للإنشاد الديني دولة وسلطنة، والمنشد ياسين التهامي هو أحد أشهر أركان هذه الدولة التي تمتد باتساع العالم العربي والإسلامي، تنسب إليه رسالة ماجستير في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر عن الشعر الصوفي، الفضل في إحياء هذا الشعر وجعله على ألسنة العامة.
فقبل التهامي كانت قصائد المتصوفة من خواص الخواص؛ مكانها بطون الكتب أو حلقات الذكر ومجالس شيوخ الطرق؛ فجاء ياسين بإنشاده في الموالد والميادين والحفلات ليجعله على ألسنة العوام في القرى والنجوع والأرياف أشبه بالأهازيج والفلكلور الشعبي، فتسمع مثلا حمال أمتعة أتعبه كثرة العمل يبرر لك عجزه عن رفع بعض المتاع قائلا: “ما حيلتي والعجز غاية قوتي”!، وقد تشكر آخر على خدمة أسداها إليك فيرد عليك: العفو.. الشكر لله ثم يردف: “لم أفعل شيئًا…” “أنا قلم والاقتداء أصابع”! وربما عبّر لك ثالث عن قلقه حيالك قائلا: “قلبي يحدثني بأنك متلفي”! ثم لا يلبث أن يردف مؤكدًا أنه يداعبك فقط فيقول: “روحي فداك عرفت أم لم تعرف”.
والجميع يرددون هذه الكلمات وغيرها المقتطعة من عيون الشعر الصوفي كثيرا، ودون إدراك لمعانيها الحقيقية غالبا بعفوية وبفصاحة لا تنم عنها بساطتهم ومستوياتهم الثقافية والاجتماعية المتواضعة، بل إن بعضهم يكاد يحفظ قصائد بأكملها لأقطاب المتصوفة يعجز عنها كبار المثقفين، وذلك من كثرة ما رددها وراء الشيخ ياسين في الموالد والحفلات، أو لكثرة ما سمعها من أشرطة الكاسيت التي تحتوي إنشاده الديني والتي تجاوزت المائة وخمسين!
وياسين التهامي المولود في 7 ديسمبر سنة 1949 بقرية الحواتكة بمحافظة أسيوط بصعيد مصر.. ابن لبيئة دينية عرفت بالتصوف والعناية بالنشيد الصوفي، وقد حفظ القرآن الكريم صغيرًا لكنه لم يكمل دراسته الثانوية بالأزهر الشريف، وبدأ حياته بالإنشاد الديني في الموالد والحفلات الدينية بقرى ونجوع الصعيد حتى سطع نجمه في منتصف السبعينيات ليصبح نجم الإنشاد الديني الأول في مصر، خاصة لدى أهل الصعيد الذين أصبح ملبس وهيئة ياسين “موضة” شبابهم، الذين أصبحوا يعلقون صوره وألبوماته مثلما يعلق شباب المدن صور “عبد الحليم حافظ”.. وامتدت شهرة ياسين خارج مصر والعالم العربي؛ فأحيا حفلات في لندن وباريس وفي ألمانيا وهولندا وأسبانيا وفنلندا وغيرها من العواصم والدول الأجنبية، خاصة في مهرجانات الموسيقى الروحية.
موسيقى الشجن
وياسين التهامي رغم ارتجاله، ورغم أنه لم يحصل على دراسات أكاديمية أو علمية يمكن اعتباره أفضل منشد عربي في علاقته مع الموسيقى وتوظيفه لها في الإنشاد؛ فهو يتعامل مع المقامات الموسيقية بحساسية نادرة، يتنقل فيها، ويزاوج بينها بمهارة لم يعرفها المنشدون الدينيون، وربما لا يوازيه في هذه الموهبة سوى المطرب العملاق صباح فخري.
وقد أبدع ياسين بهذه الموهبة لونًا جديدًا في الإنشاد الديني لم يكن موجودًا من قبل، يزاوج فيه بين إيقاعات النغم الشرقي الأصيل والنغم الشعبي، وأدخل فيه الآلات الموسيقية على اختلاف أنواعها، ونوّع من المقامات الموسيقية المتعارف عليها؛ فطوّر بذلك في الإنشاد الديني، وميزه عن أنواع مختلفة قد تتداخل معه؛ مثل الابتهال الديني الذي قدمه كبار المنشدين من أمثال النقشبندي ونصر الدين طوبار وطه الفشني، ليس على مستوى الكلمة فقط.. بل وكذلك اللحن وشكل الأداء؛ فقد ظل الابتهال أقرب للدعاء والمناجاة، ولا يرتبط فيه المبتهل بإيقاع بعينه.. بل هو حر في أغلب الأحيان، وتصاحبه دائمًا بطانة تردد خلفه من دون موسيقى غالبا.
بينما طور ياسين لونا من الإنشاد يعتمد على إدخال المقامات الشرقية -بما فيها المقامات المهجورة- على القصائد الدينية والتنويع بينها، وكذلك الآلات الموسيقية على اختلافها من كمان وناي وقانون وأكورديون… ومزج بين إيقاعات النغم الصعيدي وإيقاعات النغم الشرقي الأصيل، كما اختلف أيضا في طريقة الأداء التي تعتمد أساسا على العلاقة مع الجمهور وتقوم على التفاعل والتأثير المتبادل، خاصة أنه يقدم في الميادين والموالد والشوارع مباشرة إلى الجمهور.
رغم جمال موسيقاه تبدو وكأنها تسير على غير قاعدة، وأحيانا متشابهة في أغلب ما ينشده؛ فإن هذا يصدق فقط على الاستهلال، أما فيما بعد الاستهلال تكون أكثر انتظاما، ولكل قصيدة موسيقاها الخاصة بها، حتى إن بدت للوهلة الأولى متشابهة، وفي معظم الأحيان تفرض القصيدة المقام الموسيقي الخاص بها، والذي قد يتغير في القصيدة الواحدة. فهناك قصائد تغير مقامها ولحنها الآن من مرحلة عمرية لأخرى ومن مكان لآخر، وكثيرا ما يدخل تغييرًا ليس على المقام الموسيقي فقط بل وعلى كلمات وأبيات القصيدة نفسها.
صوت إنساني فضفاض
ويمتلك ياسين التهامي طاقة ومساحة صوتية هائلة أغرت باحثًا أمريكيًا مثل “مايكل فروشكوف” بتخصيص دراسة كاملة عن أدائه الصوتي، ودفعت المستشرق الألماني “كولن” إلى أن يفرد له قسما مستقلا في كتابه عن الموسيقى الشرقية؛ باعتباره مرتجلا لنغم صوفي جديد من دون تعليم أو دراسة أكاديمية.
وصوت ياسين هو ما أتاح له إنشاد أصعب القصائد بمقامات لم يؤدِّ عليها إلا كبار الفنانين، من أمثال ناظم الغزالي وأم كلثوم وصباح فخري؛ وهو أقرب إلى البوح الذي يخوض في مساحات واسعة في النفس الإنسانية تجعله يؤثر في ذاته دون معرفة معنى الكلمات أو حتى اللغة العربية نفسها؛ فهو صوت إنساني بامتياز يحسه كل من يسمعه حتى ولو لم يكن يفهمه.
لذلك كان أول ما وصفته به هيئة الإذاعة البريطانية في حلقة خاصة أنه “صاحب صوت إنساني فضفاض يستوعب أي إنسان على اختلاف لغته وموسيقاه”، وبعد أن أحيا ليلة كاملة في مهرجان الموسيقى الروحية الذي تستضيفه العاصمة البريطانية لندن كل عام، علق بعض الحضور بأن “صوته وألحانه تفتح في النفوس طرقًا من النور والإيمان”، واختصر مقدم الحفل ليلتها كلمته قائلا: “ياسين شيء مختلف لا نستطيع تقديمه؛ لذا فمن الأفضل أن نتركه يقدم نفسه من خلال غنائه وموسيقاه وشكل أدائه الذي يشبه البوح”.
ويبلغ الصوت قمته وطاقته في التأثير حين يتكامل مع شكل أدائه المميز الذي يتفرد به، حتى إن باحثة بريطانية تدير مركزا للعلاج النفسي في لندن قدمت لمصر لإعداد دراسة سيكولوجية عن إنشاد ياسين كطريقة للعلاج النفسي، تسعى لتطبيقها في مركزها الخاص للعلاج النفسي في لندن.. وحين قابلتها (جوانا) في ليلة مولد العارف بالله عمر بن الفارض وهي تستمع لياسين كانت المفاجأة أنها لا تعرف من اللغة العربية شيئًا.. سألتها: وهل تفهمين ما ينشده ياسين أو يقصده؟ فردت: لا.. ولا أحتاج فهمه؛ لأني أشعر به، وهذا يكفي!!
إنشاد ضد الاستهلاكية
طريقة ياسين في الإنشاد فريدة ولها خصوصيتها؛ إذ تعتمد على التواصل المستمر بينه وبين فريق اللحن والجمهور وطبيعة وأجواء الزمان والمكان.. أو استحضار ما يسميه “الحالة”؛ حيث التفاعل المستمر، وتبادل المشاعر والأحاسيس مع الجمهور وانفعالاته؛ لذلك فهو لا يقوم بالإنشاد -مثلا- داخل أستوديو، وإنما في الموالد واللقاءات المفتوحة مع الجمهور؛ لأن التسجيل في الأستوديو -برأيه- أقرب إلى الغناء “الاستهلاكي” الذي يُعد مسبقًا للجمهور!
وهو -أيضا- لا يقوم بأي بروفة للحن أو لكلمات ما ينشده من قصائد.. بل يأتي عفوًا ومن تلقاء نفسه أو حسب ما يسميه “الحالة”؛ فهو يرتقي المسرح، ويحاول أن يختار من قصائد الصوفية ألْيقَها بالمقام. لكن الذي يحدث غالبا أن “الحالة” هي التي تلهمه اختيار القصيدة وكذا اللحن، وهما متغيران بحسب “”الحالة”. ويبدو ذلك واضحا من تغير لحن وكلمات القصيدة الواحدة؛ فكثيرا ما أنشد القصيدة الواحدة على أكثر من لحن أو مقام، وربما أنشد على المقام الواحد أكثر من قصيدة، وربما غيّر في القصيدة الواحدة والمقام الواحد بحسب الحالة التي ينشد فيها، والتي يخلقها الزمان والمكان والحدث والناس من حوله أو حالته الشخصية أيضًا التي تتدخل في ذلك.. لذلك مرات تأتي القصيدة ترقص طربًا، ومرات أخرى تأتي هي نفسها تقطر حزنًا كالنشيد الجنائزي.
عشق الكلمة
ولأنه ولد وتربى في أجواء التصوف، وشب على حلقات الذكر.. جاء معظم إنشاد ياسين من قصائد وأشعار المتصوفة التي تربطه بها علاقة عشق ووجد، وممن أنشد لهم ياسين التهامي عبد القادر الجيلاني وعبد الكريم الجيلي والحلاج ومحيي الدين بن عربي وأبو معين الغوث وعمر بن الفارض الذي أنشد تائيته الشهيرة (537 بيتا) على مراحل عمره الفني المختلفة الذي قارب الثلاثين عاما… وغيرهم من أقطاب الصوفية أو أصحاب الطلة والروح -بتعبير دراويش الصوفية-، وهو ما يناسب الإنشاد الديني في الموالد وحلقات الذكر. ولهذا يكثر في إنشاد ياسين المعاني والمصطلحات الصوفية التي يرفضها الفقهاء وعلماء الدين، ويرون فيها أنها تدعو إلى وحدة الوجود أو تقديس الأولياء وأهل البيت والاستغاثة بهم وطلب العون منهم والمدد.
ولا يخرج ياسين عن عيون الشعر الصوفي إلا نادرًا، وإذا ما أنشد لغير المتصوفة فلشعراء لهم نفس الروح والمشاعر والعاطفة القوية؛ مثل الأمير عبد الله الفيصل وعبد الله البردوني وعلي عبد العزيز وأحمد شوقي وعلية الجعار والأخطل الصغير (بشارة الخوري)، وطاهر أبو فاشا، وإيليا أبي ماضي.. ومن القدماء المتنبي وأبو فراس الحمداني ورابعة العدوية، ولعنترة بن شداد من الجاهليين أيضا؛ فالمبدأ عنده هو روح القصيدة وليس شخص صاحبها.
جمهور الكلمة وليس المطرب!
والمفارقة أن القصائد التي ينشدها ياسين على مستوى عال جدًا من حيث معانيها وأفكارها وما فيها من روح وفلسفة، ورغم ذلك يتجاوب معها الجمهور الكبير الذي يتكون معظمه من غير المثقفين بل ومن الأميين.
وجمهور ياسين ذو تركيبة فريدة، تماما مثل شكل وطريقة إنشاده؛ فهو يضم شرائح متنوعة ومتناقضة تشمل كل درجات السلم الاجتماعي والثقافي، بداية من جمهور الموالد والطرق الصوفية وهم القطاع الأكبر، انتهاء بشريحة من أبناء النخبة الباحثين عن الروحانيات أو الغرائبية أو الجذور في مواجهة تيار العولمة المكتسح حتى لأغانينا، ولكن القاسم المشترك بينه هو الإحساس العميق بالكلمة، والإحساس بالشيء نصف فهمه، أما النصف الآخر للفهم فيأتي من المشاركة في الغناء كجزء من “الحالة”؛ لذلك كان لياسين جمهور كبير في حفلاته بالبلاد الأجنبية من خلال مهرجانات الموسيقى الروحية، ورغم أن الغالبية العظمى من حضورها كانوا أجانب لا يعرفون العربية، فضلا عن فهم معاني الشعر الصوفي.. فإنه كان هناك تركيز وإنصات؛ فهم لا يبحثون في معنى ما ينشده بقدر ما يحسونه ويشعرونه!
وعلاقة ياسين بجمهوره التفاعلية هي التي تصنع خصوصيته، أو ما يسميه بالحالة التي يشاركه فيها الجمهور بالإنشاد أقرب إلى جلسات العلاج النفسي أو رحلات السمو الروحاني؛ لذلك يخشى المطربون من الغناء معه أو بعده؛ لأن طريقته تجذب الجمهور وترهقه، وتسيطر عليه تماما طوال عدة ساعات تحول دون إمكانية تواصله مع من يأتي للإنشاد أو الطرب بعده، ولهذا السبب دائمًا ما ينشد منفردًا أو في نهاية الحفلات.
حسام تمام5>