أُرِيدَ باللَّدَدِ الشدةُ والعنفُ ومجاوزةُ حدِّ الاعتدالِ، والانتقالُ من تأييد الرأي إلى التنديد، والتهكم والسخرية ممَّن رأوه. وأُرِيدَ بالخصومة ما يشمل الخصومة في التقاضي والخصومة في الآراء السياسية، أو الشرعية، أو الاجتماعية.فلا لَدَدَ في الخصومة ولا جِدَال في الحج.
فالخصومة بين الناس ضرورة من ضرورات الاجتماع؛ لأن الظلم من شيم النفوس، وكل إنسان مُحِبٌّ لذاته، حريص على الاستئثار بالخير لنفسه؛ فلابد في هذا المجتمع الإنساني من ظالم ومظلوم، ومُعتدٍ ومُعتدًى عليه، ومُحِقٌّ ومُبْطِل؛ فلابد من الخصومة.
كذلك كل إنسان راضٍ عن الله في كمال عقله؛ والعقول تتفاوت، وكل مَن هداه عقله إلي رأي قَدَّرَ أنه هو الصواب، وأن خلافه خطأ؛ فلابد من تخاصمهم في الحقوق والمصالح.
وهذه الخصومة التي لابد منها بين الناس إذا تُرِكَت لشهوات المتخاصمين وأهوائهم ولم تُوضَع لها حدود، ولم تُرَاعَ فيها آداب، كانت مصدر شرٍّ مستطير، وفسادٍ كبيرٍ.
لا لَدَدَ في الخصومة ولا جِدَال في الحج، ولكن كثيرًا ما رأينا الخصومات في التقاضي تطورت من خصومات مدنية إلى خصومات جنائية، وقطعت الروابط بين الناس، وأشعلت نار العداوة فيهم. وكثيرًا ما رأينا الخصومات السياسية تطورت إلى التنابز وتبادل الاتهام، وأَنْسَتِ الخصوم مصالح بلدهم، وشغلتهم بشخصياتهم، وكثيرًا ما رأينا الخصومة الشرعية انتهت إلى الرمي بالكفر أو الفسوق أو الإلحاد، وضياع الحق وطمس معالمه، وبقاء الناس في حيرتهم لا يعرفون الهدى، ولا يهتدون إلى الصواب.
فاللَّدَدُ في الخصومة شرٌّ للمتخاصمين؛ لأنه يوسع مسافة الخلف بينهم، ويشعل نار الحقد في قلوبهم، ويؤدي بهم إلى تبادل العدوان؛ وشَرٌّ للأمة؛ لأنه مضيعة لجهود أبنائها، ومشغلةٌ عن مصالحها؛ وشَرٌّ للعلم وللحق والصواب؛ لأنه يطمس معالمها، ويَحُولُ دون الاهتداء إليها.
ومن هذا نفهم الحكمة البالغة فيما رواه البخاري عن عائشة أن رسول الله- ﷺ- قال: “إنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إلى اللهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ” والأَلَدُّ: الشديد العَسَفِ في خصومته. والخَصِمُ: المُولَعُ بالخصومة، الحريصُ على استمرارها وفتح أبواب لها.
وقد أرشد الإسلام إلى نوعين من الآداب والأخلاق، في أحدهما وقاية من الخصومة، ومن الأسباب التي تؤدي إليها بقدر المستطاع؛ وفي ثانيهما علاج للَّدَدِ فيها، ومجاوزة حد الاعتدال بها.
لا لَدَدَ في الخصومة ولا جِدَال في الحج، لأن من آداب الإسلام للوقاية من الخصومة: أَمْرُ الرسول- ﷺ- الناس بالسماحة في المعاملة، وفي قضاء الحقوق واقتضائها، وأَمْرُهُ بالإصلاح بين الناس والتوفيق بين المتخاصمين، وإزالة أسباب الشِّقَاق والخصومات، والنهي عن الظلم والعدوان، وأكل مال الغير، أو جحود حقه، وأمثال هذه الأوامر والنواهي التي تقضي على أسباب الخصومات، وتقي من شر الخصومة.
روى البخاري عن جابر بن عبد الله أن رسول الله- ﷺ- قال: “رَحِمَ اللهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى، وَإِذَا قَضَى”.
وروى البغوي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله- ﷺ- قال: “خِيَارُكُم مَنْ إذا كَانَ عليهِ الدَّيْنُ أَحْسَنَ الْقَضَاءَ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَجْمَلَ في الطَّلَبِ. وَشِرَارُكُمْ مَنَ إِذَا كَانَ عَلَيهِ الدَّيْنُ أَسَاءَ القَضَاءَ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَفْحَشَ فِي الطَّلَبِ”.
ورُوِيَ عن ابن عباس أن رسول الله- صلَّى الله عليه وسلم- قال: “كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ لا يَزَالَ مُخَاصِمًا”، وروى أصحاب السنن أن يهوديًّا كان له دَيْنٌ على رسول الله؛ فجاء يتقاضاه، وجذب ثوب الرسول عن منكبه، وأخذ بمجامع ثيابه، وقال: “إنَّكُم يا بَنِي عبدِ المُطِّلِبِ قَومٌ مُطْلٌ!؛ فَانْتَهَرَ عُمَرُ هَذَا اليَهُودِيَّ، وَأَغْلَظَ لَهُ فِي الْقَولِ؛ فَابْتَسَمَ رَسُولُ اللهِ، وَقَالَ لِعُمَرَ: “أَنَا وَهُوَ كُنَّا إِلَى غَيْرِ هَذَا مِنْكَ أَحْوَجَ يَا عُمَرُ، تَأْمُرُنِي بِحُسْنِ القَضَاءِ، وَتَأْمُرُهُ بِحُسْنِ التَّقَاضِي”، ثم قال: لقد بقي من أجله ثلاث. وأمر عمر أن يقضيه حقه، ويزيده عشرين صاعًا لما روَّعَه؛ فقال اليهوديُّ: أشهدُ أنكَ رسولُ اللهِ!.
لا لَدَدَ في الخصومة ولا جِدَال في الحج، ذلك أن كل ما جاء في القرآن الكريم، وما رُوِيَ في صحاح السُّنَّة من الأمر بإصلاح ذات البَيْنِ، والنهي عن الخلاف والشِّقَاق، وأمر القاضي أن يعرض الصلح على الخصوم قبل القضاء، المقصود به الوقاية من الخصومات، وقطع أسبابها.
ومن آداب الإسلام لعلاج داء الخصومة إذا وقعت نهيُهُ عن اللَّدَد فيها، وأمرُه بالرفق والأخذ بالأيسر، وعدُّه فجورَ الخصم من أمارات النفاق، ونهيُه عن مجادلة أهل الكتاب إلاَّ بالتي هي أحسن، وأمرُهُ أن تكون الدعوة إلي سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ قال- تعالى- في التعبير عن خبث نفس المنافق ومرض قلبه: “وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَولُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ”.
وقال- ﷺ- : “إن أبغضَ الرجال إلي الله الأَلَدُّ الخَصِمُ”.
وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله- ﷺ- قال: “أربعٌ مَن كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومَن كانت فيه خَصلة منهنَّ كانت فيه خَصلةٌ من النفاقِ حتى يَدَعَهَا: إذا اؤتُمِنَ خَانَ، وإذا حَدَثَ كَذِبَ، وإذا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذا خَاصَمَ فَجَرَ”.
والفجور في الخصومة، واللَّدَدُ فيها: الشدةُ والعنفُ، والخروجُ بها عن سبيلها المستقيم.
وهذا في الغالب يؤدي إلى الافتراء، وإلى الإصرار على الباطل مع وضوح الحق، وإلى إضاعة الصواب، وتضليل القاضي فيما هو معروض عليه، وتضليل الناس فيما يريدون معرفة الحق فيه.
وفي المجتمع الآن مشكلات كثيرة: اجتماعية، وشرعية، وسياسية، والناس يريدون أن يهتدوا إلى الحق فيها، ولا يَحُول بينهم وبين ما يريدون إلا لَدَدُ المتخاصمين فيها، وحرصُ كل واحد منهم على أن يؤيِّد رأيه، لا أن يحق الحق.
في مجتمعنا مشكلات بشأن المرأة وحقوقها، وسفورها وحجابها، وغير هذا من شؤونها؛ وإذا تُبُودِلَت الآراء في شأن من هذه الشؤون تُبُودِلَت الاتهامات، والرمي بالإلحاد، أو الفسوق، أو الاستهتار، ولا يَخرج الناس من ميدان هذه الخصومات بنتيجة يطمئن إليها العقل والوجدان.
وفي مجتمعنا مشكلات بشأن التأمين على الحياة، وبيع أوراق اليانصيب، والإيداع في صندوق التوفير، وكثير من أعمال المصارف؛ والمتخاصمون في هذه الشؤون لا يتجهون إلي الحق ولا إلى المصلحة، ولكن يتجه كل خصم إلى التهكم بمعارضيه؛ ولا ينتهي المسلمون من خصومتهم إلى نتيجة.
وفي مجتمعنا مذاهب سياسية واجتماعية يريد الناس أن يعرفوا الحق منها والباطل، ولا يَحول بينهم وبين ما يريدون إلاَّ لَدَدُ المختلفين فيها، وحرص كل خصم منهم على الانتصار على خصمه بالحق أو بالباطل.
ومَن حقَّق النظر تبيَّن أن أهمَّ الأسباب لاضطراب الأمن وكثرة الجرائم، اللددُ والعنفُ في الخصومات، واندفاعُ المتخاصمين في تيار التنازع والشِّقاق؛ وأن أهمَّ الأسباب لاضطراب شؤونها السياسية وعدم الاستقرار إلي نهاية، اللددُ في تخاصم الأحزاب السياسية، واتساعُ مسافة الخلف بينهم؛ وأن أهمَّ الأسباب لتفرق المسلمين شيعًا وطوائف، وانحلال المجتمع الإسلامي، اللددُ والخصومة بين طوائفهم وزعمائهم الدينيين.
وحسب الخصومة والجدال أن الله- سبحانه- نهى أن يكون في الحج جدال فقال “الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ”؛ ذلك لأن مناسك الحج تلبس الحجَّاج شعار الأخوة والمساواة، وتشعرهم بأنهم كلهم لله، وتربطهم برابطة الكعبة والتوحيد والتوجه إلى الله؛ فلا ينبغي أن يُكدَّر صفو هذه الأخوة بالجدال الذي قد يؤدي إلى تنافر القلوب، وخلق الأحقاد والأضغان.
فالواجب على المسلمين أن يتقوا أسباب الخصومات، وأن يجتنَّبوا كل ما يؤدي إليها في حدود الإمكان. ومن ابْتُلِيَ بالخصومة في مقاضاة، أو في بحث شرعي، أو اجتماعي، أو سياسي؛ فليأخذ خصومه بالرِّفق، لا بالعنف، وبالحكمة لا بالتهور، وليكن رائده نصرة الحق لا نصرة رأيه.
ومن أحق الناس بأن يرفقوا في خصومتهم مَن تربطهم رابطة مقدَّسة كالزوجين والأقارب؛ لأن العنف بين هؤلاء فوق ما فيه من شرٍّ وضرر، يقطع صلةً أَمَرَ الله أن تُوصَل. وقديمًا قال الشاعر العربي:
إذا احتربت يومًا فسالتْ دِمَاؤُهَا *** تذكرت القُرْبَى فَفَاضَتْ دُمُوعُهَا
ومن أحق الناس بأن يَرفقوا في خصومتهم مَن تجمعهم كلمة واحدة هي كلمة التوحيد، وقبلة واحدة هي الكعبة، وعقيدة واحدة هي الإيمان بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر. فخصومة السنيين والشيعة خصومة بين مَن تجمعهم أقوى رابطة، واللَّدَدُ في الخصومة يُوسِّع مسافة الخلف، ويصور اختلافهم الحزبي في صورة الاختلاف الكلي الجوهري.
وخصومة بعض المسلمين وبعض في التوسل والشفاعة ونحوهما، خصومة بين إخوة لا ينبغي أن تنتهي بتكفير أو تفسيق.
ومن أحق الناس بأن يرفقوا في خصومتهم الأحزاب السياسية المتفقة في مبدأ أساسي واحد ومطلب واحد؛ فالعنف بينهم في الخصومة يُخيِّل إلى مَن لا يعرف، أن بينهم اختلافًا أساسيًّا، ويُمكِّن أعداءهم من تفريق كلمتهم.
لا ننكر على أي إنسان أن يناضل عن رأيه، وأن ينتصر لفكرته، كما قال أمير الشعراء:
قِفْ دُونَ رَأْيكَ فِي الحَيَاةِ مُجَاهِدًا *** إِنَّ الْحَيَاةَ عَقِيدَةٌ وَجِهَادُ
ولكن الذي نُنكره أن يكون الدفاع عن الرأي بالعنف، وأن يكون الغرض الانتصار بأيَّة وسيلة، ولو ظهر وجهُ الحقِّ لدى المُعارِض، ولو أدَّى إلي التمادي في الباطل. ولقد نهى الله المؤمنين عن مجادلة أهل الكِتَاب إلاَّ بالتي هي أحسن، وأمَرَ رسوله أن يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة. وكلمة الحكمة كلمة جامعة تشمل: الرفق، والأناة، وتخيُّر الملائم من العبارات، والأزمنة، والأمكنة. ومَن خاصم بالحكمة أتقى شرَّ الخصومة، ووصل بها الخير.