يشيع في كتب المسلمين وخطابهم الديني  أن القرآن الكريم حمال أوجه ، وأقرب كتاب لدينا يذكر هذا هو كتاب الدر المنثور للسيوطي، حيث قال فيه : “وأخرج ابن سعد عن عكرمة قال: سمعت ابن عباس يحدث عن الخوارج الذين أنكروا الحكومة فاعتزلوا علي بن أبي طالب قال: فاعتزل منهم اثنا عشر ألفا فدعاني علي فقال: اذهب إليهم فخاصهم وادعهم إلى الكتاب والسنة ولا تحاجهم بالقرآن فإنه ذوو وجوه، ولكن خاصهم بالسنة”

وأخرج ابن سعد عن عمران بن مناح قال: فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، فأنا أعلم بكتاب الله منهم ، في بيوتنا نزل! فقال: صدقت، ولكن القرآن حمال ذو وجوه، يقول، ويقولون، ولكن حاججهم بالسنن؛ فإنهم لن يجدوا عنها محيصا.

فخرج ابن عباس إليهم فحاججهم بالسنن فلم يبق بأيديهم حجة”([1])

ويبدو أن هذه المقولة أشهر في خطاب المسلمين وثقافتهم منها في كتبهم المسندة، ونحب في هذه السطور أن نناقش صحة هذه المقولة.

 التاريخ يُثبت زيف هذه الرواية

يمكننا أن نقف على زيف هذه المقولة وضعفها، بل وكذبها من خلال قصة سيدنا عبد الله بن عباس مع الخوارج، ذلك الموقف الذي رويت فيه هذه المقولة!

فها هو عبد الله بن عباس لما توجه لمناظرة الخوارج احتجَّ عليهم بالقرآن، فأين وصية علي بن أبي طالب المزعومة منه إذن؟

 عبد الله بن عباس يبدأ مناظرته بالاحتجاج بالقرآن

فكان أول ما فعله ابن عباس أن ذهب إلى الخوارج في حُلَّة جميلة، فقالوا له: مرحبًا بك يا ابن عباس، ما هذه الحلة؟ قال: ما تعيبون عليّ؟ لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما يكون من الحلل، واحتج عليهم بقوله تعالى : “قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف:32]

عبد الله بن عباس يستمع إلى شبهات الخوارج

ثم قال لهم :هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول الله  صلى الله عليه وسلم وابن عمه، قالوا: ثلاث، قلت: ما هن؟ قالوا: أما إحداهن: فإنه حَكَّم الرجال في أمر الله، وقال الله: { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] ما شأن الرجال والحكم؟

قلت: هذه واحدة.

وأما الثانية فإنه قاتل ولم يَسبِ ولم يغنم، فإن كانوا كفارًا لقد حل سبيهم، ولئن كانوا مؤمنين ما حل سبيهم ولا قتلهم!

قلت: هذه اثنتان فما الثالثة؟

قالوا: محا نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين!

 عبد الله بن عباس يؤصّل مرجعية القرآن بينه وبين الخوارج

فقال لهم عبد الله بن عباس: أرأيتكم إن قرأت عليكم من كتاب الله جل ثناؤه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يرد قولكم أترجعون؟، قالوا: نعم.([2])

فها هو عبد الله بن عباس يُعلن في بداية المناظرة أنه سيُحاجهم بالقرآن.

وقد مارس ذلك بالفعل، فقال لهم : أما قولكم: حَكَّم الرجال في أمر الله، فإني أقرأ عليكم من كتاب الله أن قد صيَّر الله حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم، فأمر الله تبارك وتعالى أن يحكموا فيه، أرأيتم قول الله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] وكان من حكم الرجال، أنشدكم بالله أحكم الرجال في صلاح ذات البين، وحقن دمائهم أفضل أو في أرنب؟ قالوا: بلى، بل هذا أفضل.

قلت: وفي المرأة وزوجها {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] ، فنشدتكم بالله حكم الرجال في صلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في بضع امرأة، أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.

قلت: وأما قولكم: قاتل ولم يَسْبِ ولم يغنم، أفتسبون أمكم عائشة، تستحلون منها ما تستحلون من غيرها وهي أمكم؟، فإن قلتم: إنا نستحل منها ما نستحل من غيرها فقد كفرتم، وإن قلتم ليست بأمنا فقد كفرتم، قال تعالى : {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] فأنتم بين ضلالتين فأْتوا منها بمخرج، أفخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.

ضعف السند

من الممكن جدا أن نكتفي بهذا التفنيد الروائي، لكن لا بأس أن نضيف إلى ذلك ما ذكره بعض المحدثين من التضعيف في السند.

من ذلك ما ذكره الألباني في السلسلة الضعيفة ، قال : ” القرآن ذلول ذووجوه، فاحملوه على أحسن وجوهه “. ضعيف جدا.

رواه الدارقطني (ص 485) عن زكريا بن عطية: أخبرنا سعيد بن خالد: حدثني محمد ابن عثمان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس مرفوعا.

قلت: وهذا سند ضعيف جدا، وفيه علل ثلاث:

الأولى: جهالة محمد بن عثمان قال ابن أبي حاتم (4/1/24) : سمعت أبي يقول: هو مجهول.

الثانية: سعيد بن خالد لم أعرفه.

الثالثة: زكريا بن عطية قال ابن أبي حاتم (1/2/599) :

سألت أبي عنه فقال: منكر الحديث.

وقال العقيلي:هو مجهول.([3])

خطر وصف القرآن بأنه ذو وجوه

يقول الشيخ القرضاوي في بيان خطر هذه المقولة: ” ولو صح ما ادعوه على القرآن الكريم لم يكن هناك معنى لإجماع الأمة بكل طوائفها على أن القرآن هو المصدر الأول للإسلام عقيدة وشريعة‏ ولم يكن هناك معنى لوصف الله تعالي القرآن بأنه نور وكتاب مبين‏، فكيف يكون الكتاب المبين‏ الهدى والفرقان والنور غامضا أو قابلا لأي تفسير يشرق صاحبه أو يغرب‏ وقد قال تعالى‏:‏ {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] .

وقد أجمع المسلمون على أن الرد إلى الله يعني الرد إلى كتابه‏، وأن الرد إلى الرسول بعد وفاته يعني الرد إلى سنته،‏ فإذا كان الكتاب حمال أوجه‏ كما يقال‏، فكيف أمر الله تعالى برد المتنازعين إليه؟‏ وكيف يعقل أن يرد التنازع إلى حكم لا يرفع التنازع، بل هو نفسه متنازع فيه؟. ” ([4])

 


([1])الدر المنثور في التفسير بالمأثور (1/ 40)

([2])رواه النسائي والحاكم والبيهقي وصححه ابن تيمية في منهاج السنة وقال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح.

([3]) السلسلة الضعيفة،  (3/ 127)

([4])انظر كيف نتعامل مع القرآن العظيم. د. يوسف القرضاوي.