قبل التطرق لفهم معنى حب الله ورسوله يجب تحرير مفهوم حب الدنيا أولاً، فحب الدنيا يغلب عليه أنه من الأمور التي ذمها الشرع، وقد جاءت آيات وأحاديث كثيرة عن رسول الله ﷺ في ذمّ الدنيا.. ومع هذا، فقد أتت أحاديث وآيات تدعو المسلمين إلى تعمير الدنيا، فكيف تُذمُّ ويؤمر بتعميرها؟
وهذا يسوقنا إلى أنَّ حب الدنيا ليس مذمّةً في ذاته، ولكن حب الدنيا المذموم إنّما يعني أن تعمر الدنيا القلوب، بحيث يطغى حبها على كل حب، وتقدم على العمل للآخرة، وهذا ما جاء في قوله تعالى: { بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى } (الأعلى 16- 17)، فمذمَّة الدنيا تأتي من ناحية إيثارها على الآخرة، والعمل للدنيا لذاتها، وذلك أنَّ طبيعة الدنيا في الإسلام أنّها مزرعةٌ للآخرة.
ومعنى الزرع هنا لا يعني الزهد الدائم فيها، بل يعني أنّ كلّ عملٍ يعمله الإنسان في الدنيا من جدّ ولهو، ومن اجتهادٍ ولعب، ومن استمتاعٍ وإنتاج، وغير ذلك من صنوف الأعمال يجب أن يكون لله، وأن يكون ممّا أباح الشرع الحكيم.. فللمرء أن يفرح ويسعد وأن يحزن، وأن يستريح وأن يتعب.. إلخ، لأنّ هذه أنشطةٌ في العمل اليومي للإنسان، بعيدًا عن معتقده، ولم يأت القرآن ليجعل الناس محبوسين في بعض الأعمال دون بعض، بل أباح الشارع للناس أن يفعلوا ما يشاءون إلا ما حرم عليهم، ودائرة التحريم في الشرع محصورة قليلة.
ولعل هذا المثل –من كون التحريم قليل محصور- قاعدةٌ قديمة متأصلة منذ بدء الخليقة، فإن مساحة التحريم الذي حرّمها الله تعالى على آدم –عليه السلام– كانت شجرة، وله أن يأكل مما سواها، وجعل الشرع هذه القاعدة دائمة، فالحرام محصورٌ قليل، والحلال واسع الميدان والمجال.
وحين نريد أن نحوّل العمل الدنيوي إلى عملٍ أخروي، ليس شرطًا أن نترك العمل، بل نحوِّل وجهته، ونغيِّر قصده، ونصحِّح النيَّة فيه، بحيث نبقي على أنشطة الحياة التي نقوم بها، ولكن نصوب الوجهة فيها، فتكون لله رب العالمين، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين } (الأنعام : 162).
إذا كان الإنسان مثلاً يحب القراءة، وهو يطلع على الغث والسمين، فلا يترك القراءة بالكلية، بل يفكر كيف يحول قراءته إلى أداة فاعلة في حياته، يكتسب منها ما ينفعه، ويجعل أول القراءة قراءة كتاب الله، والكتب النافعة.. سواء أكانت من الدين أم من علوم الدنيا التي تقرب من الله، وتُكسب الإنسان مهارات في حياته، وتطلعه على الدنيا وعلومها، فيزداد يقينه بالله، ويقوى إيمانه بربه، لأن كل ما في الكون شاهد على قدرته، ينطق بصنعته، ويشهد له بربوبيته، ويقر له بوحدانيته.
إن المقياس الحقيقي لمعرفة أنَّ الله تعالى ورسوله أحب إلينا مما سواهما، أن ننظر في قلوبنا، وأن نقيس كل فعل نفعله.. هل هو لله، أم لحظوظ النفس والهوى فيما حرم الله تعالى؟ أو لم تكن النية فيه صادقة لله، فقد يكون العمل صالحا، ولكن لا تكون النية فيه خالصة إذ يكون ابتغاء شهرةٍ أو شهوةٍ، أو طلبًا للجاه والمكانة، أو إشباعًا لرغبة ليس فيها شيءٌ لله.
ومن علامات تقديم الله ورسوله على ما نحب أن ننظر مواطن الطاعة، والصراع الدائم بين الخير والشر، فإن كان الله تعالى ورسوله يأمر بشيء، وأنفسنا تحب شيئًا آخر، فأي الأمرين نقدم.. أمر الله ورسوله، أم أمر أنفسنا وأهوائنا؟
وما أجمل ما قاله الله تعالى في ذلك حين قال: { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } (التوبة : 23).
كيف نستبدل حب الدنيا بحب الله ورسوله؟
يجب على المسلم أو المسلمة النظر إلى مظاهر حب الدنيا وتحديدها ومن ثم البدء في تغييرها، وأن يرتقي بالنفس إلى حب الله تعالى ورسوله ﷺ في هذا الشيء المحدد، ثم يكون النظر في النقطة التي تليها.
ومع هذا السير وهذه المجاهدة فإن الإنسان يكتسب مع الوقت أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وبعد الاستعانة بعون الله وتوفيقه هذه بعض الوسائل :
- الهمة العالية، فإنها الدافع للتغيير إلى الأحسن.
- النية الصادقة، فمن نوى خيرًا وفقه الله تعالى إليه.
- التدرج في التغيير، لأن التسرّع فيه، قد يوهم الإنسان أنه تغير في شيء، وإذا به يجد نفسه قد خطا خطوة، إلا أنه رجع بعدها إلى ما كان عليه أولا.
- القراءة في سيرة الرسول ﷺ، والاطلاع على أحواله، وخاصة في كتاب “زاد المعاد في هدي خير العباد” للإمام ابن القيم، و”سبل الهدى والرشاد” للإمام الصالحي، وغيرهما من الكتب التي تهتم بسيرة الرسول ﷺ من كتب الشمائل وما تهتم بحياته ﷺ الفعلية.
- الاطلاع على سيرة الصالحين، من الصحابة والتابعين والسلف الصالح، ومن أجود ما كتب في ذلك حديثًا: “صور من حياة الصحابة”، و”صور من حياة التابعين“، و”صور من حياة الصحابيات”، وكلها للدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا، وكذلك “رجال حول الرسول” لخالد محمد خالد، وغير ذلك من الكتب التي تتحدث عن سير الصحابة والصالحين.
- البحث عن الصحبة الصالحة.
- الدعاء الدائم لله تعالى أن يغير حالنا إلى أحسن حال، فما خاب عبد رجاه، وما أغلق الله تعالى بابا في وجه عبد سعى للعودة إليه.
مسعود صبري5>