نشأت فكرة تأسيس مدرسة للفنون الجميلة منذ قرنين من الزمان حين غزت الحملة الفرنسية مصر بقيادة نابليون بونابرت، وكان وراء هذه الفكرة علماء الآثار المرافقون للحملة؛ لحاجتهم إلى فنيين قادرين على رسم الآثار المصرية ومحاكاتها بدقة وأمانة؛ ليتسنى لهم فك رموزها والوقوف على أسرارها، غير أن هذه الفكرة لم يكتب لها النجاح في ذلك الوقت بسبب فشل الحملة وعودتها إلى بلادها.
ولم يهتم محمد علي باشا بإنشاء هذه المدرسة، على الرغم من اعتماده على الفرنسيين في إنشاء المدارس العليا، وإرساله البعثات إلى فرنسا للتخصص في ميادين العلم المختلفة في الطب والهندسة والرياضيات والعلوم الطبيعية والحربية وغيرها، ولم يكن من بينها بالطبع الفنون الجميلة، وهذا الأمر يعكس رأي القائمين على أمر هذه البعثات المعتمد أساسا على حرمة ممارسة فنون التصوير والنحت وعمل التماثيل، والاستعاضة عن ذلك بالزخارف النباتية والهندسية على الأثاث والنسيج والخزف والخشب، وكان الفن الإسلامي يعتمد على التجريد والرمز واستخدام الخط العربي وجمالياته، ولا يعتمد على التصوير المطابق لشكل الإنسان والحيوان.
ومع انفتاح مصر على أوربا انتقلت إليها كثير من تأثيرات الثقافة الغربية في الأدب والفن ونمط الحياة، وبدأ بعض الأمراء والأغنياء المصريون يهتمون باقتناء اللوحات الزيتية التي يرسمها فنانون غربيون، وكان فريق منهم قد عرف الطريق إلى مصر، وبخاصة الفرنسيون الذين عرفوا بالمستشرقين من أمثال: إميل برنار (1869-1941م)، وجويومان (1841-1927م) وكرابيليه (1822- 1867م)، وماريلا (1811-1747م)، وبيرشير (1819-1891م).
وقد اقتنى لوحات هؤلاء وغيرهم محمد محمود خليل، وهو ثري مصري فرنسي الثقافة، أغرم هو وزوجه باقتناء الأعمال الفنية. وقد ضم قصر هذا الرجل من روائع الفن الأوربي 133 لوحة كبيرة، و58 لوحة صغيرة، و42 تمثالا، لكبار الرسامين والنحاتين، بالإضافة إلى بعض أعمال الرسامين المشهورين من أمثال: فان جوخ، وديلاكروا، وجوجان، ورينوار، ورودان، وكوردييه.
وقد آل هذا القصر بمقتنياته بعد وفاة صاحبه إلى الدولة، بناء على وصيته، وأطلق عليه متحف محمد خليل محمود وحرمه، وافتتح في سنة (1382هـ=1962م).
عباس حلمي يفتتح معرضا فنيا
وكان بيت السيد البكري بشارع الخرنفش -وسط القاهرة- منزلا للمصورين الفرنسيين الذين استهوتهم الفنون الإسلامية من المنازل العربية الأثرية والمساجد والأضرحة والأسبلة والأسواق، فضلا عن الأزياء الشعبية.
ولما تكدست لوحات هؤلاء الفنانين في مراسمهم، ولم يجدوا فرصة لعرضها، استطاع أحدهم عن طريق بعض المقربين من الخديوي عباس حلمي الثاني من إقناعه بعمل معرض لتلك اللوحات تحت رعاية الخديوي نفسه الذي قبل الفكرة، فأقيم معرض في (ربيع الأول 1309هـ= أكتوبر 1891م) بدار الأوبرا، وحضر الحفل رجال السلك الدبلوماسي وممثلو الدول الأجنبية وكبار موظفي الدولة وأعيان البلاد وأثرياؤها.
وقد بيعت جميع لوحات المعرض بفعل تشجيع الخديوي، وكان لنجاح هذا المعرض أصداء واسعة في الجرائد المصرية، وشجع نجاح هذا المعرض على تكرار الفكرة مرة أخرى بعد عدة سنوات، وهو ما جعل بعض الموهوبين من الفنانين يتطلعون إلى الدراسة العلمية المنظمة، ويترقبون الفرصة التي تتيح لهم نوعا من الدراسة الجادة.
يوسف كمال.. أبو المشروع
وكان الأمير يوسف كمال واحدا من أبناء الأسرة المالكة في مصر، وممن يمتلكون ثروة كبيرة، ويحبون العمل الاجتماعي، شأنه في ذلك شأن الأمير عمر طوسون، وأسهم في تنمية عدد كبير من القرى المصرية في صعيد مصر، وأدخل بعض التقنيات الزراعية الحديثة في منطقة نجع حمادي، وعُرف بالوطنية، حتى إنه بعد حركة الجيش في سنة (1371هـ=1952م) أعاد إلى مصر معظم ممتلكاته التي كانت في الخارج.
اشتهر يوسف كمال بحبه للفنون الجميلة، وشغفه بشراء اللوحات الفنية، وكان يجوب العالم من أجل شراء القطع النادرة في الفن الإسلامي والفن الآسيوي، وكان يهدي المتاحف الملكية كثيرا من المجموعات التي يقتنيها، ونتيجة لاهتمامه بالفنون ترأس جمعية الفنون الجميلة. وبعد قيام حركة الجيش غادر مصر وأقام في أوربا حتى توفي في مدينة أستروبل بالنمسا سنة (1389هـ= 1969م).
وتعود فكرة إنشاء مدرسة الفنون إلى أحد النحاتين الفرنسيين، يدعى جيوم لابلان وكان ينحت تمثالا للأمير يوسف كمال في سنة (1325هـ=1927م)، وأبدى تعجبه من عدم سعي المسئولين في مصر لإحياء الفنون والنهوض بتقاليدها الفنية التي كانت لها تقاليدها منذ القدم.
أثار هذا الحديث اهتمام الأمير الذي ما لبث أن اقتنع به، وعزم على إخراج هذا المشروع على نفقته الخاصة، وعهد بإدارته إلى لابلان صاحب الاقتراح، وظل الاثنان يخططان لقيام هذه المدرسة، وطالت اجتماعاتهما اليومية لمدة ستة أشهر لدراسة تنفيذ هذا المشروع وكيفية تذليل العقبات التي يمكن أن تقف في طريقه.
المدرسة والتلاميذ
وفي يوم (12 من ربيع الآخر سنة 1226هـ= 13 من مايو 1908م) فتحت المدرسة أبوابها لأول مرة بعد أن تقدم إليها ما يقرب من 400 طالب، كان من بينهم عدد كبير من أصحاب المواهب الفطرية، إلى جانب المنتسبين من الهواة، ولم تشترط المدرسة تقديم مصروفات، بل كان الالتحاق بها مجانا، ودون تقيد بسن، وكانت المدرسة تتولى صرف الأدوات دون مقابل لطلاب أقسام التصوير والنحت والعمارة والزخرفة, ولم تكن تشترط للالتحاق بها سوى النجاح في امتحان القبول التي تجريه للمتقدمين.
وكان مدير المدرسة لابلان قد أعد برامجها الدراسية على غرار مدرسة الفنون في باريس، وكانت تدرس في السنة الأولى الرسم والنحت والعمارة والخط العربي، وقد شجعت نتائج الطلاب في هذه المواد إدارة المدرسة، فأدخلت مادة الزخرفة، وعين لها أستاذ متخصص، وبعد مرور خمسة أشهر من إنشاء هذا القسم ظهرت نتائج بديعة تتمثل في تصميمات مبتكرة لآنية مزخرفة وأقمشة وقيشاني.
واختار مدير المدرسة للتدريس في المدرسة الأساتذة: المصور الإيطالي باولوفور تشيللا وكولون للزخرفة، وهنري بيرون للعمارة، وجمع لابلان بين إدارة المدرسة وتدريس النحت.
وممن كان في طليعة من التحقوا بهذه المدرسة عند إنشائها وصار لهم شأن بعد ذلك: المثّال محمود مختار (1308- 1353هـ=1891-1934م) الذي تعد أعماله امتدادا للفن المصري القديم، وهو أول فنان يقيم معرضا فرديا لإنتاجه في باريس، ومن أشهر أعماله تمثال نهضة مصر، وأغلب أعماله معروضة بمتحفه بالقاهرة.
ومنهم المصور محمد حسن (1309-1381هـ=1892-1961م) الذي استكمل دراسته الفنية العليا في كل من إنجلترا وإيطاليا، وقد عني في أعماله بتصوير الأشخاص، إلى جانب اهتمامه بالفنون التطبيقية عامة والصياغة وأشغال المينا والسباكة، وقد تولى مناصب فنية كثيرة، كان من بينها إدارة مدرسة الفنون الجميلة في سنة (1360هـ=1941م)، وآثاره الفنية توجد في المتاحف العامة والمجموعات الخاصة.
وكذلك المصور يوسف كمال الذي استكمل دراسته الفنية في إيطاليا، وهو أول مصري يعين بمدرسة الفنون الجميلة المصرية، وكان في رسومه يعشق تصوير الأحياء الشعبية والريف والحياة بين أحضان الطبيعة، وقد نال جائزة الدولة التقديرية في الفنون سنة (1380هـ=1960م)
شهادة بمواهب المصريين
وقد كتب مدير المدرسة مقالا بعنوان: المواهب الفنية للمصريين على ضوء النتائج التي توصلت إليها مدرسة الفنون الجميلة ونشره في مجلة مصر المعاصرة سنة (1328هـ=1910م) قال فيه: إن النتائج التي توصلت إليها المدرسة في الفترة ما بين إنشائها وتاريخ كتابته هذا المقال سنة 1910م تدل على مقدار النجاح الذي أحرزته المدرسة، بالرغم من قصر فترة التجربة التي لم تتجاوز 18 شهرا.
فقد التحق بالمدرسة ما يقرب من 400 طالب تتراوح أعمارهم ما بين الخامسة عشرة والعشرين، ولم يكن لدى أحد منهم أية فكرة عن التعبير الفني. ولمّا كان من المتعذر الوقوف على مواهب الطلاب وقدراتهم الفنية عند التحاقهم، أصبح من الطبيعي انتخاب الصالح منهم، فانسحب بعضهم من تلقاء نفسه، وفصلت إدارة المدرسة مجموعة أخرى.
ولم يبق للدراسة في المدرسة سوى الذين دلوا على اهتمام بالفنون وظهر في إنتاجهم بعض التطور، وهؤلاء يكونون جزأ كبيرا من مجموعة الطلبة الذين بلغ عددهم 146 طالبا، منهم عشرون يتميزون بمواهب خاصة، وقد استخلص منهم مدير المدرسة عشرة لديهم قدرة فائقة على حسن التعبير، كان من بينهم محمود مختار الذي قال عنه التقرير إنه لم تكن لديه أية دراية بالرسم، ولكنه بعد أن ظل ما يقرب من سنة يدرس النحت يمكن القول بأن استعداده الفطري يسهل له سرعة التطور والتعبير.
وخص التقرير بعد مختار الطالب محمد حسن، ووصفه بأنه أكثر الطلاب المصريين ثقافة وسعة في الأفق، وأنه دل على منذ الشهر الأول من التحاقه بالمدرسة على تفوق ملحوظ؛ فهو أمهر الطلبة في الرسم.
ومن الممتازين من الطلبة أيضا علي حسن وهو أصغر سنا من سابقيه، وتدل أعماله على مواهب فذة تتطور تطورا ملحوظا. كذلك يدل إنتاج كل من عباس رفعت ويوسف كامل على استعدادات طيبة بالرغم من صغر عمرهما، فالأول سنه 15 سنة، والآخر سنه 17 سنة.
بداية.. غربية الوجه
وقد أشاد بالمدرسة شيخ العروبة أحمد زكي، وطالب الدولة بأن تتكفل بموارد لها تتضمن لها الاستمرار، وبضرورة المحافظة على نظم المدرسة وأساتذتها، وعلى طابعها باعتبارها مدرسة للفنون، والحرص على عدم تحويلها إلى مدرسة للصناعات.
ودعا إلى أن الطراز الذي يجب أن يسود الدراسة فيها هو الطراز العربي، وأن تستبعد جميع الطرز الغربية في الفنون، وأنه إذا كانت الضرورة قد اضطرتنا إلى الاستعانة بأساتذة أجانب، فيجب أن يكون توجيههم مقصورا على بث الروح الفنية وإرشاد الطلاب إلى التكوينات الفنية الأصيلة، مع تجنب انحياز الذوق العام إلى الطراز الغربي.
وطالب أحمد زكي إدارة المدرسة بأن توفد المتفوقين من الطلاب ولا سيما المتخصصين في فنون الزخرفة إلى الأندلس أو سوريا حيث توجد معالم أثرية رائعة للفن الإسلامي.
وجدير بالذكر أن أسلوب الدراسة لم يتجه في بادئ الأمر إلى التراث المصري القديم، فقد تركز هدف مدير المدرسة في تدريب الطلاب ومرانهم على محاكاة الأساليب الغربية، دون نظر إلى ارتباط هؤلاء الطلاب ببيئتهم وماضيهم الفني.
التطور.. والمسئولون
وبعد عامين من الدراسة وضعت المدرسة تحت أشراف الجامعة المصرية الأهلية، ثم ألحقت بإدارة التعليم الفني بوزارة المعارف، وصارت تمنح خريجيها دبلوما فنيا، وتولى إدارة المدرسة المصور الفرنسي جابريل بيسيمن سنة (1332هـ=1914م) إلى سنة (1346هـ=1927م)، ثم تحولت المدرسة منذ ذلك التاريخ الأخير إلى مدرسة عالية، وأشرفت عليها وزارة المعارف المصرية.
ثم تولى إدارة المدرسة الإيطالي كاميللو إينوشنتيحتى سنة (1356هـ=1937م)، ومن هذا العام بدأ تمصير الوظائف الفنية، وكان المصور المصري المعروف محمد ناجي أول من تولى هذا المنصب، ولم يكن من خريجي مدرسة الفنون، بل إنه درس القانون بجامعة ليون سنة (1324هـ=1906م)، وحصل على إجازتها بعد أربع سنوات، ثم التحق بأكاديمية فلورنسا لدراسة فن التصوير، وعاد إلى مصر سنة (1333هـ=1914م)، والتحق بالعمل الدبلوماسي، ثم لم يلبث أن تفرغ للفن منذ سنة (1349هـ=1930م). وعامين خلفه محمد حسن، وكان أول مدير للمدرسة من خريجيها.
وما زالت المدرسة تقوم بدورها في تقديم المواهب وإثراء الحياة الفنية حتى الآن، تحت مسمى كلية الفنون الجميلة التي تتبع جامعة حلوان.
أحمد تمام5>
من مصادر الدراسة:
نخبة من المؤلفين: الدليل الببليوجرافي للقيم الثقافية العربية الأصيلة- الهيئة المصرية العامة للكتاب- 1973م
الأمير عثمان إبراهيم وآخران: محمد علي الكبير، خصوصيات عائلية ملكية- المجلس الأعلى للثقافة- القاهرة – 2005م
محمد شفيق غربال وآخرون: الموسوعة العربية الميسرة- دار نهضة لبنان للطبع والنشر-بيروت- 1407هـ=1987م
سعد الخادم: مدرسة الفنون الجميلة- مجلة المجلة- العدد16- السنة الثانية -1958م