تُعَدُّ بئر زمزم التي تفجّرت تحت أقدام إسماعيل– عليه السلام- من العناصر الهامة داخل المسجد الحرام، فكيف كان تاريخ زمزم، وماهي أهم الأحداث التي مرت بها هذه البئر؟
تاريخ زمزم قبل الإسلام
روي عن ابن جريح.. عن سعيد بن جبير أنه قال: حدثنا عبد الله بن العباس أن إبراهيم- عليه السلام- قدم إلى مكة هو وأم إسماعيل، وكان إسماعيل طفلاً رضيعًا، وترك أم إسماعيل وابنها في مكان زمزم، وكانت معها شنة ماء؛ فأخذت تشرب منها وتدر على ولدها حتى فني ماء شنتها؛ فانقطع درها؛ فجاع ابنها واشتد جوعه حتى نظرت إليه يتشحط قال: فحسبت أم إسماعيل أنه يموت؛ فعمدت إلى الصفا حين رأته مشرقًا تستوضح ما عليه، ثم ذهبت من الصفا إلى المروة حتى كان مشيها بينهما سبع مرات، ثم رجعت إلى ابنها فسمعت صوتًا ـ فقالت: أسمع صوتك فأغثني إن كان عندك خير: قال: فضرب جبريل الأرض؛ فظهر الماء، فحاضته أم إسماعيل برمل ترده خشية أن يفوتها، قبل أن تأتي بشنتها؛ فشربت ودرت على ابنها. وقد روى البخاري ـ رضي الله عنه ـ هذه الواقعة مطولة جدًّا في (صحيحه).
زمزم هي مقدمة العمران بمكة
في تاريخ زمزم كانت هذه البئر في مقدمة العمران بمكة ـ فقد ذكر الأزرقي في أخبار مكة، والطبري في تاريخ الرسل والملوك: أن ركبًا من (جرهم) مرَّ قافلاً من بلاد الشام؛ فرأى الركبُ الطير على الماء؛ فقال بعضهم: ما كان بهذا الوادي من ماء ولا أنيس؛ فأرسلوا رجلين لهما حتى أتيا أم إسماعيل فكلماها ثم رجعا إلى ركبهما فأخبراهم بمكانها؛ فرجع الركب كله ونزلوا على الماء بعد استئذان أم إسماعيل. وفي صحيح البخاري صريح موافقتها على إقامتهم دون أن يكون لهم حق في الماء، أي يكون منحة منها فوافقوا.
وأخذ العمران يزداد بمكة بعد بناء سيدنا إبراهيم وولده إسماعيل للبيت الحرام ـ واستمرت “جرهم” تلي أمر البيت الحرام وزمزم فترة من الزمن إلى أن قدمت قبيلة “يمنية” هاجرت من الجنوب بعد تهدم (سد مأرب) وهي قبيلة خزاعة. وتقاتلت “خزاعة” مع “جرهم” وانتصرت “خزاعة” ووليت أمر البيت، وخرجت “جرهم” عن وادي مكة ومنها خرج أبناء إسماعيل، وتفرقوا في تهامة، ثم ولي أمرها بعد ذلك قصي بن كلاب في القرن الخامس الميلادي بعد أن أجلى خزاعة من مكة، وفرض سلطانه على كنانة، وأنزل قريشًا مكة وقسمها بين بطونها ـ وكانت زمزم في تلك الأثناء قد أُهمِلَت إلى أن دَرَسَت وخفت معالمها، وظلت على ذلك حينًا حتى حفرها عبد المطلب بن هاشم جد النبي ـ ﷺ ـ وقد يتساءل كيف يشرب أهل مكة وحجاجها بعد ضمر مياه زمزم؟
والإجابة: أنه كانت هناك آبار وعيون بديلة حفرت بعد زمزم منها: بئر حفرها مرة بن كعب بن لؤي (بئر اليسرة)، وبئر أخرى تُعرَف باسم “بئر الرُّوا” وهما مما يلي عرفة.
وكان حفر عبد المطلب لها عقب حادثة الفيل بعد أن رأى في منامه هاتفًا “احفر زمزم”، ثم عاوده الهاتف فقال: احفر زمزم بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب، في قرية النمل مستقبلة الأنصاب الحمر، فلما استيقظ عبد المطلب، وذهب إلى المسجد الحرام، جلس فيه؛ فرأى ما سُمِّي له، حيث نحرت بقرة بالحزورة (وهو اسم السوق في الجاهلية) فانفلَّت من جازرها حتى غالبها الموت في المسجد في موضع زمزم، فجُزرت تلك البقرة في مكانها حتى احتمل لحمها؛ فأقبل غراب فهوى حتى وقع في الفرث، واجتمع حول ما تبقى النملُ.
فقام عبد المطلب فحفر هناك فجاءته قريش: فقالت له: ما هذا الصنيع، لِمَ تحفر في مسجدنا؟ فقال عبد المطلب: إني حافر هذه البئر، ومجاهد مَن صدني عنها؛ فطفق هو وابنه الحارث وليس له ولد يومئذ غيره، فسفه عليهما يومئذ أناسٌ من قريش؛ فنازعوهما وقاتلوهما، وتناهى عنه أناس آخرون لما يعلمون من عتاقة نسبه حتى اشتد عليه الأذى؛ فنذر إن وفّى له عشرة من الولد أن ينحر أحدهم، ثم استمر الحفر حتى أدرك سيوفًا ذهبية في زمزم؛ فلما رأت قريش السيوف قالت له: يا عبد المطلب أجزنا مما وجدتَ فقال: هذه السيوف لبيت الله الحرام؛ فحفر حتى انبط الماء في القرار.
ثم بنى عليها حوض فطفق هو وابنه يملآن الحوض؛ فيشرب منه الحاج فيكسره أناس من قريش بالليل فيصلحه عبد المطلب حين يصبح، فلما أكثروا فساده دعا عبد المطلب ربه فجاءه هاتف في المنام فقال له قل: اللهم إني لا أُحلها لمغتسل، ولكن هي للشارب حِلٌّ؛ فلما أصبح عبد المطلب نادى بالذي رأى في المسجد، ثم انصرف فلم يكن يفسد حوضه أحد من قريش إلا رُمي في جسده بداء حتى تركوا إفساد حوضها.
ثم تزوج عبد المطلب حتى وُلِدَ له عشرة ذكور فهمَّ بنحر أحدهم، وأصابت القرعة عبد الله والد النبي ـ ﷺ ـ فكرروا القرعة عشر مرات إلى أن افتدى عبد الله بمائة ناقة.
تاريخ زمزم في العصر الإسلامي
ويذكر تاريخ زمزم أن هذه البئر ظلت بعد حفر عبد المطلب بن هاشم لها المصدر الرئيسي لسقاية حجاج بيت الله الحرام ـ وزادت أهميتها في العصر الإسلامي حيث ورد العديد من الأحاديث في فضلها:
قال –ﷺ-: “إن الحمَّى من فيح جهنم فأبردوها بماء زمزم” (أحمد) وقال- ﷺ-: “ماء زمزم لما شُرب له”، وقال- ﷺ-: “التضلع من ماء زمز براءة من النفاق”، وقال- ﷺ-: “علامة ما بيننا وبين المنافقين أن يدلوا دلوًا من ماء زمزم فيتضلعوا منها، ما استطاع منافق قط يتضلع منها”، وروى علي بن أبي طالب– رضي الله عنه- أن النبي- ﷺ- أفاض، ثم دعا بسجل من ماء زمزم؛ فتوضأ به ثم قال: “انزعوا سقايتكم يا بني عبد المطلب فلولا أن تغلبوا عليها لنزعت معكم”.
غور الماء قبل يوم القيامة إلا زمزم
روى عثمان بن ساج قال: أخبرني مقاتل عن الضحاك بن مزاحم أن الله- عز وجل- يرفع المياه العذبة قبل يوم القيامة، وتغور المياه غير زمزم وتلقي الأرض ما في بطنها من ذهب وفضة، ويجيء الرجل بالجراب فيه الذهب والفضة فيقول: من يقبل هذا مني؟ فيقول: لو أتيتني به أمس قبلته.
وصف بئر زمزم على مر العصور
عن ابن جريح قال: قال لي عطاء: إنما كانت سقايتهم التي يسقون بها، قال: كان لزمزم حوضان في الزمان الأول، فحوض بينها وبين الركن يشرب منه الماء، وحوض من ورائها للوضوء، له سرب يذهب فيه الماء من باب وضوئهم، يعني باب الصفا، ولم يكن عليها شباك حينئذ.
وكانت مجرد بئر محاطة بسور من الحجارة بسيط البناء، وظل الحال كذلك حتى عصر أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي الذي يعد أول من شيد قبة فوق زمزم، وكان ذلك سنة مائة وخمس وأربعين.
وكانت زمزم من أعلاها إلى أسفلها ستين ذراعًا وفي قعرها ثلاث عيون: عين حذاء الركن الأسود، وعين حذاء أبي قبيس والصفا، وعين حذاء المروة. وكان فم زمزم ثلاثة أذرع وثلثي ذراع.
وكان أول من عمل الرخام على زمزم وعلى الشباك وفرش أرضها بالرخام أبو جعفر أمير المؤمنين في خلافته، ثم عملها المهدي في خلافته، وقد سقفت حجرة زمزم بالساج على يد عمر بن فرج وكُسِيت القبة الصغيرة بالفسيفساء، كما جددت عمارة زمزم، وأُقيم فوق حجرة الشراب قبة كبيرة من الساج بدلاً من القبة الصغيرة التي تعلو البئر، وكان ذلك في عهد الخليفة المهدي سنة 160هـ، كما جددت بئر زمزم وكسيت بالرخام، وجددت قبتها في عهد الخليفة العباسي المعتصم سنة مائتين وعشرين من الهجرة.
وصف لحوض زمزم
يقول: الحوض كان من الداخل تسعًا وثلاثين ذراعًا، ومن الخارج أربعين ذراعًا، وقطره اثنا عشر ذراعًا، وهو مفروش بالرخام، وجدرانه ملبسة بالرخام، وطول جدرانه أحد عشر إصبعًا، وعرضه (سمكه) ثمانية أصابع، وما بين الحوض الذي يشرب منه الحاج ثمانية وعشرون ذراعًا، وحول هذا الحوض اثنتا عشرة أسطوانة من الساج طول، كل أسطوانة أربعة أذرع، وعلى الحجرة قبة من الساج خارجها أخضر وداخلها أصفر.
أهم الإصلاحات في تاريخ زمزم
وقد جرى على قبة زمزم ـ بعد ذلك العديد من الإصلاحات والترميمات من أهم هذه الإصلاحات:
ما تم في عصر المماليك في عهد السلطان الناصر: فرج بن برقوق عقب حريق أصاب المسجد الحرام في ليلة الثامن والعشرين من شوال سنة اثنين وثمانمائة، كما عمرت قبة زمزم سنة 815هـ على يد قاضي مكة ” جمال الدين محمد بن أبي ظهيرة” وفي عهد :” السلطان قايتباي” تم إصلاح بئر زمزم وتجديد رخامها وكان سنة 884 هـ،
أما في العصر العثماني فقد كان الاهتمام كبيرًا بالمسجد الحرام، وقد جرى العديد من الإصلاحات على مبنى زمزم، وخصوصًا في عهد السلطان سليم الثاني سنة 982 هـ، كما تم تجديد قبة زمزم في عهد السلطان أحمد سنة 1201 هـ، وفي عهد السلطان أحمد الرابع سنة 1083، وفي عهد السلطان عبد الحميد الأول سنة 1187 ـ سنة 1203 تم تجديد مبنى زمزم.
وكان أكبر عمارة جرت على قبة زمزم قبل أيامنا هذه ـ هي التي تمت في عهد السلطان عبد الحميد الثاني 1300 وقام به المهندس السيد محمد صادق، وفي العصر الحديث أُعيدَ بناء زمزم من جديد بعيدًا عن مكانها الأصلي؛ نظرًا لأن المبنى القديم بالقرب من الكعبة يعوق الطواف في العصر الحديث لكثرة أعداد الحجيج، وقد تم توصيل مياه زمزم إلى مكانها الجديد من الجزء الشرقي من الحرم عن طريق (مواتير) رفع ومواسير، كما تم تخصيص مكان للرجال وآخر للنساء، وأخيرًا فرغم مرور آلاف السنين على بئر زمزم؛ فقد بقي ماؤها للنقاء والطهارة والشفاء.
إعداد/محمود إسماعيل شل