تسود الرموز والمفاهيم الدينية مجالات حياتنا بأسرها، ولايفلت منها أي حقل ثقافي، أو معرفي، أو فني، أو أدبي، أو سياسي، أو إجتماعي، أو إقتصادي، فهي تمتزج بكل شيء، وتتجلى في الأزياء واللباس، والطعام والشراب، ومختلف أنماط العلاقات البشرية، واللغة والنصوص الشفاهية والمدونة.
وحتى لو تعمد شخص استبعادها فإنها سرعان ما تتبدى في قلمه او لسانه، عبر إستبدالها بألفاظ مشبعة بتلك المضامين.
كما إن المجتمعات الغربية التي عملت منذ فترة طويلة على نفي الدين وتعبيراته من عالمها، لم تستطع إجتثاث رموزه المكتظة بها القلائد، والحلي، والألبسة، والتماثيل، واللوحات الفنية، والأشكال والرسوم المعمارية للمباني.
ومازال الشعر والنثر والفلسفة وغيرها من المعارف الإنسانية تستخدم مصطلحات ميتافيزيقية، وألفاظا تحيل إلى ميثيولوجيا وأفكار مقدسة. وربما لا نعثر على فيلسوف، أو مفكر، أو أديب، أو فنان، أومصلح في التاريخ القريب للغرب لم يشتغل على تأويل النصوص المقدسة واستنطاقها اثباتا أو نفيا.
ومن النادر أن نجد إنتاجا معرفيا أو ابداعيا لم يقارب موضوعه الميتافيزيقيا وما تشى به من مقولات، أو يقف منها موقفا محايدا، من دون ان يغور في مدياتها، ويسعى لتفسيرها وتبريرها، أو تفكيكها وتقويضها. بل ان أشهر المفكرين المناهضين للدين؛ اتخذت الظواهر الدينية مساحة هامة من كتاباته، وشدد على أن تحرير الأرض يبدأ من تحرير السماء.
ولا يتطلب التدليل على ما سبق سوى إلقاء نظرة عاجلة على الفكر الغربي الحديث والمعاصر، ليتضح مدى انشغاله بكل ما يرتبط بالظواهر الدينية، والاستغراق في تأويلها وفهمها من مداخل متنوعة، فتارة تجري مقاربتها انثروبولوجيا في انثروبولوجيا الدين، واخرى سوسيولوجيا في علم إجتماع الدين، وثالثة سيكولوجيا في علم نفس الدين، ورابعة لسانيا ودلاليا في الهرمنيوطيقا والسمنطيقا الدينية، و… الخ.
ولا تكف العلوم الإنسانية الراهنة عن إجتراح قنوات ومسالك جديدة لدراسة تمثلات المقدس في الوعي والسلوك، وما يفيض به و يضمره اللاوعي الجمعي والفردي من الالهام، والانكشاف، والاشراق، والانخطاف، والاتحاد، والوحدة، والجذبة، والرعشة، والسكرة، والنشوة، والصحوة، وغيرها من الحالات والتجارب الروحية.
أما بحث وتحليل أثر الدين كعامل فعال في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فهو أحد أهم مشاغل ورش البحث ومختبرات العلوم الاجتماعية.
إن ميزة الفكر الغربي منذ انطلاق عصر النهضة، هي كسر احتكار المعرفة الدينية، وتحريرها من دائرة الكهنوت الكنسي، واتاحتها للجميع من تلامذة ودارسين وباحثين، وكل من يسعى للتعرف عليها، باعتبارها شأنا عاما يتغلغل في المجال الشخصي والاجتماعي للبشر، وتظهر آثاره في حياة الفرد والأسرة والمجتمع والدولة.
ومنذ ذلك الحين تفشت الاستفهامات الحائرة، وخضعت الظواهر الدينية للتساؤل، وأعلن بعض المفكرين أن حقيقتي الانسان والكون إنما تشرحهما قوانين الطبيعة وسنن النفس والمجتمع، وليستا كامنتين في النص المقدس. وصار بإمكان غاليلو أن يُعلن في دفاعاته أمام محكمة التفتيش إن “الكتاب المقدس يعلمنا كيف نمشي إلى السماء، لا كيف تمشي السماء” وغاص العقل في عذابات الأسئلة ومتاهات الشك، وزحزح الجزميات واليقينيات المتوارثة، وخرج بالتدريج إلى فضاءات رحبة، تخطت تكرار المواقف والأفكار، وانفتحت على ما لم يفكر فيه، بل تمادت إلى إقتحام ونبش المحظور التفكير فيه.
وتجاوز التفكير الديني للمرة الأولى الترسيمات المغلقة، وكشف عن ان الكتاب المقدس تمثل في تجسيدات تاريخية عديدة، وان تأويلاته تنوعت بتنوع الفرق، فليس هناك تدين صحيح وآخر خاطىء، وانما هناك تجليات مختلفة للنص ذاته في المجتمع والتاريخ.
ولا يمكن فصل فهم النص وتأويله عن نمط التمدن السائد في المجتمع، ومستوى تطور العلوم والمعارف البشرية، وان ألفاظ النص لا تفيض بذاتها بالمعاني، من دون أفق انتظار المتلقي، وتطلعاته، وآماله، وأحلامه، ورؤيته الكونية، وخلفياته، ومرجعياته، ومسبقاته الذهنية.
كل ذلك تصوغه درجة تطور العلوم والمعارف البشرية، وبكلمة موجزة ان منحنى فهم الدين يتشكل في إطار فهم الطبيعة وتقدم المعارف الإنسانية.
هكذا استفاق اللاهوت، وباستفاقته دخلت البشرية عهدا جديدا تحرر فيه العقل من قيوده، وانطلقت المعرفة لتخوض في كل شيء بلا كوابح أو محرمات، وانخرطت كل مشاغل التفكير في مجالات التساؤل والإعتراض، وتخلص الإنسان من عبء الذاكرة، الذي يعطله عن الإعتماد على فهمه الخاص في التعرف على نفسه والعالم من حوله.
لقد استطاع اللاهوت الجديد ان يرسم حدود المقدس والدنيوي، وعرفنا على الأقنعة التي تخلع على مساحة شاسعة مما هو دنيوي لتجعله مقدسا، مثلما شدد على ان حاجة الانسان للمقدس أبدية، وأن تفجرات القدسي في العالم لا تتوقف أو تجف، وكما لا تطاق الحياة من دون مقدس، كذلك لا تطاق حينما تتسع حدود المقدس فتبتلع كل ما هو دنيوي.
الدكتور عبدالجبار الرفاعي – مدير مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد5>