطة حتى عمّ الحزن ربوعها، واكتست الكآبة نفوس الناس، واشتعل الناس غضبا حين تسربت أنباء المعاهدة السرية، وما حققه السلطان وخاصته من مغانم ومكاسب رخيصة، فسرت بين الناس الدعوة إلى الدفاع عن المدينة، وخشي السلطان من تفاقم الأحوال وإفلات الأمر من بين يديه، فاتفق مع ملك قشتالة على تسليم المدينة قبل الموعد المحدد في 2 من ربيع الأول 897هـ= 2 من يناير 1492م.

درس غرناطة

تسليم المدينة

وفي هذا اليوم الحزين استعد الجيش القشتالي لدخول المدينة، وأطلقت المدافع في قصر الحمراء طلقاتها إيذانا بالاستعداد للتسليم، ودخلت القوات المسيحية، واتجهت توا إلى قصر الحمراء، وما إن دخلت القوات حتى رفعت فوق برج القصر الأعلى صليبا فضيًا كبيرًا، وهو الذي كان يحمله الملك “فرديناند” خلال المعارك مع غرناطة.. وأعلن المنادي بصوت قوي من فوق البرج أنّ غرناطة أصبحت تابعة للملكين الكاثوليكيين.

وباستيلاء القشتاليين على غرناطة طُويت آخر صفحة من تاريخ دولة المسلمين في الأندلس، وقُضي على الحضارة الأندلسية الباهرة وآدابها وعلومها وفنونها.

غرناطة.. الحضارة

قامت مملكة غرناطة في الفترة التي ظهرت فيها بالحفاظ على تراث الأندلس، وبإيواء الوافدين إليها من المدن الأخرى، وكان من بينهم العلماء والكتاب والشعراء، وبإثراء الحياة الفكرية بالمؤلفات الجيدة في مختلف العلوم والفنون.

ويأتي في مقدمة من أنجبتهم غرناطة: أبو عبد الله محمد بن جُزى الكاتب الشاعر، المتوفى سنة 757هـ= 1356م، وابن خاتمة الشاعر المعروف المتوفى 770هـ=1369م، ولسان الدين بن الخطيب المتوفى سنة 776هـ= 1375م وهو يعد من كبار الأعلام في الثقافة العربية، فهو أديب وطبيب وفيلسوف وشاعر ومؤرخ، من أشهر إنتاجه: الإحاطة في أخبار غرناطة، وكتاب الإشارة إلى أدب الوزارة، واللمحة البدرية في الدولة النصرية.

وأيضا: الوزير ابن زمرك المتوفى سنة 797هـ=1395م، تلميذ ابن الخطيب، وكان شاعرا جيدا، وابن الأزرق المتوفى سنة 895هـ=1490م وكان بارعا في النثر والنظم والتاريخ، وله كتاب قيم في الفكر السياسي بعنوان: بدائع الأندلس في طبائع الملك، والشريف العقيلي وزير السلطان أبي عبد الله محمد آخر ملوك الأندلس، وكان إمام عصره في النثر والنظم، ووُصف بأنه خاتمة أدباء الأندلس.

وكثر في غرناطة إنشاء المدارس ومعاهد العلم، وارتقت الصناعات والفنون، فازدهرت صناعة السفن والأنسجة والورق، والفخار والذهب، وصناعة الحلي، وتطورت صناعة الأسلحة، فظهرت المدافع والبنادق، ويحتفظ متحف مدريد الوطني بنماذج من البنادق التي استعملها المسلمون في دفاعهم عن غرناطة.

أجمل مدينة في العالم

كانت مدينة غرناطة في هذا العصر أجمل مدن العالم بشوارعها النظيفة وميادينها الرائعة وحدائقها الغنّاء، ومبانيها ومرافقها الجميلة، ولا تزال آثارها الباقية تشهد على ما بلغته المدينة من رقي ومدنية.

وقد اشتهرت مساجد غرناطة باستخدام الرخام، وتجميل صحونها بحدائق الفاكهة، وإقامة المآذن منفصلة عن المساجد، وتوجد الآن مئذنتان يرجع إنشاؤهما إلى هذه الفترة الأولى: مئذنة مسجد تحوّل إلى كنيسة، وهي المعروفة باسم كنيسة “سان خوان دي لوس ريس”، والأخرى ببلدة “رندة” التي تحول مسجدها إلى كنيسة باسم “سان سباستيان”.

ويعد قصر الحمراء من أعظم الآثار الأندلسية الباقية، بما حواه من بدائع الصنع، والمهارة الفنية الراقية، بالإضافة إلى قصر جنة العريف، وهو يقع بالقرب من قصر الحمراء ويطلّ عليه، وكان يتخذه ملوك غرناطة متنزها للراحة والاستجمام.

أحمد تمام


من مصادر الدراسة:

المقري- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب– تحقيق إحسان عباس- دار صادر- بيروت 1388هـ=1968م.

محمد عبد الله عنان- نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصّرين- مكتبة الخانجي- القاهرة 1408هـ=1987م.

عبد الرحمن علي الحجي- التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة- دار الاعتصام- القاهرة 1403هـ=1983م.

عبد الله جمال الدين- تاريخ المسلمين في الأندلس- شركة سفير- القاهرة 1996م.