في يوم التّاسع من شهر شوّال سنة عشر ومائة من الهجرة (١١٠هـ)، طوى الموتُ الإمام الجليل محمد بن سيرين (1)، فلم يُدفن يومئذ جسد يَبْلى، لكنْ دُفن ورع وزهد وفقه وعلم عظيم. كان -رحمه الله- إذا مرّ بالأسواق ورآه النّاس ذكروا الله وقيل كبّروا.

أمّا عن ورعه فاسمع هذه تُنبيك بالخبر: ذات مرّة اشترى زيتًا بأربعين ألفًا كان قد استدانها من النّاس، فلمّا فتح أحد زقاق الزّيت وجد فيه فأرًا ميتًا متفسّخًا، فقال: إنّ الزّيت كلّه كان في المعصرة في مكان واحد، وإنّ النّجاسة ليست خاصّة بهذا الزّيت دون سواه، وإن رددته للبائع بالعيب فربّما باعه للنّاس، فأراق الزّيت كلّه وخسر الأربعين ألفًا، ثمّ حُبس بهذا الدَّين.

ولم يمنعه التملّق أو الخوف من السّلطان أن يقول الحقّ الّذي علمه؛ فقد جاء في صفة الصّفوة أنّ ابن هبيرة بعث إليه وإلى الحسن والشّعبيّ، فلمّا دخلوا عليه قال لابن سيرين: يا أبا بكر ماذا رأيت منذ قربت من بابنا؟ قال رأيت ظلمًا فاشيًا، فغمزه ابن أخيه بمَنْكبه، فالتفت إليه ابن سيرين وقال: إنّك لست تُسْأل إنّما أُسْأل أنا!

فأرسل ابن هُبيرة إلى الحسن بأربعة آلاف، وإلى ابن سيرين بثلاث آلاف، وإلى الشّعبيّ بألفين، فأبى ابن سيرين أن يأخذها، فسألوه في ذلك، فقال: إنّما أعطاني على خير كان يظنّه بي، ولئن كنتُ كما ظنَّ بي فما ينبغي لي أن أقبل، وإن لم أكن كما ظنّ فبالحري أن لا يجوز لي أن أقبل.

قلتُ: وهذا أيضًا من ورعه الشّديد؛ فإنّ الإمامين الحسن والشّعبيّ لم يريا بأسًا في قبول الأموال، إلّا أنّ ورع إمامنا حال دون قبولها.

وكان عجيبًا في تأويل الرؤى، دخل عليه رجل فقال: رأيت كأن حمامة التقمت لؤلؤة، فخرجتْ منها أعظم ما كانت، ورأيتُ حمامةً أخرى التقمت لؤلؤة، فخرجتْ أصغر ممّا دخلتْ، ورأيت أخرى التقمت لؤلؤة، فخرجت كما دخلتْ.

فقال الإمام: أمّا الأولى: فذاك الحسن [البصريّ] يسمع الحديث فيُجوِّده بمنطقه، ويصل فيه من مواعظه، وأمّا التي صغرُت فأنا، أسمعُ الحديثَ فأُسْقط منه (لأنّه كان يرويه بالمعنى)، وأمّا الّتي خَرَجَتْ كما دخلت فقتادة، فهو أحفظ النّاس.
قلتُ: وهذا من إنصافه رحمه الله، فقد قالوا: إنّما يُعرف إنصاف الرّجل بثنائه على غيره، فتأمّل -رعاك الله- تأويل الإمام، لم يُنصف غيره فقط، بل صغّر من نفسه -وهو من هو- وأعظمَ من شأن الإمامين قتادة والحسن.

وكان -كما هو دأب الصّالحين- يذكر ذنوبه ولا ينساها ويعلمها غير جاهل بها، ويرى أنّه خسر الأربعين ألفا بسبب ذنب أذنبه مذ أربعين سنة، قال يومًا: إنّي لأعرف الذّنب الّذي حُمِل به علي الدَّيْن ما هو؛ قلتُ لرجل منذ أربعين سنة: يا مُفلس.

يقول الرّاوي: فحدّثت به أبا سليمان الدّارانيّ، فقال: قلَّت ذنوبهم فعرفوا من أين يُؤتون، وكثرت ذنوبي وذنوبك فليس ندري من أين نُؤتى!

أَنتبهتَ أنت إلى هذه، ذنب واحد أذنبه منذ أربعين حولًا وما زال يذكره، والله إنّي لا أذكر كم من الذّنوب أذنبتُ البارحة، اللهمّ اغفر ذنوبنا الّتي لا نستطيع لها عدًّا!

ورغم ما علمتَ من ورعه وصلاحه إلّا أنّهم رووا أنّه كان يضحك حتّى تدمع عيناه، رحمه الله وأناله رضاه وألحقنا به على خير.

اللهمّ إنّا نُشهدك حبَّه وحُبَّ عبادك الصّالحين، ونعلم أنّ أحدنا لا يساوي غرزة في نعل أحدهم ولا شَعْرة في صدره، لكنّنا نُحبّهم ونُجِلّهم لأنّهم مقدّمون عندك، فاحشرنا معهم ولا تحرمنا شرف رفقتهم.


(1) أبو بكر محمد بن سيرين التابعي البصري الأنصاري بالولاء، من أشهر العلماء والمحدثين، كان والده أبو عمرة «سيرين» مولى أنس بن مالك الأنصاري خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه لقاء مكاتبة جرت بينهما. ولد في البصرة في أواخر خلافة عثمان ( 33 هـ /653 م) ونشأ فيها، وترعرع في بيئتها العلمية، وتفقه على أيدي علمائها، وروى الحديث عن عدد من الصحابة والتابعين، وروى عنه الكثير من العلماء.ينسب له كتاب (تعبير الرؤيا ) ذكره ابن النديم، وهو غير (منتخب الكلام في تفسير الأحلام) المطبوع، المنسوب إليه أيضا، وليس له . توفي في البصرة عام ( 110هـ/729م).