لعل من المفيد عندما نتحدث عن التوبة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى أن نشير إلى أن هناك ثلاثة قوانين للتوبة والرجوع إلى الله:

 أولها: أن الراغب في التوبة يجب عليه ألا ييأس وألا يقنط من رحمة الله، مهما بلغت معاصيه.

ثانيها: أن الذي أذنب ذنوب السر ويرغب في التوبة تكفيه توبة السر، ولكن من أذنب ذنوب العلن وجاهر وفاخر بها؛ فلا تكفيه توبة السر وتلزمه توبة العلن.

ثالثها: أن التائب والعائد إلى الله يجب عليه ألا يغتر بتوبته، وألا يأمن بها مكر الله عز وجل.


القانون الأول: على التائب ألا يقنط من رحمة الله

لعل أول ثلاثة قوانين للتوبة والرجوع إلى الله، هو على ألا ييأس التائب من رحمة الله، فالقنوط أخو الكفر، قال تعالى : {وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 8]، وقال: {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} [الحجر: 56]، وقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]. وإن من تلبيس إبليس أن يضخم الذنوب أمام الراغب في التوبة ليصرفه عنها، رغم أن إبليس -لعنه الله- هو هو الذي كان بالأمس القريب يصغر المعصية في عينه ويهون الذنب، ويرتدي لباس الأتقياء، ويقول له: هون على نفسك، وماذا يكون ذنبك هذا بجوار ذنوب فلان وفلان؟ إنه ذنب حقير لا إثم عليه، والله غفور رحيم، العبرة بما في قلبك!!

واليوم.. عندما رأى في عينيه رغبة في العودة إلى الله، وميلا إلى الندم على ما فات، ومعاتبة لنفسه على ما أسرف في حياته، ولوما لها على ما قصر في حق ربه وخالقه، اليوم.. يلبس زي المثبطين والمقنطين ويقول له: تتوب!! بعد ماذا؟!! وهل لك من توبة بعدما فعلت كذا وكذا؟! هل نسيت يوم عصيت الله بكذا ؟! هل؟ هل؟ حتى يصرفه عن توبته إن استطاع.

ففي فقه الشيطان: أن  صرف الناس عن التوبة وتقنيطهم من رحمة الله عز وجل أولى من جرهم إلى ارتكاب المعاصي؛ لأن مرتكب المعصية (العاصي) قد يتوب بين عشية وضحاها، أما القانط من رحمة ربه (الآيس) فإنه عن الرجوع إلى الله أبعد، ولعل هذا هو الذي يجعل العالم الذي يعبد الله على علم وفقه أشد وأعصى على الشيطان من ألف عابد.

فلتحرس أخي التائب (الجديد) العائد إلى الله بعد طول أفول من كيد الشيطان وتسويفه ومكره وتزيينه، حتى لا تقع في حبائله؛ فحصن توبتك بالإخلاص، ومتن رجوعك بالإيمان، ثق بربك يثق بك، ولا تُعِر الشيطان سمعك ولا توله قلبك، هو عدوك فعادِه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 5-6]‏، وانتبه من غرور التوبة، وبصفة خاصة في الأيام والشهور الأولى من توبتك؛ لأنك حينئذ تكون أشبه بمريض خرج للتو من غرفة العمليات بعدما أجريت له جراحة استئصال، وأهل العلم والخبرة يقولون: إن هذه الفترة هي أقرب الفترات للتلوث بميكروب المعاصي، ومن ثم فأنت بحاجة إلى نطاسي بارع وبرنامج علاجي ناجع، وصبر جميل عن العودة إلى المعاصي بزيادة جرعة الإيمان والحذر من الشيطان.    


القانون الثاني: ذنوب السر تكفي فيها توبة السر، وذنوب العلن لا بد فيها من توبة العلن


من قوانين التوبة والرجوع إلى الله قانون يتلخص في أن من أذنب ذنوب السر تكفيه توبة السر، ولكن من أذنب ذنوب العلن وجاهر بها وتفاخر بين الناس؛ فلا تكفيه توبة السر وتلزمه توبة العلن، وحتى لا يساء فهم هذه النقطة فإنني أعمد إلى ضرب الأمثلة ليتضح الأمر:

فالكاتب أو المؤلف أو المفكر أو العالم الذي كان في مرحلة ما من حياته ينكر معلوما من الدين بالضرورة، أو يكذب بصريح القرآن أو صحيح السنة، أو يأتي فعلا أو قولا لا يحمل وجها من وجوه التأويل إلا الكفر؛ كأن ينكر فريضة الزكاة، أو يقلل من شأن فريضة الحج، أو أن يهزأ من فريضة الحجاب، أو أن ينكر شيئا من سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.. إذا ما أراد أن يتوب وأن يرجع إلى الله؛  فإن عليه أن يعلن توبته، ويصحح مواقفه، ويجاهر بالتوبة كما كان يجاهر بالمعصية؛ فإن في ذلك تكفيرا له عن ذنوبه، وربما ردَّ بإعلان توبته أولئك الذين تبنوا فكرته، وانتهجوا نهجه، قال صلى الله عليه وسلم: “من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئا”، وقال: “من دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا”، فليعلن توبته، ولنا في هديه صلى الله عليه وسلم القدوة والمثل.  

وقد سجل لنا التاريخ أسماء علماء ومفكرين كبار نتفاخر بهم اليوم، كانوا بالأمس القريب أعداء الإسلام، فلما مَنَّ الله عليهم بتوبته، وفتح لهم أبواب رحمته وهداهم إلى الحق، سارعوا بإعادة طباعة كتبهم التي كانوا يحادون الله فيها، وصححوا أمرهم، ونقدوا أنفسهم، وعدلوا مسارهم، ورجعوا إلى الحق والصواب، ولم يمنعهم كبرهم أن يعلنوها لله خالصة: “كنا في الضلالة فمد الله لنا أطواق الهداية“، نعم تحولوا بفكرهم من ضيق العلمانية والماركسية والشيوعية واللينينية إلى سعة الإسلام، وأعلنوها بلا خجل: عدنا إلى الله.

وكم تركت توبة بعض الفنانين والفنانات ممن أسرفوا على أنفسهم كثيرا، وافتتن الناس بهم في حياة الناس من أثر! وكم أحيت توبتهم في قلوب الناس من أمل! فـ”لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار”.


القانون الثالث: منْ منَّ الله عليه بالتوبة فلا يغتر بها


وإن مما ابتلي به الراغبون في التوبة والعائدون إلى الله في أزماننا مرضا اسمه “غرور التوبة”، وهو من تلبيس إبليس للمسلم؛ فما أن يهتدي المسلم إلى طريق الله عز وجل، وما أن تعرف أقدامه الطريق إلى بيت الله، فيصلي الخمس في الجماعة (الأولى)، ويحرص على أداء نوافل الصلاة، ونوافل الصيام (الإثنين والخميس من كل أسبوع، أيام 13، 14، 15 من كل شهر عربي)، ويحرص على السنن الظاهرة… إلخ حتى يتسلل الغرور (غرور التوبة والطاعة) إلى قلبه.

فالتائب -العائد إلى الله- في أول عهده بالتوبة وفرحته بها يكون أقرب ما يكون من حافة الخطر؛ حيث يتربص له الشيطان ليفسد عليه توبته، فيزينها له، ويجملها في قلبه ويجعله يغتر بها.. نعم فإن غرور التوبة يشبه غرور التمادي في المعاصي؛ فكلاهما غرور، وكلاهما يقف خلفه الشيطان، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور: 21]، { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6]، بيد أن غرور التوبة أخطر؛ لأنه غرور قد لا يلحظه من الناس إلا نافذو البصيرة من أهل الإيمان من المربين الذين يعرفون الفارق الدقيق بين التوبة الصادقة والتوبة الزائفة.

فليحذر العائدون إلى الله من تلبيس إبليس بتقنيطهم من رحمة الله، وليعلموا أن “الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر”، و”إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها”، و{إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَّشَاءُ} [النساء:‏ ‏48]، و”للهُ أفرح بتوبة عبده من أحدكم بضالته فِي فلاة من الأرض عليها طعامه وشرابه”، ولينتبه أولئك العائدون إلى الله من الوقوع في حبائل الشيطان بالاغترار بتوبتهم، بالاطمئنان إلى الآخرة والأمن من مكر الله عز وجل، وليتعظ من قولة الصديق أبي بكر: “والله لو أن إحدى قدمي في الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله”؛ لأنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الكافرون، ولا يستحِ أولئك الذي كانوا يجاهرون الله بالمعصية أن يعلنوا توبتهم لله بلا مواربة، فـ”الرجوع إلى الحق فضيلة”.


همام عبد المعبود