يشيع بين الناس حديث “نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع” فما مدى صحة هذا الحديث؟ وكيف نفهمه؟، هل هو دعوة إلى الزهد والتقشف؟ أم ماذا؟ وما هو الحد الأدنى من الاستهلاك؟ ومن المسئول عن توفيره؟ وهل للأجيال القادمة حق في الموارد الحالية للمجتمع؟ لقد حث الله -سبحانه وتعالى- على التمتع بالطيبات التي وهبها للإنسان فقال عز وجل: “كلوا من طيبات ما رزقناكم” ولكنه قيد ذلك بقوله عز وجل “ولا تسرفوا” وقوله: “إنه لا يحب المسرفين” وقوله: “ولا تبذر تبذيرًا” فما هو معيار الإسراف والتبذير؟ وكيف يمكن تحديده؟ للإجابة عن ذلك نلقي نظرة على نظرية الاستهلاك وعلاقتها بالمنفعة.

يعتبر الاستهلاك أحد مكونات الدخل القومي لأي بلد، كما أنه أحد مؤشرات الرفاهية في المجتمع، وتصب كل دراسات سلوك المستهلك في محاولة معرفة مجددات الاستهلاك، وتوازن المستهلك، كما يعتبر الاستهلاك مفهوماً منافساً للادخار؛ حيث يعتبر الأخير تأجيلاً للاستهلاك في الوقت الحاضر إلى استهلاك مستقبلي، وبمعنى آخر على مستوى الاقتصاد الكلي هو تنازل الجيل الحالي عن جزء من الاستهلاك الحالي لصالح الأجيال القادمة؛ وذلك لأن الدخل يمكن تقسيمه إلى استهلاك إضافة إلى ادخار ولا بد من تحقيق موازنة معقولة بين الاثنين تؤدي إلى الوصول إلى مستوى الإشباع المطلوب.

ينقسم الاستهلاك إلى قسمين رئيسيين:

1- الاستهلاك المستقل عن مستوى الدخل “التلقائي”: وهو ذلك الجزء من الاستهلاك الذي لا يرتبط بالدخل الشخصي للمستهلك، والذي لا بد أن يحصل عليه الفرد حتى وإن كان دخله صفراً، وذلك إما بالسحب من مدخراته إن وجدت أو بالاقتراض، باختصار فإن هذا القسم يمثل الحد الأدنى الضروري من الاستهلاك اللازم للحياة.

2- الاستهلاك المعتمد على مستوى الدخل: وهو ذلك الجزء من الاستهلاك الذي يرتبط بدخل المستهلك فكلما زاد دخله ازدادت أنواع وكميات السلع والخدمات التي يستهلكها وبالتالي فهي علاقة طردية موجبة بين الدخل والاستهلاك.

عناصر النمو في الاستهلاك

وتعتمد الزيادة أو النقصان في مستوى الاستهلاك على ثلاثة عناصر أساسية هي: الثروة – والتوقعات – والضرائب.

أ- الثروة: وتعرف بأنها الفرق بين الأصول “المملكات” والخصوم “الالتزامات”، وهي تختلف عن الدخل في كونها مفهومًا تراكميًّا بينما الدخل مفهوم تدفقي (شهري، سنوي..) وتعتبر الثروة ذات تأثير إيجابي على الاستهلاك، فإذا افترضنا شخصين لهما نفس المستوى من الدخل فإننا نتوقع أن الشخص صاحب الثروة الأكبر فيهما سينفق على الاستهلاك بصورة أكبر من الآخر، وأبرز مثال على ثروة الأفراد هو امتلاكهم لأسهم الشركات؛ حيث يؤدي ارتفاع أسعار هذه الأسهم إلى ارتفاع ثروتهم وبالتالي زيادة الإنفاق على الاستهلاك وتنعكس هذه الزيادة في شكل ارتفاع الاستهلاك المستقل عن مستوى الدخل؛ لأنه غير مرتبط بالدخل.

ب- التوقعات: يعتمد الاستهلاك أيضاً على توقعات الأفراد المستقبلين حيال ثروتهم ودخولهم، فأي تغير في مستوى التوقعات سينجم عنه تغير في مستوى الاستهلاك وعليه يميل الأفراد إلى تقليص الاستهلاك في ظروف التشاؤم وعدم التفاؤل والعكس صحيح.

جـ- الضرائب: وتنقسم إلى نوعين ضرائب مقطوعة أي قيمة ثابتة مستقلة عن مستوى الدخل وضرائب الدخل التي تزداد بازدياد الدخل وتنخفض بانخفاضه ويؤدي رفع هذه الضرائب بنوعيها إلى تخفيض الاستهلاك المعتمد على مستوى الدخل وبالتالي تخفيض الاستهلاك الإجمالي.

لماذا نستهلك؟!

هنا يبرز سؤال هام وهو لماذا يقوم الأفراد بالاستهلاك أصلا؟ ما هو الدافع لذلك؟ والجواب هو لأنهم يتوقعون تحقيق منفعة ما من شرائهم لهذه السلع والخدمات، كرغيف خبز مثلاً في حالة جوع أو مشروب بارد في ساعة عطش أو معطف يقي برد الشتاء.. وهكذا وهو ما يقودنا إلى سؤال آخر ما هي المنفعة؟

المنفعة: هي اللذة أو الإشباع أو تلبية الحاجات التي يفتقدها الأفراد ويتحصلون عليها من جراء استهلاك السلع والخدمات، وتناقص هذه المنفعة أو الإشباع الذي تقدمه السلع والخدمات مع ازدياد الوحدات المستهلكة وهو ما يُعرف بمبدأ تناقص المنفعة الحدية Diminishing Marginal utility والذي نشر لأول مرة في كتاب نظرية الاقتصاد السياسي “للاقتصادي الإنجليزي وليم ستانلي عام 1871م ولتوضيح هذا المبدأ نطرح المثال التالي:

لنفترض أنك تسير في أحد الشوارع في وقت الظهيرة حيث درجة الحرارة مرتفعة وشعرت بالعطش الشديد، وقررت أن تروي ظمأك وتوقفت بالفعل عند أحد المحلات التي تبيع المشروبات الباردة، قم الآن بتناول كوب من العصير البارد فستشعر بلذة العصير وأنه قد روى جزءاً من عطشك، ولكنك ما زلت في حاجة إلى كوب آخر، قم بتناول الكوب الثاني ستشعر أيضاً بلذة العصير، والإشباع الذي يعطيه لك، ولكن اللذة ستكون بصورة أقل من الكوب الأول، قم بتناول الكوب الثالث ستشعر أيضاً باللذة والإشباع ولكن بصورة أقل من الكوب الثاني، وهكذا استمر في هذه العملية على قدر ما تستطيع بشرط أن يكون معك النقود الكافية طبعاً، ماذا تلاحظ؟ ستلاحظ أن حجم المنفعة أو اللذة التي تشعر بها يتناقص مع كل كوب إضافي تتناوله، بل وأكثر من ذلك ستشعر مع الأكواب الأخيرة بعدم الرغبة وضيق في التنفس بسبب كثرة الشرب، كما يمكن أن تصاب بحالة من الغثيان أيضاً وأن آخر كوب شربته لم تستطع إكماله، فما هو تفسير ذلك؟؟

لقد ظلت المنفعة التي يقدمها كل كوب تتناقص حتى وصلت إلى الصفر بمعنى أنه عند تلك اللحظة فإن شرب أي كوب إضافي لن يضيف أي منفعة بل على العكس ستكون المنفعة بالسالب، وهو ما يفسر حالة الغثيان وضيق التنفس الأمر الذي يحتم التوقف عن استهلاك العصير قبل الوصول إلى هذه المرحلة بقليل.

تعتبر المنفعة فكرة موضوعية ولم يخترع لها آلة وجهاز لقياس المنفعة تشبه جهاز قياس ضغط الدم مثلاً والأرقام التي تقدم في هذا الصد ما هي إلا وسيلة لإيضاح الفكرة فقد تستطيع حساب عدد السعرات الحرارية في وجبة الغداء أو العشاء التي ستتناولها، ولكن لا تستطيع حساب عدد وحدات المنفعة، فالمنفعة شعور يحس به المستهلك نفسه، إلا أن درجاتها تختلف من مستهلك لآخر.

ومن هنا يتضح لنا أن السلوك الاستهلاكي يفترض أن يبدأ عندما تعطي السلعة أو الخدمة المستهلكة أعظم إشباع ممكن ويستمر استهلاكها حتى يصل هذا الإشباع أو المنفعة إلى الصفر، وهي النقطة التي يفترض أن يتوقف الاستهلاك عندها أو قبلها بقليل، وعليه فإن القول بأن “نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع” هو قاعدة استهلاكية سليمة تعني ضرورة توفر مبدأين أساسيين:

1- أن يتم الاستهلاك عندما تعطي السلعة أعظم إشباع ممكن، وهذا لا يتحقق إلا بوجود شعور حقيقي بالحاجة إليها (حتى نجوع).

2- أن يتوقف الاستهلاك عند انتفاء المنفعة أو الإشباع الذي تقدمه وهي مرحلة الشبع في الحديث المذكور أعلاه والتي ينبغي التوقف قبلها بقليل، وبالتالي تكون السلعة قد حققت الغرض الذي اشتريت من أجله وانتفت الحاجة إلى استهلاك المزيد منها.

حدود الإسراف والتبذير

ورغم أن هذا الحديث لا أصل له بهذا اللفظ في كتب الحديث ـ وإن وردت أحاديث بنفس معناه ـ فإنه يمكن الأخذ به على أساس أنه قاعدة استهلاكية اقتصادية، فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق الناس بها خاصة وأنه شائع بين الناس، كما أنه باستخدام مفهوم المنفعة يمكن توضيح حدود الإسراف والتبذير:

فكل استهلاك لا يبدأ عند النقطة (A) أي عندما تعطي السلعة أعظم إشباع ممكن يعتبر تبذيراً من أساسه؛ لأنه لا وجود لحاجة حقيقة لهذه السلعة.

وكل استهلاك يتجاوز النقطة (B) يُعتبر إسرافاً؛ لأنه تجاوز المقدار الكافي لتلبية الحاجة المفقودة والذي عادة ما يقع من المستهلكين؛ لأنهم لا يسعون إلى معرفة ذلك المقدار من السلع والخدمات الذي يلبي حاجاتهم بالفعل ولو على وجه التقريب، وهو أمر يختلف من شخص لآخر ولا يتم معرفته إلا مع التدريب عليه حتى يصبح جزءاً من سلوكيات الشخص نفسه، ولكي يفعل ذلك لا بد أن يدرك المفاهيم التي وردت آنفاً ولو بشكل مبسط.

وعادة ما يكون الاستهلاك الذي لا يحقق المبدأين السابقين استهلاكاً تفاخرياً لأغراض المباهاة وليس لتلبية حاجة حقيقية وهو سلوك ينبع من التنافس في تقليد الآخرين والرغبة في التمييز، وهو ما حذر منه صلى الله عليه وسلم حينما حذر من التنافس في الدنيا، فالاستهلاك في حد ذاته ليس مذموماً، ولكن المذموم فيه هو الإسراف والتبذير من الناحية الشرعية ومن الناحية الاقتصادية، وقد دفع ذلك معظم البلدان إلى فرض ضرائب عالية على استيراد وتوزيع السلع التي تتسم بطابع الترف والمباهاة للحد من السلوكيات الاستهلاكية السلبية على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، كما حددت معظم البلدان حداً أدنى لمستوى الدخل الذي يجب أن يتحصل عليه أي عامل أو موظف في الدولة، والذي يمثل الحد الأدنى لمستوى المعيشة في البلد المعني، وإذا لم يوفق في الحصول على عمل يوفر له هذا الدخل؛ فيلتزم المجتمع بتوفيره له على هيئة إعانة مالية ليتمكن من اقتناء السلع الضرورية.

علي عبد العزيز