في مساء الثلاثاء الموافق الثالث والعشرين من شهر يوليو سنة 1940م اكتشفت جثة الدكتور إسماعيل أحمد أدهم طافية بالقرب من شاطئ جليم بالإسكندرية، وقد أثبتت التحقيقات أنه مات منتحرا، وأنه خط رسالة ووضعها في جيبه قبل انتحاره جاء فيها “أنه قتل نفسه بالغرق يأسا من الدنيا وزهدا في العيش فيها، وأوصى بأن يحرق جسده ويشرح رأسه”، وقد دفن في مقابر المسلمين ولم يلتفت أحد إلى وصيته.
الدكتور إسماعيل أدهم عضو أكاديمية العلوم الروسية ووكيل المعهد الروسي للدراسات الإسلامية، وهو صاحب المقالات العلمية والنقدية في الرسالة والمقتطف ومناشط الحركة الأدبية في الإسكندرية وجمعية الثقافة. ومن أهم ما كتبه من الدراسات: “الزهاوي الشاعر” بالعربية، و”أبو شادي الشاعر” بالإنجليزية، و”طه حسين”، و”توفيق الحكيم“، و”علم الإنسان العربية”، و”عبد الحق حامد الشاعر التركي.
لماذا رسالة الإلحاد؟
أما رسالته “لماذا أنا ملحد؟” فكانت الرسالة ردا على محاضرة ألقاها أحمد زكي أبو شادي في ندوة ثقافية في شهر رمضان بالقاهرة سنة 1351هـ تحدث فيها أبو شادي عن خطته التي تعمل على التوفيق بين الدين وحقائق العلم، وقال: “فإني بروحي المتصوفة المتدينة التي تتغذى في الوقت ذاته على العلم أميل إلى الإدماج وكلما تشرب الإسلام العلم –وهذه طبيعته الأصلية- ازداد نفعا وعظمة وتألقا وقوة على مسايرة القرون”.
ولما طالع إسماعيل أدهم “عقيدة الألوهية” لأحمد زكي أبو شادي والتي نشرت عام 1936م بادر بكتابة رسالته “لماذا أنا ملحد؟” باعتبارها ردا فلسفيا على كتابات أبو شادي من قبيل التناظر والتساجل العلمي.
وقد أفرد له مصطفى عبد اللطيف السحرتي المحامي محرر مجلة “الإمام” حيزا كبيرا من مجلته لنشر هذه الرسالة في أغسطس عام 1937م، ثم قام إسماعيل أدهم بإعادة نشرها في كراسة منفصلة بعد نفوذ أعداد المجلة، الأمر الذي استثار شيوخ المحافظين والمجددين معا وتدافعوا للرد عليه عقب نشرها.
لكن.. لماذا هو ملحد؟
نقد أدهم قول أحمد زكي أبو شادي أن التدين جبلة يفطر الإنسان عليها وراح يقلب في صفحات ذكريات طفولته ليدلل على أنه كان شكاكا وملحدا منذ نعومة أظفاره، وأنه كان يضيق ذرعا بحفظ القرآن والصلاة والصوم، وغير ذلك من تعاليم الإسلام التي كان يتلقاها على يد زوج عمته قهرا، وأن تعاليم المسيحية البروتستانتية وكتابات “إسبينوزا” في نقد الكتب المقدسة وشكوك “هيوم” في عقيدة الألوهية وآراء “داروين” و”سبنسر” و”أوغست كونت” في تفسير الوجود وتطور المجتمع كانت أقرب إلى نفسه من القرآن وكتب السيرة المحمدية.
ويقول في ذلك: “وكانت نتيجة هذه الحياة أني خرجت عن الأديان وتخليت عن كل المعتقدات واستعنت بالعلم وحده وبالمنطق العلمي وأشد ما كانت دهشتي وعجبي أني وجدت نفسي أسعد حالا وأكثر اطمئنانا من حالتي حينما كنت أغالب نفسي للاحتفاظ بمعتقد ديني”، ثم يقول: “فأنا ملحد ونفسي ساكنة لهذا الإلحاد، ومرتاحة إليه فأنا لا أفترق من هذه الناحية عن المؤمن المتصوف في إيمانه”.
وقد حرص إسماعيل أدهم على توضيح وجهته الإلحادية فبين أن إلحاده قد تجاوز درجة الشك في الكتب المقدسة والغيبيات كما هو الحال عند إسبينوزا وهيوم وفولتير على الرغم من اتفاق إسماعيل أدهم معهم في نقض الغيبيات باعتبارها خرافة يجب نبذها والشك في الكتب المقدسة بوصفها كتبا ملفقة، وأن ليس هناك ثمة وجود برهان علمي أو عقلي يقطع بوجود إله على النحو الذي تحدثت عنه التوراة والإنجيل، فإنه يرفض اعتقادهم بوجود إله باعتباره حاجة إنسانية يمكن البرهنة عليها عن طريق الإحساس والشعور، وأبى أدهم إلا أن ينضوي تحت راية الفيلسوف “هولباخ” الذي يعد نموذجا للإلحاد الكامل فذهب معه إلى أن الإيمان بوجود إله يرجع إلى جهل الناس بحقيقة الطبيعة والإصغاء للكهنة الدجالين الذين ابتدعوا فكرة الله لخداع الناس وتضليلهم وابتزازهم.
ورأى أن الإلحاد لا يفضي إلى الفوضى والانحراف الخلقي، بل إن الإيمان بالأديان التي تتحدث عن التوبة والخلاص والمغفرة هو الذي يؤدي إلى ذلك، وقد تابع جحود هولباخ لفكرة وجود الله وسايره في جل آرائه الإلحادية ولم يخالفه إلا في مسألة نظام الكون، فعلى الرغم من رفض هولباخ كل أشكال الدين فنجده يقرر بحتمية قوانين الطبيعة المستمدة من المادة، بينما تبنى أدهم نظرية المصادفة التي فسر بها داروين وجود الكائنات ونقض بها “برتراند رسل” نظرية الحتمية المادية والغائية الإلهية.
ورفض أدهم تعريفات فلاسفة الإلحاد الذين رأوا أن الإلحاد هو إنكار وجود الله، ورأى أن ذلك تعريف سلبي، فالإلحاد في نظره هو: “الإيمان بأن سبب الكون يتضمنه الكون في ذاته، وأن ثمة لا شيء وراء هذا العالم”.
ويبدو أن أدهم قد انتهج في صياغة تعريفه للإلحاد نفس منهج جوزيف مكاب زعيم ملاحدة القرن العشرين الذي انتحل في كتابه “وجود الله” المنشور عام 1913 آراء المتشككين والملحدين ونسبها إلى نفسه، الأمر الذي يسر على نقاده الرد على مزاعمه وتفنيد الأفكار التي تبناها فاعتبروه مقلدا وليس مجددا في آرائه الإلحادية، وهي عين التهمة التي وجهت لأدهم من قبل خصومه ومناظريه.
لماذا أنا مؤمن؟
وقد قام أحمد زكي أبو شادي بالرد على “إسماعيل أدهم” في رسالة أسماها “لماذا أنا مؤمن؟” بيّن فيها أن إلحاد أدهم وسخطه على الأديان بعامة والدين الإسلامي بخاصة يتعارض مع الحرية والعقل والتقدم والنظرة العلمية للكون التي ينشدها أدهم، وأن حججه على إنكار وجود إله لا تخلو من المغالطة والتعصب الذي تأباه الروح العلمية التي يحتمي بها، ووضح أن فكرة الألوهية فكرة قبلية في الإنسان أشبه بالغريزة، واستشهد في ذلك برأي العلماء، ويقول عن رسالته: “وقد تدبرت طويلا كما درست نظريات وتجارب شتى لطائفة من رجال الفلسفة والتاريخ والدين والعلم فانتهيت إلى نظريتي التي حبذها الدكتور ريتشارد بل الأستاذ بجامعة إدنبرة ألا وهي: أن الإحساس بالألوهية إحساس (فطري) شبه غريزي وهو انجذاب الجزء نحو الكل”.
وذهب “محمد فريد وجدي” في رسالته “لماذا أنا ملحد؟” أن النزعة الإلحادية التي تبناها الدكتور إسماعيل أدهم ليست بالأمر الجديد على الفكر الإسلامي ولا ينبغي على المسلمين أن يضيقوا بها، فقد واجه الإسلام منذ ظهوره الزنادقة والملاحدة وانتصر عليهم بالحجة والبرهان، وأن مبررات أدهم ما هي إلا ترديد لآراء الهراطقة القدماء والمحدثين، وأن اتخاذه الفلسفة والعلم حجتين على إنكار الربوبية لا يخلو من العسف، وذلك لأن معظم الفلاسفة الوضعيين الذين احتج بهم لم تسقهم نظرياتهم إلى الإلحاد المطلق، أما العلماء فلا تجد من أكابرهم منكرا للعلة المدبرة والغائبة، بينما الإلحاد المطلق لا يدين به إلا الذين يخلطون بين الفلسفة والعلم في مذاهبهم شأن إسماعيل أدهم.
وراح وجدي يستشهد في رسالته في رسالته “لماذا أنا ملحد” بآراء العلماء الطبيعيين والرياضيين والفلاسفة الذين أكدوا وجود الله كحقيقة فلسفية وعلمية، ومنهم هنري بوانكاريه العالم الرياضي الفرنسي الشهير الذي أكد أن كل ما نسميه بالحقائق العلمية الثابتة ما هو إلا مجرد افتراض لا يرقى إلى مرتبة اليقين، ومن ثم لا يمكننا الفصل في قضية وجود الله استنادا لأحكام نسبية وحقائق مؤقتة سرعان ما تكشف عن زيفها التجارب العلمية الحديثة.
وعاب وجدي على أدهم تشويهه للحقائق وتزيفها وذلك في اتخاذه نقد الفيلسوف الفرنسي “كانت” لأدلة وجود الله في كتابه “نقد العقل الخالص” تكأة لتبرير إلحاده، وأوضح له أن ما أنكره “كانت” في مبحث المعرفة هو الجانب الميتافيزيقي فقط وسرعان ما تيقن منه وأثبته في كتابه “نقد العقل العلمي”، و”الدين في حدود العقل وحده”، كما أن الكتب التي تبحث في فلسفة الدين لم تدرج “كانت” في قائمة المتشككين، بل درجته ضمن المثبتين المؤمنين.
وكشف كذلك عن مواطن الغلو في دفوع أدهم المتمثلة في زعمه أن الإنسان لم يشعر بحاجته للتدين إلا من ألفي عام، وافتقار فكرة الله لقوة الإقناع، وفضح جهله بعلم أنثروبولوجيا الأرض مع ظهور الإنسان من جهة، وتبرهن على أن فكرة العقلية من البديهيات وفلسفة الحضارة وتاريخ الديانات التي تؤكد رسوخ عقيدة الألوهية في العقلية من جهة أخرى.
وانتهى محمد فريد وجدي إلى أن العلة الحقيقية لإلحاد أدهم ترجع لغربته التربوية والفكرية عن روح الإسلام المتمثلة في عدم تنشئته نشأة دينية قويمة وتثقفه على يد المتشككين والملحدين ويقول: “فهذه كلها عوامل تقذف بنفسية الطفل من الشذوذ إلى مكان بعيد ولا عجب لنفس يحكم عليها أن تكون وسط هذا التناقض، ولا تشعر بانقباض شديد يحملها على طلب المخرج منه، فلما آتته نظرية الإلحاد وجد فيها الراحة التامة لضميره والثلج الكلي لصدره فأخذ بها وتحمس لها”.
قزم عملقته الصحافة
وأكد الشيخ مصطفى صبري في كتابه “موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين” أن أدهم ملحد مدعي العلم والتفلسف وقزم عملقته الصحف الماسونية واليهودية والبلشفية التي حملت على الإسلام حملة جائرة في الفترة بين الحربين ولاسيما في مصر لتشكيك المسلمين في دينهم ونشر الإلحاد بين مثقفيها، مستندا في ذلك على تصريح صديقه صادق صبري بك أميرالاي أركان الحرب سابقا في تركيا الذي تولى تربية أدهم بعد وفاة والده، الذي جاء فيه أن إسماعيل أدهم كان طالبا متلكئا بطيئا في تحصيل العلوم، وأن معرفته باللغة التركية والعربية واللغات الأوروبية معرفة متواضعة لا تمكنه من النبوغ والتفوق الذي نسب له، وأن الشهادات العلمية التي نالها من الآستانة وألمانيا وروسيا شهادات ملفقة من صنع الجمعيات الإلحادية.
ودلل على ذلك برفض جامعة إستانبول تعيينه أستاذا للرياضيات وأسندت إليه مهمة أقرب للصحافة منها إلى تخصصه المزعوم في الميكانيكا والرياضيات والفيزياء، ألا وهي التأريخ للحياة الثقافية في مصر في القرن العشرين وتقييم الحياة الأدبية فيها، وكذا اعتذاره عن إلقاء بعض المحاضرات في كلية العلوم بالجامعة المصرية متعللا بضعف صحته وكثرة شواغله، ذلك فضلا عن رفضه دعوة أحمد زكي أبو شادي وفؤاد صروف لضمه إلى المجمع المصري للثقافة العلمية، متحججا بأن معرفته بالعربية لا تمكنه من شرح وتبسيط النظريات العلمية المعقدة التي عبر عنها في كتاباته بالروسية والألمانية والتركية.
تعليل إلحاد أدهم
يقول سامي الكيالي في كتابه “الراحلون” عن علة إلحاده وتطرفه: “وقد عرفنا أن أدهم أتم دراسته الثانوية في أنقرة والعالية في ليننغراد أي حين كانت الثورة الكمالية في احتدام فورانها والروسية في بدء تكاملها فعب من رحيقهما ما جعله في طليعة المؤمنين برسالتيهما، ومن هنا جاءت آراؤه المتطرفة في الكثير من القضايا الاجتماعية والدينية”.
وقد استتر الكاتب “عباس محمود العقاد” وراء شخصية إبراهيم حسنين البردي وذهب إلى أن مضمون رسالة أدهم منقول عن رسالة فيلسوف إنجليزي تشابهت ظروف نشأته وثقافته مع ظروف أدهم وملته واعتقاده، وهي تحمل نفس الاسم الذي حملته رسالة أدهم، ولعله يقصد كتاب “برتراند رسل” “لماذا أنا ملحد؟”.
وقام الشيخ يوسف الدجوي بالرد على رسالة أدهم فكتب عدة مقالات في مجلة الأزهر تحت عنوان “حدث جلل لا يمكن الصبر عليه”، وجاء في نقضه أن رسالة أدهم درب من السخف وأن صاحبها يطعن في دين الدولة ومليكها حامي الدين والعلم، وأن ما جاء فيها يتناقض مع الفطرة الإسلامية التي جبل عليها سائر البشر.
قانون المصادفة
لم تقف مساهمة إسماعيل أدهم في هذه المثاقفة عند هذا الحد بل أراد أن يرمي عقيدة الألوهية برمح العلم ولم يفطن أن عصاته قناة بلا سنان لا تطعن ولا تصيب فقد أراد أدهم توطئة رسالته الإلحادية بإحدى النظريات التي تجمع بين العلم والفلسفة لإنكار العناية والغائية وخلق الكون من عدم، ألا وهي نظرية المصادفة، مسايرا بذلك الماركسيين الذين جعلوا من المادة الجوهر الأساسي الأزلي الأبدي الذي انبثقت عنه جميع الموجودات بحركة ذاتية داخلية وأطوار استغرقت ملايين السنين لا يحكمها إلا الصدفة.
ولم يكن من العسير على مناظريه هدم هذه النظرية المزعومة، فذهب أحمد زكي أبو شادي إلى أن قانون المصادفة الذي استند عليه أدهم إذا ما طبق على نحو مطلق شامل كما يزعم فسوف يصبح دربا من الفوضى التي ينقصها النظام الواقع في العالم؛ الأمر الذي يجعل نظريته أقرب إلى اللغو والسفسطة منها إلى العلم.
أما محمد فريد وجدي فوضح أن معارضة أدهم لأينشتاين وجيمس جينز وغيرهما من العلماء معارضة يعوزها السند العلمي والمنطق العقلي وأن حديثه عن حساب الاحتمالات ينأى عن القواعد الأساسية التي تضبط هذا العلم، وأن قوله بالتفرد في اكتشاف نظرية الصدفة الشاملة مجرد ثرثرة لم تلتفت إليها الدوائر العلمية التي ادعى أنه اتصل بها لدراسة نظريته الجديدة.
أما الشيخ مصطفى صبري فقال إن إسماعيل أدهم قد اتخذ من الاحتمال والترجيح سبيله لإنكار وجود الله، في حين مضى الشيخ يوسف الدجوي يؤلب على أدهم الملك والبرلمان والوزارة والرأي العام مستندا على مواد الدستور التي تقرر أن دين الدولة هو الإسلام، ومعاقبة من يطعن فيه، وموضحا أن حرية الفكر التي كفلها الدستور لا تعني الاجتراء على الدين والكفر بدين الدولة وجاء في تحريضه الوزارة الدعوة إلى مصادرة رسالة أدهم ومعاقبة صاحبها.
وقد لبت وزارة النحاس نداء الشيخ يوسف الدجوي واستجابت للدعوة التي قدمها شيوخ الأزهر ضد إسماعيل أدهم، وقامت النيابة بالتحقيق معه ومصادرة رسالته وتفتيش منزله فوجدت فيه رسالة (لماذا أنا ملحد؟) وملفات أخرى تحوي بعض نسخ من بحوث متعددة عن فلسفة النشوء والارتقاء، وكتاب “لماذا أنا ملحد؟” لراسل، ومظروفا يحوي أكثر من ثلاثين صفحة من كتاب بخطه يشرع في تأليفه ينكر فيه وجود الله ويؤكد إلحاده، وقد حالت جنسيته التركية وحالته الصحية بينه وبين السجن واكتفت النيابة بتحذيره وتعطيل مجلة الإمام التي نشرت الرسالة لأول مرة.
معركة على أثر المعركة
وقد أثارت هذه الواقعة بعض المجادلات بين المحافظين والمجددين حول المقصود بنص دستور الدولة آنذاك (دستور 1923) (أن دين الدولة الإسلام مادة 49) وما جاء في المواد (12، 14، 16) بشأن حرية الاعتقاد وحرية الرأي والفكر وطبيعة الدور الذي يضطلع به الأزهر وشيوخه في الحياة الثقافية ومدى مشروعية قرارات هيئة كبار علمائه بشأن مصادرة الكتب وإحالة أصحابها للنيابة والحكم بتكفيرهم.
فذهب “سلامة موسى” إلى أن الاعتراف بأن دين الدولة هو الإسلام لا يعني الحجر على حرية الملحد أو البهائي أو البوذي أو المسيحي ومنعه من الدفاع عن مذهبه الذي يعتنقه، أما الإيذاء الذي تسببه حرية البوح بما يخالف الاعتقاد السائد فعلى الرأي العام أن يواجهه بالتسامح، وبيّن مصطفى عبد اللطيف السحرتي أن إيمانه بحرية الفكر التي لا تتعارض مع الدستور كانت دافعه الأول لإفراد بعض صفحات مجلة الإمام –التي كان يحررها- للتناظر والتساجل بين الأدباء والمفكرين وأن نشره رسالة أدهم “لماذا أنا ملحد؟” لا يعدو أن يكون من هذا السبيل، وعاب على شيوخ الأزهر زجهم بموضوع المساجلة في أتون السياسة واستعداء الجمهور على مجلته، وأسف على أسلوب الشيخ يوسف الدجوي في النقد ووصفه بأنه يفتقد أدب الكتابة وأصول النقد شأن المتعصبين من شيوخ الأزهر الذين يسيئون للإسلام بكتاباتهم وحجرهم على حرية الفكر.
ورمى “أبو شادي” الأزهريين بالعنت والجهل والتعصب، موضحًا أن مثل هذه الخصال لا تصدق على من يمثلون الشريعة الإسلامية السمحة والحضارة العربية التي لا تندحر إلا بعد تخليها عن التسامح الفكري والديني، وأوضح أن التمحك بمواد الدستور دون أخرى واستعداء الساسة على رجال الفكر يعد لونا من ألوان الإرهاب والاستبداد، الأمر الذي يتعارض مع الدين والدستور معا.
وأكد محمد فريد وجدي أن المجاهرة بالإلحاد إن كانت تؤذي الشعور العام وتؤلم سرائر المؤمنين فإنها لن تنال من العقيدة الإسلامية ولن تفتن إلا ضعاف الإيمان المحتاجين إلى من يقوم لهم معتقدهم، ويفسر لهم ما لبس عليهم ويقتلع من عقولهم وقلوبهم جذور الشك، وذلك عن طريق الاستناد إلى الحكمة والبرهان العقلي في مجادلة المرتدين، بينما يكمن الخطر في قمع المجترئين على الدين؛ لأن مثل ذلك الصنيع يوهم البعض بأن الإسلام عاجز عن رد مطاعنهم ونقض مزاعمهم، والحق أن من يسلك هذا المسلك لا يكشف إلا عن ضعف حجته وقلة علمه ويخفى جهله وراء حتمية التعصب.
ونجد الشيخ عبد المتعال الصعيدي يؤكد أن عدم الإكراه في الإسلام لا يؤدي إلى إباحة الكفر؛ لأن المباح في الشرع هو ما لا يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه، والثواب والعقاب في هذا التعريف المباح أخرويان، غير أنه أوضح أنه ليس من حق الأزهر تصويب رماح الكفر لمخالفيه، بل الأحرى به أن يطور في مناهجه للدعوة ونشر الإسلام والذود عنه ضد خصومه عن طريق الجدل المثمر والحكمة والموعظة الحسنة.
ياسر حجازي