إن الفقيه الذي سيتناول فقه الأقليات يحتاج إلى التأمُّل في الأسئلة الكبرى التي يثيرها هذا الموضوع؛ ليحسن تنقيح المَنَاط، ويصيب حكم الله- تعالى- في الموضوع ما استطاع، ومن هذه الأسئلة:
1 – كيف يجيب المفتي أبناء الأقلية بدقة – تعكس نطاق الشأن الخاص بهم ونطاق الشأن الذي يشتركون فيه مع الآخرين – عن السؤالين: مَن نحن؟ وماذا نريد؟
2 – ما هي النظم السياسية التي تعيش “الأقلية” في ظلها؟ هل هي ديمقراطية أم وراثية أم عسكرية؟
3 – ما هي طبيعة الأكثرية التي تعيش الأقلية بينها، أهي أكثرية متسلطة تستبد بها مشاعر الهيمنة والتفرد؟ أم هي أكثرية تعمل على تحقيق توازن متحرك تحكمه قواعد مدروسة تقدم ضمانات للأقليات؟ وما حجم تلك الضمانات؟ وما هي آليات تشغيلها؟
4 – ما حجم هذه الأقلية التي يُرَاد التنظير الفقهي لها على المستويات المختلفة: البشرية والثقافية والاقتصادية والسياسية؟
5 – ما هي طبيعة التداخل المُعَاش بين أطراف المجتمع؟ هل تتداخل الأقلية مع الأكثرية في الموارد والصناعات والمهن والأعمال (الحقوق والواجبات) أو أن هناك تمايزاً من خلال سياسات تسعى إلى إيجاد وتكريس الفواصل في هذه الجوانب؟
6 – ما طبيعة الجغرافيا السكانية؟ هل هناك تداخل؟ أم أن هناك فواصل وعوازل طبيعية أو مصطنعة؟ وهل هناك موارد طبيعية خاصة بالأقلية أو بالأكثرية؟ أم أن هناك مشاركة في ذلك؟؟
7 – هل الأقلية تتمتع بعمق حضاري وهُوِيَّة ثقافية تؤهل – ولو في المدى البعيد – للهيمنة الثقافية؟ وما أثر ذلك لدى الأكثرية؟
8 – هل للأقلية امتداد خارج حدود الموطن المشترك، أو هي أقلية مطلقة لا امتداد لها؟ وما تأثير ذلك في الحالتين؟
9 – هل للأقلية فاعليات وأنشطة تحرص على التميز بها؟ وما هي تلك الفَعَاليَّات؟
10- هل تستطيع ممارستها بشكل عفوي وتلقائي، أو لا بد من قادة ومؤسسات تساعدها على تنظيم ممارستها لتلك الفَعَاليَّات؟
11 – ما هو الدور الذي تلعبه هذه المؤسسات أو التنظيمات أو القيادات في حياة الأقلية؟ هل هو تسليط مزيد من الضوء والتركيز على هُوِيَّتها الثقافية؟
12 – هل تصبح هذه المؤسسات وسيلة لتكوين شبكة من المصالح، قد تساعد على استمرار التركيز على خصوصيات الأقلية، وإقناعها بأن الخصوصية الثقافية هي المبرر والمسوغ لاعتبارها أقلية؟
13 – هل ستوصل هذه المؤسسات – دون أن تشعر – أبناء الأقلية إلى طرح سؤال خطير حول مدى قيمة وأهمية هذه الخصوصيات، ولِمَ لا نتجاوزها فنريح ونستريح، أو نعمل على إقناع الأكثرية بها؟!
14 – ومن الأسئلة الكبرى في فقه الأقليات إذا كانت الأقلية تمثل مزيجاً من جذور تاريخية وعرقية مختلفة، فكيف يمكن تحديد معالم هُوِيَّتَها الثقافية دون الوقوع في خطر دفع جمهورها إلى حالة الذوبان في الآخَر أو الانكفاء على الذات؟
15 – كيف يمكن إيجاد الوعي الضروري لتجاوز الأقلية ما قد يحدث من ردود أفعال لدى الأكثرية، وامتصاص سلبيات هذه الأمور دون التفريط بإيجابياتها؟
16 – كيف يمكن إنماء الفَعَاليَّات المشتركة بين الأقلية والأكثرية؟ وما هي المستويات التي يجب ملاحظتها في هذه المجالات؟
17 – كيف يمكن الوصل والفصل بين مقتضيات المحافظة على الهُوِيَّة الثقافية “الخاصة” والهُوِيَّة الثقافية “المشتركة”؟
18 – ماذا على الأقلية أن تفعل لتمييز ما يمكن أن يتحول إلى مشترك من أجزاء ثقافتها؟ وما الذي تستطيع أن تتبناه من المشترك المأخوذ من ثقافة الأكثرية؟ وما هو دور الأكثرية في هذا؟
وبناء على هذه التوضيحات المتعلِّقة بالمنهج، وبتحقيق المَنَاط، وبحجم الأسئلة المثارَة نستطيع التأكيد على أن الكثير من الاجتهادات الفقهية القديمة التي نشأت في عصر الإمبراطوريات لن تسعفنا كثيراً في تأسيس فقه أقليات معاصر، مع احترامنا لتلك الاجتهادات وإقرارنا بفائدة البعض منها في حدوده الزمانية والمكانية؛ بل يلزمنا الرجوع إلى الوحي والتجربة الإسلامية الأولى، مع الاستئناس بأقوال بعض المجتهدين الذين عبَّروا عن الرُّوح الإسلامية، وتحرروا من قيود التاريخ أكثر من غيرهم، دون اعتبار أقوالهم مصدراً مؤسساً لقاعدة شرعية.