قال تعالى : { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } (القصص: 7)
قبل بضعة أسابيع، استوقفني خبر ضمن التقارير الطبية التي تبثها احدى القنوات الإخبارية؛ مفاده أن أبحاثاً طبية توصلت إلى معلومات جديدة، بشأن الحليب المدعم الذي يستخدم في تغذية الرضع، وكيف أنه يتسبب في تكوين نوع من الخلايا الدهنية الضارة والزائدة عن حاجة جسم الطفل، والتي تدخل في بنيته، بحيث تشكل أحد العوامل الرئيسة التي تتسبب في إصابة الطفل فيما بعد (فترة المراهقة وما بعدها) بنوع من السمنة يصعب جداً التخلص منها، لأن تلك الخلايا الدهنية تصبح جزءاً من بنية الجسم، وبالتالي يكون هؤلاء الأشخاص المساكين عرضة للكثير من الأمراض المزمنة والخطيرة، و التي تكون السمنة مسبباً رئيسياً لها.
يا الله! كم تألمت لسماعي هذا الخبر! فهذا الخبر، وتلك الأبحاث ليست الأولى من نوعها، والتي تشير بأصابع الاتهام إلى اللبن الصناعي وخطورته على أبناءنا، فكم من مرة نسمع أن حليباً معيناً قد سحب من الأسواق، بعد تسببه في موت أو تضرر عدد من الأطفال، أو بعد اعتراف الشركة المنتجة باحتوائه على مادة سامة أو ضارة تم اكتشافها، والله كم أشعر بالشفقة على هؤلاء المساكين الذين أعتبرهم ضحايا لأمهات و آباء لم يرعَوا حقوقهم.
وكم أشعر بالأسى وأنا أرى عزوف الكثير من الأمهات في عالمنا الإسلامي عن الرضاعة الطبيعية، ودونما سبب مقنع، في الوقت الذي نرى فيه تزايد الوعي لدى الغرب بهذا الشأن، وعودة المرأة الغربية وبقوة إلى إرضاع أطفالها، حتى أن إحدى عارضات الأزياء الشهيرات تعلن وبكل فخر في لقاء معها أنها أرضعت طفلتها، وأن ذلك لم يؤثر سلباً على جمالها، كما قد تعتقد الكثيرات، بل إن ذلك ساعدها على استعادة جمالها بشكل أسرع ودون الحاجة إلى حمية قاسية.
وأصبحنا نسمع عن بنوك للبن الأمهات هناك، ونرى وسائل تيسر للأمهات عملية الإرضاع الطبيعي، من غرف مهيأة في المجمعات وفي كل مكان، ووسائل تساعد على حفظ لبن الأم بتبريده أوتثليجه، وقوانين عمل تعين المرأة على ذلك، وغير ذلك كثير، كل ذلك لأنهم وعوا وأدركوا مخاطر بُعْد الأمهات عن أطفالهن وتركهن للإرضاع الطبيعي، سواء على الطفل أو على الأم نفسها، هذا في مقابل اكتشافهم وإدراكهم لما للرضاعة الطبيعية من فوائد عظيمة تعود على الطرفين، و بالتالي على المجتمع ككل.
عجباً والله!.. نرى أناساً يغيرون أفكارهم ويعدلون سلوكياتهم، بناء على أبحاث علمية، قد تثبت اليوم، ويثبت عكسها غداً، لأن من قام بها بشر يصيبون و يخطئون، و مع ذلك هم يؤمنون بأبحاثهم أيما إيمان، بينما أمة تقرأ كتاباً منزلاً من لدن عليم خبير، فيه تشريع لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، و مع ذلك لا يلقى هذا التشريع احتراماً يليق به!.
هذا الكتاب الجليل، ورد فيه ذكر الرضاعة في أحد عشر موضعاً في ست آيات، هذا بالإضافة إلى موضعين لكلمة “فصال” بمعنى “فطام” والمرتبطة بالرضاع، كل ذلك ليس عبثاً، ونحن نعلم أن التكرار في القرآن له دلالاته، و كل لفظ من الألفاظ له دلالتة الخاصة، و لكن “هل من مدكر؟.
هرمون الحنان
وبينما كنت أتلو سورة الحج، استوقفني التعبير القرآني “ يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت”، ضمن الآيتين في مطلع السورة: { يا أيها الناس اتقوا ربكم، إن زلزلة الساعة شيء عظيم، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد } (الحج : 1 -2)، وسبحان الله، كم من المرات استمعت لهاتين الآيتين، وكم مرة تلوتهما، لكنني ولأول مرة أتوقف وأتساءل: لماذا عبر القرآن عن الأم بلفظ مرضعة؟، لم يقل ربنا سبحانه: يوم ترونها تذهل كل والدة عما ولدت؟، أو يوم ترونها تذهل كل أم عن صغيرها؟.. هذا التساؤل دفعني إلى البحث في دلالات هذه الكلمة، فوجدت عجباً، وهنا أنقل خلاصة ما قرأت:
أن العرب لا تستخدم تاء التأنيث في الألفاظ التي تخص المرأة، فتقول مثلاً: حامل، وحائض، ومرضع، فلماذا جاء القرآن بلفظ “مرضعة” وليس “مرضع“؟ والجواب أن كلمة مرضع، يمكن أن تطلق على كل من لها طفل رضيع، وإن كانت لا ترضعه من ثديها، أما المرضعة فهي التي تلقم صغيرها ثديها، (وهنا تذكرت أننا نقول: السيدة حليمة السعدية مرضعة نبينا محمد ﷺ)، وفي الآية – وفي سياق أهوال الساعة- يذكر ربنا أنه حتى المرضعة وهي تلقم ثديها لصغيرها، تذهل عنه وتتركه من شدة الهول، وهذا هو موضع الغرابة، وكأن التي لا ترضع صغيرها من ثديها لا يستغرب منها أن تذهل عنه.
سبحان الله.. هذه الآية ودلالاتها ذكرتني بمعلومة طبية كنت قد سمعتها أثناء مشاهدتي لإحدى البرامج التلفزيونية، فقد اتصلت إحدى الأخوات بالبرنامج تشكو للطبيب فرط حساسيتها تجاه أطفالها، بحيث أنها بمجرد أن يبكي أحدهم، أو يصاب بوعكة خفيفة، أو يقع على الأرض، أو يضربه طفل آخر، تجدها تبكي و تفرط في التفاعل معه، بحيث أصبحت أضحوكة لمن حولها ومثار سخريتهم، وهي لا تملك نفسها، فسألها الطبيب: هل كنت هكذا تجاه الأطفال قبل أن تنجبي؟ قالت: لا، قال: متى بدأت الحالة معك؟، قالت: بعد ولادة طفلي الأول، قال: هل أرضعته؟ قالت: نعم، ثم سألها: هل ترضعين الآن؟ قالت: لا، منذ متى فطمت آخر طفل؟ أظنها قالت: سنتين، أتدرون ماذا كان رد الطبيب عليها؟.. قال: أنت تعانين من زيادة في إفراز هرمون يفرزه جسم الأم أثناء الرضاعة يعمل على زيادة شفقتها وحنانها تجاه طفلها، والمفروض أنه لا يفرز أو يقل كثيراً بعد فترة الرضاعة، لذا نصحها بمراجعة طبيب لإعطائها دواء يعيد الهرمون إلى المعدل الطبيعي.
سبحان الله!.. هذه المعلومة أذهلتني، وفعلا بدأت أتأمل وألاحظ أنني ما رأيت قط أماً ترضع طفلها، ثم تطاوعها نفسها أن تتركه عند الخادمة ساعات طوال، مهما كانت الأسباب، ولو اضطرت لذلك مرة، تجدها تعاني أشد المعاناة، سبحان الله.. كم أصبحت دلالات الآية التي معنا أعمق في نفسي، وأشد أثراً!.
الاسترضاع
أعجبني كثيراً مقال للدكتور جمال أبو العزايم، بعنوان “النموذج الإسلامي العلاجي في مجال الصحة النفسية“، ذكر فيه كيف أن الإسلام وضع قواعد شتى للتربية النفسية لدى الأطفال، وقد وجدت تلك القواعد في معظمها مرتبطة بالرضاعة، وفيما يلي أهم ما ذكر:
- أن تكون الرضاعة من ثدي الأم، قال تعالى: “{والوالدات يرضعن أولادهن} (البقرة :233)، إذن هذا أمر، وهنا أضيف من مصدر آخر: ذهب فريق من الفقهاء أن الرضاع واجب على الأم ديانة وقضاء، ومعنى ذلك أنها تأثم فيما بينها وبين الله إن تركت إرضاع ولدها دون مسوغ، وتُجبر الأم على إرضاع ولدها قضاء عند الضرورة، كأن لا يقبل أن يرضع من غيرها، أقول: إن هذا الرأي له دلالاته، وإن لم يكن هو الشائع، ولابد للعلماء المعاصرون من وضع الأبحاث العلمية الحديثة في الاعتبار لاتخاذ رأي في الموضوع.
- إن لم تستطع الأم إرضاع الطفل، فالرضاعة تكون من ثدي امرأة أخرى (لا من العلب)، لقوله تعالى: { وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى} (الطلاق :6)، وقد دل ذلك على تمام الاستقرار النفسي بعيداً عن الرضاعة الصناعية، ثم إن الإسلام يعطي للرضاعة حقها وأجرها ومسؤوليتها، يقول تعالى: { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } (الطلاق :6).
وهنا أضيف أن ذلك تحديد من الله لطريقة حل المشكلة، وللذين يقولون: هذا كان قبل اختراع الحليب الصناعي، أما الآن فلا داعي للاسترضاع، أقول: ألم يعلم ربنا بما سيكون؟.. لم لم يقل مثلا: وإن تعاسرتم فسيجعل الله له رزقا؟، وبما أن الله حدد لنا، فيقيناً تلك هي الطريقة المثلى، ومن هنا أدعو المسؤولين في المجالات المعنية، لدراسة موضوع الاسترضاع، ووضع قوانين من شأنها تنظيم هذا الأمر، والتشجيع عليه لمن لا تستطيع الإرضاع، كي نجنب أبناءنا شرور هذه الألبان الصناعية، ونضمن صحتهم النفسية والجسدية، كما ونفتح أبواباً للرزق باستحداث وظيفة “مرضعة“.
- يهتم الإسلام بفترة الرضاعة المشبعة، لقوله تعالى:”والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين، لمن أراد أن يتم الرضاعة”.
ونلاحظ هنا كيف أن الله سبحانه أكد على إتمام مدة الرضاعة بكلمة “كاملين“، كما أكد هذه المدة في مواضع أخرى، كقوله تعالى: “ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن، وفصاله في عامين” (لقمان :14)، وقوله: { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } (الأحقاف :15).
- في حالة الطلاق يوصي الإسلام بحضانة الأم للطفل الرضيع، وعلى الأب أن يدفع لها الأجر، وذلك حماية للطفل من آثار الانفصال بينه وبين الأم.
- من شدة أهمية الرضاعة في الإسلام، فإن الرضاع من ثدي واحد يؤدي إلى الأخوة في الرضاعة، { حرمت عليكم أمهاتكم.. وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة } (النساء: 23)، ويترتب على أخوة الرضاعة أغلب ما يترتب على أخوة النسب.
- سمعت من أحد مشايخنا في قوله تعالى: “وإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما“، كيف أن الاسلام اهتم بهذا الطفل وبرضاعته، وكيف أن قرار فطام الطفل قرار له أهميته وتأثيره على الطفل، لذا فلابد أن يتخذه الوالدان معاً، ولا يجب أن يتم إلا بعد التشاور والتراضي فيما بينهما، وذلك لتجنب أي أثر سلبي على الطفل، فأين نحن من تطبيق هذه الآية؟.
فلكل مسلمة تركت إرضاع صغيرها دون مسوغ أقول: “استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين”، وأقول لكل أخت أمامها فرصة الإرضاع: أطيعي أمر ربك و”أرضعيه“، ولا تخالفي فطرتك وتتخلي عن هذا الواجب النبيل.
أمر وثواب
وتعالي أخيتي نقرأ معاً خطاب ربنا سبحانه لأم موسى: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه، فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني، إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين}، ولنتأمل ونفكر لماذا أمر ربنا أم موسى بإرضاعه قبل أن تلقيه في اليم؟.. ألم يكن بوسعه سبحانه إغناءه عن تلك الرضعة؟، ألم يحمله على الماء بمعجزة؟، ويوصله إلى جنود فرعون بمعجزة؟، ألم ينجه من بطش فرعون بمعجزة؟، ما الداعي إذن لـ “أرضعيه“؟ ألا ترين معي أنها رسالة بليغة إلى كل أم إلى يوم القيامة؟.
فيا أخيتي، إن وهبك الله مولوداً رائعاً بعد وهنٍ على وهنٍ، فلا تحرمي نفسك من أجمل علاقة بينك وبينه، واجعلي هذه الآية شعاراً لك و”أرضعيه“، ولا تنسي إذا بدأت بإرضاعه، أن تبدأي باسم الله، وأن تستشعري -وبكل قواك العقلية- أنك تعيشين لحظات عبادة محضة، وأنك ترضعينه الإيمان بالله، وأخلاق الإسلام، فإذا فعلت فمن الطبيعي أن يمتلأ قلبك شفقة ورحمة وخوفاً عليه، “فإذا خفتعليه“، فليلهج لسانك بذكر الله والدعاء: اللهم إني أحب ولدي هذا، وأخاف عليه من الفتن والشرور، اللهم فقرّ عيني به، واحفظه لي من كل سوء، اللهم إني أتكبد عناء إرضاعه طاعة لأمرك، وأتحمل سهر الليل وقيد النهار محتسبة ذلك عندك، اللهم إني حرمت على نفسي أن أرضعه ما يضره، فيا رب لا تحرمني ما أتمنى.
افعلي ذلك ثم استشعري كأن الله يقول لك: “فألقيه في اليم“، نعم “ألقيه” في بحر الحياة، “ولا تخافي” عليه من الفتن و الشرور، “ولا تحزني” لأن الله لن يخيب رجاءك فيه، واستشعري الأمن من الله وكأنه يقول لك: ما دمت قد أرضعته العقيدة الصحيحة والأخلاق فاستبشري، وما دمت قد فعلت ذلك لوجهي، فسأرد لك فضل ذلك كله، “إنارادوه إليك” و”جاعلوه من المرسلين“، وسيكون ولدك بإذن الله ذا شأن في الدنيا، وسينفعك الله به في الآخرة، بالطبع لن يكون من المرسلين، لكنه سيكون صاحب رسالة نبيلة، وسيكون من خيرة أتباع المرسلين.
وما أجمل شعور الأمن والطمأنينة الذي ينتاب قلب الأم حيت تفعل ذلك، فلا تحرمي نفسك منه، ولا تحرمي نفسك من فضل فضلك الله به على أبيه وعلى الناس أجمعين، وتذكري حديث الحبيب المصطفى ﷺ، حين جاءه رجل وسأله: “من أحق الناس بحسن صحابتي يارسول الله؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك”.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح حديث أبي هريرة السابق في (الفتح: 16) قال ابن بَطَّال: مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل، ثم الوضع، ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم، وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية، وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: { ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين} .
وقال القرطبي رحمه الله معلقاً على الحديث: “من أحق الناس بحسن صحابتي”: (فهذا الحديث يدل على أن محبة الأم والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبة الأب، لذكر النبي ﷺ الأم ثلاث مرات، وذكر الأب في الرابعة فقط، وإذا توصل هذا المعنى شهد له العيان، وذلك أن صعوبة الحمل، وصعوبة الوضع، وصعوبة الرضاع ، تنفرد بها الأم دون الأب، فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب…).
إنها ثلاث منازل عظيمة فضلك الله بها، وأنا أشعر – والله أعلم- أن الثالثة أعظمها، لأن فيها سمة الاختيار، والله يختبر إيمانك بذلك، فأنت تتحملين مشاق الحمل والوضع مجبرة، لكنك تتحملين صعوبة الإرضاع باختيارك، إنك بتركك للإرضاع تتنازلين عن فضل عظيم، ومنزلة لا يعلمها إلا الله، وبمحض إرادتك، فبالله عليك لا تفعلي!.
فاطمة إبراهيم الصديقي5>