تُرى ماهو سر فقدان الخشوع في الصلاة؟ هناك الكثير من الناس الذين يمكن وصفهم بالمواظبين على الصلاة والملتزمين بها في وقتها، والمحافظين على الصدقات والأخلاق الحميدة وكل الأفعال الخيرية..لكن – للأسف – لا يجدون الخشوع مع الله في صلاواتهم.
هل يمكن أن نتحدث عن سر فقدان الخشوع، وكأنه أمر متاح للجميع ويكفي فقط أن نبحث عنه في نفوسنا؟ هناك من يقر ويعترف بل ويفتخر أحيانا بأن الإيمان يمتلكه ويخاف الله في كل صغيرة وكبيرة، لكن مشكلته مع نفسه لا يعرف كيف يجعلها تخشع، وعلى الرغم من أن بدنه يقشعر عند تلاوة القرآن الكريم إلا أنه لا يذرف دمعة واحدة، وهذا أمر يحزنه ويجعله يشك بأن قبله مسود أو أن الله غاضب عليه . فماذا يمكن أن يقال لهذه الفئة من الناس؟
أسباب الخشوع
أولا: إن الصبر والاحتساب والمواظبة على الدعاء للوالدين من أسباب الخشوع التي سنتحدث عنها.
ثانيا: إن الافتخار بالإيمان أمر مطلوب، ونسأل الله الثبات والقبول، وهذا ديدن كل مسلم، ولله در الشاعر:
ومما زادني فخــرا وتيها *** وكدت بقدمي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن جعلت احمد لي نبيا
ولكن أخي المسلم إياك والعجب، ففرق بينه وبين الافتخار، فافرح بإيمانك، ولا تعجب به، وما أروع ما قاله ابن القيم في هذا المقام : “ما أقرب المدل ـ المنان بعمله ـ من مقت الله، فذنب تدل به لديه، أحب إلى الله من طاعة تدل بها عليه. وإنك أن تبيت نائماً وتصبح نادماً , خير من أن تبيت قائماً وتصبح معجباً، فإن المعجب لا يصعد له عمل، وإنك أن تضحك وأنت معترِف، خير من أن تبكي وأنت مدل . وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبحين المدلين. (تهذيب مدارج السالكين / ص 120 ).
وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : سيئة تسوؤك خير عند الله من حسنة تعجبك .
ثالثا: وهي توكل المسلم على الله تعالى وهو أمر محمود، وهل هناك أفضل من التوكل عليه سبحانه؟
رابعا: وهو أمر يتعلق بالخشوع، وهو لب الموضوع، ففقدان الخشوع عدم توفيق من الله، وبالتالي فإن الخشوع توفيق من الله وهو ضراعة القلب، وطمأنينة فيه، وسكونه لله جل وعلا، وانكساره بين يديه، ذلاّ وافتقاراً. ولا يوفق إليه إلا الصادقون من خلقه.
القلب محل الخشوع
إن محل الخشوع: القلب، وإن ثمرته تظهر على الجوارح، وقد قيل: إذا ضرع القلب، خشعت الجوارح، وذلـك أن القلب مَلِك البدن، وأمير الأعضاء، تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده، وقد قال النبي ﷺ:” ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب”.رواه البخاري في الإيمان (52) ومسلم في المساقاة ( 1599).
وقد لام الله صحابة نبيه ﷺ، وعاتب من لم يبلغ هذه الدرجة فقال سبحانه: (أَلَمْ يَاًنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَـطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16] .
والمتأمل لحياة النبي ﷺ يرى أنه بلغ الذروة من الخشوع، وكان من خشوعه أن يرى في صلاته وفي صدره “أزيز كأزيز الرحى ـ أي الطاحون ـ من البكاء” رواه أبو داود، (904) وذكره الألباني في صحيح أبي داود(799).
وربما بكى ﷺ ” فبلّ حِجْرَه، ولحيته، والأرض تحته” رواه ابن حبان (620) وصحح محققه إسناده.
ومن السلف من كان يقوم في الصلاة كأنه عمود تقع الطيور على رأسه من شدة سكونه وإطالته، ولهم في ذلك أحوال يطول منها عجبنا؛ لأننا لا نرى ذلك في واقع حياتنا .
كيف يمكن تحصيل الخشوع؟
يمكن تحصيل الخشوع بالأمور الآتية:
- الإقبال على كتاب الله الكريم تلاوة وفهما، وتدبرا وعملا.
- إدامة النظر في ملكوت الله، وطول التأمل وكثرة التدبر فيما خلق.
- المسارعة في الطاعات، واستباق الخيرات.
والإنسان الذي سيير على هذا الطريق إن شاء الله، قد يشعر أن بدنه يقشعر عند تلاوة القرآن، وهذه القشعريرة هي أثر عظيم من آثار الخشوع، وقد قال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ) (الزمر-23).
أما البكاء خوفا من الله فحرص الإنسان عليه أمر محمود، فنعمة البكاء خوفا من الله يُحسد عليها أصحابها، وكيف لا وقد قال ﷺ:” عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله ” رواه الترمذي( 1639) وذكره الألباني في صحيح الترمذي ( 1338).
وقال:” سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال، فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق، أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا، ففاضت عيناه” متفق رواه البخاري في الأذان ( 660) ومسلم في الزكاة ( 1031) .
ما القصد بالخشوع في الصلاة؟
إن الخشوع مأمور به في الصلاة،قال تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) المؤمنون:1، 2. ولذلك إذا ذكر الخشوع انصرف الذهن إلى الخشوع في الصلاة، وابتعد عن فقدان الخشوع، والسبب في ذلك يرجع لكون أعمال الصلاة تتضمن الذكر، والدعاء، وقراءة القرآن، والركوع، والسجود، وهي مواطن الخضوع والبكاء والخشية والتخشع.
ويقصد بالخشوع في الصلاة حضور القلب وسكون الأطراف، وتحقيق الخشوع أمر يسعى إليه المخلصون من عباد الله، والابتعاد عن فقدان الخشوع أمر يتطلب جهداً كبيرا وعزيمة أكيدة، وهمة عالية، فكل إنسان يبذل على قدر وسعه وإن شاء الله يخشع قلبه بأمر الله.
ماذا بعد الخشوع؟
لكي يخشع قلب الإنسان في الصلاة عليه بالآتي:
أولاً: استشعار عظمة الله
إن استشعار عظمة الله يثمر في القلب الذل لله، كما يورث الخوف والحياء من الله سبحانه، ولهذا قال النبي ﷺ حين سئل عن الإحسان :” اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك” رواه مسلم في الإيمان (8) عن عمر بن الخطاب..
فالإنسان سيقف بين يدي الله عز وجل، و الله تبارك وتعالى ينظر إليه، فليحذر أن ينظر الله إليه وهو لاه عنه، لذا قال ﷺ: “فإذا صليتم فلا تلتفتوا، فإنّ الله ينصب وجهه لوجه عبده في الصلاة ما لم يتلفت” رواه الترمذي وذكره الألباني في صحيح الترمذي (2298).
ولما سُئِل حاتم الأصم عن صلاته قال: إذا حانت الصلاة أسبغت الوضوء وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه، فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي، ثم أقوم إلى صلاتي، وأجعل الكعبة بين حاجبي، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني، والنار عن شمالي، ومَلَك الموت ورائي وأظنها آخر صلاتي، ثم أقوم بين يدي الرجاء والخوف، وأكبر تكبيراً بتحقيق، وأقرأ بترتيل، وأركع ركوعاً بتواضع، وأسجد سجوداً بتخشع… وأتبعها الإخلاص، ثم لا أدري أقُبلت مني أم لا؟ فلينظر الإنسان حال حاتم ويتأمل!
وهذا علي بن الحسين كان إذا توضأ اصفر لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟، فيقول: “أتدرون بين يدي من أقوم؟
ثانيا: طلب الخشوع
سل الله دائما في دعائك أن تكون من الخاشعين، وقد كان إمام الخاشعين ﷺ يقول في دعائه:”اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع.”رواه الترمذي وذكره الألباني في صحيح الترمذي (2769). و كان يقول “… رب اجعلني لك شَكَّاراً، لك ذكّاراً، لك رَهّاباً، لك مِطواعاً، إليك مُخبِتاً أوّاهاً مُنيباً” رواه ابن ماجه الترمذي وذكره الألباني في صحيح الترمذي (2816).
ثالثا: تجنب الذنوب والمعاصي
صاحب المعصية لا بد أنه فاقد للخشوع ويقع في دائرة فقدان الخشوع، وهي سدٌ منيع يقف أمام خشوع العبد في صلاة، وقد كان عبد الله بن عباس يقول: إن للحسنة ضياء في الوجه، ونورا في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادا في الوجه، وظلمة في القبر والقلب، ووهنا في البدن، ونقصا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق.
و قال ابن القيم وهو يعدد آثار المعاصي : ومنها وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله، لا يوازنها ولا يقارنها لذة أصلا، ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة، وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه حياة وما لجرح بميت إيلام. (الداء والدواء /35).
رابعا: الإكثار من الطاعات
فكما أن المعصية تدل على أختها فالطاعة تدل على أختها، ذكر ابن القيم في “الداء والدواء”: أن المعاصي تزرع أمثالها حتى يعز على العبد مفارقتها , والخروج منها . وقال بعض السلف: إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها ولا يزال العبد يألف المعاصي ويحبها ويؤثرها حتى يرسل الله عليه الشياطين فتؤزه أزاً (الداء والدواء / ص 47).
وقد كان من كلام السلف: علامة قبول الطاعة الطاعة بعدها. فإن وفقت لطاعة فهذه علامة قبول حجك. وقد قال ربنا] : وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [ مريم : 76.ويقول ابن عطاء الله: من وجد ثمرة عمله عاجلاً فهو دليل على وجود القبول آجلاً .
ومن أعظم هذه الطاعات قراءة القرآن الكريم. والطاعات بصفة عامة تزيد الصلاة خشوعاً، وتزيد العبد إقبالا على الله تعالى، وفي الحديث قال ﷺ: “أتحب أن يلين قلبك، وتدرك حاجتك: ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، يلين قلبك، وتدرك حاجتك” رواه الطبراني في الكبير وذكره الألباني في الصحيحة (854).
خامسا: إعطاء الصلاة قدرها
إعطاء الصلاة قدرهاالحقيقي يعني عدة أمور، أهمها:
- التبكير للصلاة، وانتظارها، فهذا أدعى للخشوع، بل هو رباط في سبيل الله، وفي الصحيح قال ﷺ:” ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟” قالوا : بلى. يا رسول الله! قال “إسباغ الوضوء على المكاره. وكثرة الخطا إلى المساجد. وانتظار الصلاة بعد الصلاة. فذلكم الرباط”. رواه مسلم في الطهارة (251) .
- إحسان الوضوء.
- صلاة النافلة قبلها وكذلك بعدها.
- على الإنسان أن يتعلّم أركان الصلاة وسننها ويعمل بذلك. ويتدبر أذكار الصلاة، فإذا كبّر فليكن على يقين بأن الله أكبر من كل شيء، وحين يسمّع (سمع الله…) فليستشعر قدرة الله على سماعه لكل مخلوقاته وهكذا.
- تدبر آيات القرآن في الصلاة.
سادسا: تذكّر الموت في الصلاة
قال ﷺ: “اذكر الموت في صلاتك، فإنّ الرجل إذا ذكر الموت في صلاته، لحريّ أن يحسن صلاته، وصلِّ صلاة رجل لا يظن أنه يصلي صلاة غيرها…” رواه الديلمي وذكره الألباني في الصحيحة، (1421).