في مصر.. وبالتحديد في مدينة الإسكندرية تتوالى الاحتفالات بالافتتاح التجريبي لمكتبة الإسكندرية، وهي كما قيل تعتبر رابع مكتبة في العالم من حيث عدد الكتب والمصادر، بالإضافة إلى مساحتها وتقنياتها الحديثة، وهي مشروع مصري – عربي – دولي، ويسعى المشاركون في بنائها إلى إحياء مكتبة الإسكندرية القديمة، صاحبة الدور الثقافي البارز في العالم القديم دون منازع، وحتى لا نكون أسرى التصريحات والآراء المتفائلة من القائمين عليها، ولا نكون ممن يثيرون الأسى وقت الأفراح، فلنعرض تاريخًا موجزًا للمكتبة وننظر بعد ذلك في المشروع الجديد.
يتفق كثير من المؤرخين أن “الإسكندر المقدوني” هو صاحب فكرة مكتبة الإسكندرية، ولا نعتقد أن هذا الأمر بعيد عن الحقيقة؛ إذ كان “الإسكندر” تلميذًا للفيلسوف الشهير “أرسطو”، وقد بدأها بطليوس الأول، الذي حكم مصر بعد موت الإسكندر وأسس دولة البطالمة بالتعاون مع أحد أكبر مفكري عصره وهو “ديمتريوس الفاليري”، وقد وضع تخطيطا معماريا وموضوعيا بحيث تكون معبرةً عن رصيد الفكر اليوناني وعلوم العصر.
وتابع “بطليوس الثاني” خطة أبيه بل وتفوق عليه؛ إذ سعى إلى كافة مكتبات العالم القديم ونسخ ما فيها من كتب، وبدلا من رد الأصل، كان يرسل النسخة التي نسخها ويحتفظ بالأصل، وزيادة على ذلك فقد أمر جنوده بتفتيش كافة القوافل البرية والبحرية القادمة لمصر ومصادرة ما بها من كتب أو نسخها لأصحابها مع الاحتفاظ بالأصل، وكان رأيه في هذا أن النسخ ربما وقع فيه أخطاء، والمكتبة مرجع لكبار الباحثين والعلماء والمفكرين، ومن ثم يجب أن تكون مراجعهم سليمة من أي خطأ.
ويتردد المؤرخون في حجم المكتبة، والرواية الأقرب أنها حوت حوالي سبعمائة ألف عنوان، وكانت الكتب توضع في غلاف معدني (إذا كانت من ورق البردي)، وتوضع في ثقوب في الحائط، وإن كانت من الرق (أي من الجلود) وضعت على أرفف، وقد انقسمت المكتبة من حيث البناء إلى قسمين:
الأول: المكتبة الأم، وتسمَّى “الموسيون” بمعنى المتحف وبها كان المرصد الفلكي، وهو المبنى الأصلي للمكتبة ومكانه في الحي الملكي بالإسكندرية (لا يوجد اتفاق بين الأثريين حول مكانها بالتحديد – ومن ثم الموقع الجديد محل جدل).
الثاني: المكتبة الصغرى أو الابنة، وتسمَّى “السرابيوم”، وفي الوقت نفسه هي معبد لـ”سرابيس” (وهو معبود ابتدعه البطالمة كإله مشترك بينهم وبين المصريين) ومكانها في حي راقودة (بالغرب من عمود السواري الموجود بمنطقة كوم الشقافة بالإسكندرية).
وقد شملت المكتبة كتبًا في كافة العلوم والفنون، وقد قُسِّمت إلى عشرة أقسام رئيسة هي:
القانون، الفلسفة، التاريخ، الخطابة (البلاغة واللغة)، شعر الملاحم والشعر الغنائي، الشعر التمثيلي (التراجيديا والكوميديا)، الطب، العلوم الرياضية، العلوم الطبيعية، متفرقات.
نهاية المكتبة القديمة
كان الحريق الأول للمكتبة عند غزو “يوليوس قيصر” 47 ق.م، وكان ذلك عندما أحرق أسطوله في الميناء الشرقي للإسكندرية؛ خشية أن يقع في يد المصريين، فامتدت النيران إلى المدينة، واحترق جانب كبير من المكتبة الأم، ويكذّب البعض هذه الرواية على أساس أن ما وصل إلينا من مصادر حول هذا الحريق يبعد زمانًا لا يقل عن تسعين سنة بينه وبين الأحداث، وهناك زعم أن “أنطونيوس” عوّض المكتبة بعد ذلك.
أما الحريق الثاني فقد كان في العصر المسيحي، والإسكندرية من المدن التي اعتنقت وتعصبت للمسيحية منذ فترة مبكرة من تاريخها (دخل مرقص لنشر المسيحية في مصر، والإسكندرية، خاصة عام 65م) وقد عانت المكتبة من جراء ذلك، على أساس أنها أولا تناقش وتدعو إلى الأفكار الفلسفية القديمة (وهي كفر وهرطقة من وجهة نظر المسيحية)، وأن جانب من المكتبة معبد وثني – وهو السرابيوم، فقام الإمبراطور “كاراكاللا” (حكم بين 211-217م) بإغلاق المكتبة وطرد العاملين والباحثين.
الحريق الثالث كان في عهد الإمبراطور أورليانوس 273م، حيث دمر جانبًا كبيرًا من المدينة بعد اضطرابات من جانب المسيحيين قاموا فيها بإحراق جانب من المكتبة الأم، وتكرر الأمر في عام 296م.
وفي القرن الرابع حدث تغير كبير، إذ اعتنق الإمبراطور الروماني “قسطنطين” المسيحية (أو سمح لهم بالحرية الدينية، ثم اعتنقها من بعد) واستطاع الأسقف “يثوفيلوس” أن يستصدر أمرًا إمبراطوريا بتدمير كل ما يتصل بالوثنية من كتب أو معابد، ومن ثم فقد قام بتدمير المكتبة وإحراق كثير من الكتب، وأرسل مجموعة منها إلى القسطنطينية وروما.
هذه الروايات جميعًا محل اتفاق المؤرخين الغربيين والشرقيين على السواء، ولكن منهم من يشكك رغم ذلك في أن تكون مثل هذه الأهوال قضت تماما على مقتنيات المكتبة، ويتعلق أمثال هؤلاء بالرواية حول إحراق المسلمين لها، وهذا ما سنناقشه في السطور التالية.
الفتح الإسلامي والمكتبة
تتعدد الروايات حول نهاية المكتبة، ولكن المنتشر بين كتابات المستشرقين، وتلاميذهم من بني جلدتنا، أن المسلمين بقيادة عمرو بن العاص وبتوجيه من عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، هم من أحرقوا المكتبة!!!
أولاً: كان دخول عمرو بن العاص لمصر ما بين عامي 20 هـ و22هـ، وأن أقدم ما بيد المؤرخين من مصادر حول هذا الفتح هي “فتوح البلدان” للبلاذري، وتاريخ “ابن عبد الحكم”، و”تاريخ” اليعقوبي، وكلها خالية تماما من ذكر أي شيء يتعلق بهذا الأمر.
ثانياً: أن المصادر غير الإسلامية حول مصر في هذه الفترة تتمثل في زيارة المؤرخين “يوحنا سكويه”، و”سخرينوس” قبل الفتح الإسلامي للإسكندرية ومصر، ووصفهما لكثير من المكتبات بها، ولم يرد ذكر مكتبة الإسكندرية أو مقتنياتها من قريب أو بعيد.
بل إن المؤرخ اليوناني “يوحنا النايقوس” عاصر الفتح الإسلامي لمصر، ولم يذكر أي شيء عن هذا الأمر.
نصل إلى الرواية نفسها: أقدم ما بأيدي المؤرخين حول هذه الرواية هو كتاب “إسحاق الراهب” حول فلسفة اليونان وتاريخهم، وهو بعد الفتح الإسلامي بحوالي قرنين من الزمان، ثم أخذ عنه كل من “القفطي” المتوفى 646 هـ، و”البغدادي” المتوفى 629 هـ، وكذلك “أبو الفرج المالطي” المتوفى 622 هـ، وتابعهما بعض المؤرخين سيرًا على منهج المؤرخين الإسلاميين في نقل كل ما ورد من روايات تاريخية دون مراجعة أو تمحيص.
والطريف أن الرواية تقوم على قصة رجل يسمى “يحيى الغراماطيقي” (أي النحوي) وهذا الرجل – على فرض وجوده – وبحسب روايات أصحاب الرواية أنفسهم، ولد في وقت سابق على الفتح الإسلامي بحوالي قرن وربع من الزمان، أي أن عمره عند الفتح الإسلامي تجاوز المائة وعشرين سنة، كما أن عمر الكتب التي يزعمون أنها أحرقت (مع الأخذ في الاعتبار أن أي كتب مخالفة للمسيحية لن تُنسخ إذا لم تحرق) يكون مر عليها أكثر من ثلاثة قرون دون عناية بها.
ونأتي للقصة أو الرواية نفسها بإيجاز: حيث أن “يحيى الغراماطيقي” بعد الفتح لمصر، تقرب من عمرو بن العاص؛ إذ سمع منه كلاما ومنطقًا جديدًا أعجبه، فكان مرافقًا لعمرو بن العاص في حله وترحاله، وبعد استقرار الفتح تحدث يحيى إلى عمرو بن العاص في أمر المقتنيات الموجودة في المكتبات الملوكية، وأخبره أنها من زمن “بطليوس الأول”، وبعد مراسلات بين عمرو وعمر بن الخطاب أمير المؤمنين، أخبره أن الله قد أرسل إلينا القرآن هداية وعلمًا، وأمره بإحراقها، فقام “عمرو بن العاص” بتفريقها على الحمامات لتحرق فيها، فاستغرق ذلك ستة أشهر.. هذه هي الرواية.
ونضيف إلى ما تقدم في نقد هذه الرواية، أن هذه الكتب على فرض أنها موجودة لا بد أنها من الرق أي الجلد حتى تنجو من كل هذه الأهوال، والجلد لا يصلح للإحراق في الحمامات.
ثانيا: أن هذا الأمر لو كان به أي نسبة من الصحة لاستند إليه الفقهاء وعلماء الدين في مواجهة الفلاسفة، ولكننا لا نجد في أي موقف مناظرة بين الطرفين أن استند أعداء الفلسفة لمثل هذه الرواية، بل الأكثر من ذلك تجد الإمام “أبو حامد الغزالي” يصنف كتابًا في علم أصول الفقه وهو “المستصفى”، ويجعل مقدمته في علم المنطق، ويشترط لمن أراد فهم هذا العلم دراسته علم المنطق، وهو علم إغريقي مترجم من علوم القدماء.
إحياء المكتبة
ونصل إلى مشروع إحياء مكتبة الإسكندرية وهو مشروع حضاري رفيع المستوى بكل المقاييس، ولا يقلل من شأنه بعض الملاحظات حول دور المكتبة، وعسى أن نجد في د. “إسماعيل سراج الدين” استيعابًا وفهمًا.
وبعيدًا عن الشكل المعماري والمكان الجغرافي الذي كلف المكتبة أموالا طائلة للقيام بعزل جسم المكتبة عن تأثيرات البحر المواجهة لها، فالملاحظة الأساسية هي برنامج د. “محمد أمان” لتزويد المكتبة ودورها الثقافي، ودكتور “محمد أمان” هو الخبير الذي انتدبته اليونسكو لتحديد اتجاهات تزويد المكتبة بالكتب ودورها الثقافي في المنطقة، وفي تقريره الذي تتحرك على أساسه المكتبة أن المكتبة اتجاه تراثي، بمعنى آخر أن المكتبة ستهتم بشكل أساسي بعلوم البحر المتوسط والمنطقة في مجالات الفكر والفلسفة، والتاريخ وتاريخ العلوم وحفظ المخطوطات، ومن ثم تجد أن علاقات وثيقة وإهداءات قيمة أضيفت للمكتبة من الفاتيكان، و”الإسكوريالة” بأسبانيا، ومكتبات “إستانبول” بتركيا وغيرها من المكتبات.
والسؤال هل هذا ما تحتاجه مصر والمنطقة؟، ألا يوجد “معهد للمخطوطات العربية” في القاهرة وآخر بالكويت، وثالث بالسعودية، ألا توجد “دار الكتب المصرية“، و”دار الوثائق القومية” بالقاهرة، و”المكتبة الظاهرية” بدمشق، و”مكتبة فيصل” بالسعودية، و”مكتبة بايزيد” بإستانبول؟ وغيرها هل نحن في حاجة إلى مزيد من المؤسسات التي ترعى التراث؟ أم نحن في حاجة إلى تنسيق الأدوار بين هذه المؤسسات؟ وكان الأولى بهذه المؤسسة أن تخدم اتجاهات علمية نحن في حاجة حقيقية إليها.
هل نحن في حاجة إلى معهد للمعلومات؟ وبمصر وحدها ما يزيد عن عشرة أقسام للمكتبات والمعلومات من الممكن تطويرها، ألم نكن في حاجة إلى مكتبة تخدم مجال الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية والطاقة الناتجة من حركة المد والجزر في البحر، ألم نكن في حاجة إلى مكتبة تخدم في نطاق امتلاك هذه الأقمار، ولكننا مستهلكون ولسنا منتجين لها لماذا لم نجد اتصالا مع مراكز الدراسات في مجال الليزر، أو في مجال صناعة الدواء، أو مجال مكافحة التصحر وزراعة الصحراء، ألم تكن هذه المجالات إضافة جديدة نوعية بدلا من الإضافة للكمية التي تحققها للمكتبة، أم نحن في حاجة إلى مزار سياحي جديد.
إن المكتبة الجديدة كانت تفتح آفاق العلوم في عصرها.. ومن خلالها تشرق شمس المعرفة لعلوم الغد.. وإحياء المكتبة جاء لدراسة الأمم السابقة والأفكار الغاربة، ومن ثم هل هي شروق لحضارتنا، أم علامة على الغروب؟