الإسلام دين شامل ومنهج حياة، وهو عقيدة وشريعة، عبادات ومعاملات، يوازن بين متطلبات الروح من العبادات ومتطلبات الجسد من الماديات يربط الحياة الدنيا بالآخرة؛ فقد تضمنت شريعته المبادئ والأحكام التي تنظم حياة المسلم جميعها، سواء أكان منتجا أم مستهلكا، أو عاملا أو صاحب عمل. وقد أقام هذا الدين حضارة عظيمة، من دعائمها نظام اقتصادي متميز يعتمد على السوق الحرة النظيفة الخالية من المحرمات والخبائث، والداعية لحماية المستهلك، ويحقق التنمية الشاملة للإنسان ليعمر الأرض ويعبد الله على بصيرة.

كما أن الإسلام حينما انتشر في كثير من دول شرق آسيا وأفريقيا لم يكن عن طريق الخطابة أو الجهاد؛ بل بالقيم الإيمانية، والأخلاق الكريمة، وكذلك بقواعد ومبادئ ومعاملات التجارة، فلما وجد المنتجون والمستهلكون من التاجر المسلم كريم الخلق مثل الأمانة والصدق والقناعة وحسن الأداء ويسر المعاملة دخلوا الإسلام أفواجا.

لقد تضمنت الشريعة الإسلامية الغراء مجموعة من القواعد لحماية المستهلك من نفسه أولا، ثم من المنتج والتاجر الوسيط، وكذلك من السلطان، وهي لو طبقت تطبيقا شاملا لحققت الخير للمنتج والمستهلك وللفرد والمجتمع. فلنتعرف ملامح الحماية الإسلامية للمستهلك بالتفصيل في السطور التالية.

حماية المستهلك من نفسه

يتسم المستهلك المسلم الصالح الورع الملتزم بشرع الله بسلوك سوي عند اختيار ما يشتريه، ومن الضوابط الشرعية التي تحكمه في هذا المقام أنه يبدأ بشراء الضروريات ثم الحاجيات ثم الكماليات، ولا يسرف ولا يبذر عند الشراء، ولا يقلد الغير تقليدا أعمى، كما أنه يتجنب شراء المحرمات والخبائث، ملتزما بقول الله عز وجل {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث}، وقوله تبارك وتعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين}، وقول الرسول “كل ما شئت، واشرب ما شئت دون سرف أو مخيلة.

ولا يمكن أن يوجد هذا المستهلك المنضبط بشرع الله إلا عن طريق التنشئة الصالحة تربية وتعليما على المنهج الإسلامي؛ فنحن في حاجة إلى تربية أولادنا وتعليمهم تجنب الحرام والإسراف والتبذير والترف والبذخ؛ فطفل اليوم هو مستهلك الغد، وطفلة اليوم هي ربة البيت في المستقبل.

.. ومن المنتج

لقد أمر الإسلام المنتج بتجنب إنتاج المحرمات والخبائث، كما أمره الرسول بإتقان الصنع مصداقا لقوله : “إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملا أن يتقنه”، وعدم الغش “من غشنا فليس منا”، وترشيد النفقات حتى تكون الأسعار في متناول المستهلك العادي، ولا يبخس العامل أجره، كما لا يتعامل بالربا حتى لا تزيد النفقات.

إن التزام المنتج بهذه الضوابط الشرعية يحمي المستهلك من المحرمات والخبائث، كما أنه يحميه من السلع السيئة الرديئة، وكذلك من المنتجات المغشوشة والأسعار العالية، وهذا يحقق لكليهما الخير والبركة والربح والوفرة في النفقات؛ فهل يستطيع رجال الإنتاج في هذا الزمن أن يلتزموا بالقيم الإيمانية والأخلاقية كما التزم بذلك السلف الصالح؟!.. لو التزموا لارتفعت الجودة، وقلت نفقات الإنتاج وزاد ربحهم.

ومن التجار

لقد تضمنت الشريعة الإسلامية القواعد والأحكام التي تحكم المعاملات في الأسواق مع التجار؛ فقد أمر الإسلام بحرية المعاملات في الأسواق مع التجار، وأن تكون خالية من الغش والتدليس والمقامرة والجهالة والغرر والمعاملات الربوية وكل صيغ أكل أموال الناس بالباطل؛ فعلى سبيل المثال عندما حرمت الشريعة الإسلامية كل صور الربا، ومنها فوائد التمويل والقروض؛ فإنها بذلك تمنع ارتفاع التكاليف والأسعار بتلك الفوائد.

وحرمت الشريعة الغش والاحتكار لأنهما يؤديان لضياع الأموال وغلاء الأسعار وظلم المستهلك. وصدق رسول الله إذ يقول: “من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقا على الله أن يقعده من النار يوم القيامة“، وحرم الله وبيع الغرر وغير ذلك من البيوع المحرمة.. كل هذا لحماية المستهلك وكذلك المنتج.

إن التزام التجار بالقواعد الشرعية لمعاملات في الأسواق يحقق الأمن للمستهلك ويحافظ له على ماله، وفي الوقت نفسه يبارك الله سبحانه وتعالى في مكسب التجار، ولكن أين التاجر المسلم الصادق الأمين الذي وعده بأن يكون مع الشهداء والصالحين يوم القيامة؛ إذ يقول الرسول : “إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى الله وبر بصدق”، وكذلك يقول في حديث آخر: “التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء”.

أين تجار اليوم من التجار الذين رباهم رسول الله صلى عليه وسلم على الصدق والأمانة والقناعة والتيسير على الناس والإيمان بأن الرزق بيد الله؟.

ومن ظلم الحاكم

لقد وضعت الشريعة الإسلامية مجموعة من الضوابط لحماية المستهلك من الحاكم الظالم الجائر؛ فعلى سبيل المثال لا يجوز له التدخل في التسعير بدون ضرورة شرعية يقرها أهل الفقه والعلم، ولا يجوز له أن يفرض المكوس (الضرائب الباهظة) على التجار ليغلي الأسعار على الناس، فيقول رسول الله : “لا يدخل الجنة صاحب مكس”.

 كما لا يجوز أن يفرض على المعاملات رسوما عالية، ودليل ذلك حديث رسول الله : “هذه سوقكم لا تتحجروا فيها ولا يفرض عليها خراج”، وفي رواية أخرى “هذه سوقكم فلا ينتقص ولا يضربن عليه خراج”، ويجب على ولي الأمر حماية المستهلك وعدم الإضرار بالمنتجين، فلا ضرر ولا ضرار.

وسائل الحماية

لقد شرع الإسلام بعض الوسائل والنظم لحماية المستهلك، فيما لو لم ينضبط للمستهلك والمنتج والتاجر والسلطات بضوابط الشريعة الإسلامية، ومن أبرز هذه الوسائل:

1- الرقابة الذاتية:

وتعني أن يقوم كل فرد بالتأكد من أن أي عمل يقوم به صالح صواب يتفق مع شرع الله، وتقوم الرقابة الذاتية على القيم الإيمانية التي تحيي الضمير ليراقب صاحبه، ويؤمن من أن الله عز وجل مطلع عليه، وأن هناك ملائكة تقوم بتسجيل كل ما يقوم به في كتابه، وأنه سوف يبعث يوم القيامة، ويُسأل أمام الله عن أعماله.

لو وجدت الرقابة الذاتية عند المستهلك وعند المنتج وعند التاجر وعند الحاكم سواء بسواء لطهرت المعاملات من كل أنواع الحرام والخبائث لتحقق الخير للجميع للفرد والمجتمع والناس جميعا المسلم وغير المسلم.

2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

وهو من أهم الواجبات المنوطة بالمسلم، وأساسها قول الله تبارك وتعالى {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}، كما يقول الرسول : “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”.

ويؤدي تطبيق هذا الأسلوب في مجال المعاملات التجارية إلى حماية المستهلك من كل صور الاستغلال والابتزاز والغش والغرر والتدليس، وتقوم جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنهي عن كل ما يخالف مبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية في الأسواق.

3- نظام الحسبة:

من بين مهام نظام الحسبة في التطبيق التجاري الإسلامي مراقبة الأسواق، والتأكد من خلوها من كل ما يتعارض مع مبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية، مثل منع الاحتكار والغش ومراقبة الجودة والأسعار وتطهير السوق من كل الشوائب والمعاملات غير المشروعة، وهذا من أهم الوسائل الحكومية لحماية المستهلك.

4- مؤسسة المسجد:

يمكن أن يساهم المسجد بدور فعال في حماية المستهلك، وبيان الجائز شرعا والمنهي عنه شرعا، ويجب أن يكون الواعظ أو الإمام على علم بطبيعة معاملات الأسواق المعاصرة، وكيف يعظ كلا من المنتج والمستهلك والوسطاء لحماية المستهلك.

ومن السبل المتاحة في المسجد لحماية المستهلك على سبيل المثال ما يلي: الخطب المنبرية، وحلقات التدريب، ومجلة المسجد، والندوات والمؤتمرات، وشرائط الكاسيت والفيديو، والكتيبات.


د. حسين شحاتة – الأستاذ بجامعة الأزهر، خبير استشاري المعاملات المالية الشرعية.