وفي القرآن ألفاظ تعكس معنى واحدا في الظاهر، فإذا بحثنا عنها بإلقاء النظر إليها بالانتباه نجد الاختلاف بينها في الاستخدام، نحصل بعض التفاوت بينها في الاستعمال. كما ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز : ﴿اللّه لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم لا تأخذه سنةٌ ولا نومٌ﴾ فهنا، كلمتا “النوم”، و “السنة” متشابهان، كلمة “النوم” معروفة وهي تطلب معنى حالة من الحالات الإنسانية هي فتورٌ يعتري أعصاب الدّماغ من تعب إعمال الأعصاب ومن تصاعد الأبخرة البدنيّة النّاشئة عن الهضم والعمل العصبيّ، فيشتدّ عند مغيب الشّمس ومجيء الظّلمة فيطلب الدّماغ والجهاز العصبيّ الّذي يدبّره الدّماغ استراحةً طبيعيّةً فيغيب الحسّ شيئًا فشيئًا وتثقل حركة الأعضاء، ثمّ يغيب الحسّ إلى أن تسترجع الأعصاب نشاطها فتكون اليقظة. وكلمة “السِنة” هي تطلق على أول النوم. فهكذا يوجد في القرآن كثير من الألفاظ في هذا القبيل، من أمثالها القلب، والصدر، والفؤاد، فتعتني هذه الدراسة بالبحث عن الفرق بين هذه الكلمات المذكورة بالتفصيل بالآيات القرآنية.
الأول: القلب
القلب أداة توصِّل الإنسان إلى درجة الإنسانية، بها يشعر الآلام والأفراح، وبها يحس الأحزان والأطراب، فهو منبع المشاعر والأحاسيس، كلمة “القلب” تطلق على “تحويل الشيء عن وجهه”، وكما قال الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه “غريب المفردات” أن “قلب الإنسان قد سمي به لكثرة تقلبه بالقلب عن المعاني التي تختص به من الروح والعلم والشجاعة وغير ذلك”، وقد وورد ذكر “القلب” في القرآن الكريم 132 مرة في 14 صيغة هي ( قلب 5 ، القلب 1 ، قلبك 3 ، قلبه 8 ، قلبها 1 ، قلبي 1 ، قلبين 1 ، قلوب 15 ، القلوب 6 ، قلوبكما 1 ، قلوبكم 15 ، قلوبنا 6 ، قلوبهم 68 ، قلوبهن 1 ).
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى القلب بصيغة الجمع في سورة البقرة: ﴿خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰٓ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَٰوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، فهنا وقع الختم من الله على القلب والسمع والبصر، أي أن الله عز وجل حث على حصول العلم منذ بدئ نزول الوحي من أجل أن يفهم الإنسان قدرة الله الذي خلقه في أحسن تقويم فيثبت بذلك قدماه في طريق عبادة الله وحده، لذا سورة العلق ابتدأت بالأمر بالقراءة واختتمت بالأمر بالسجود، فهذه الثلاثة السمع والبصر والقلب تعد من مصادر العلم، أي من سبيل السمع والبصر يصل العلوم إلى القلب، فتُصدر منه الأفكار الجديدة، وتتولد منه المعاني الرائعة، فالقلب محل تكوين العلوم في خاطر الإنسان، لذلك قال سبحانه عن تنزيل الوحي إلى رسول الله ﷺ، ﴿نزل به الرّوح الأمين﴾ ﴿عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنذِرِينَ﴾ [الشّعراء: ١٩٣]، أي قد نزل بالقرآن الروح الأمين جبريل عليه السلام على قلب خير البشر، لأنه علم الهادي والهداية يهتدي به الإنسان إلى معرفة الله ونور الإسلام، فأخبر الله هذا العلم رسوله محمدا ﷺ بواسطة جبريل في قلبه.
قد قال صاحب مفاتيح الغيب في تفسير الآية ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ “يَدُلُّ عَلى أنَّ مَحَلَّ العِلْمِ هو القَلْبُ”، وقد استخدم الله كلمة القلب في مكان يدور حوله النقاش عن العلم، كقوله تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَآ﴾ وفي موضع آخر: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ فالقلب محل العقل والفقه، وعلى أساس هذا العقل والفقه وجد في قلبالإنسان الإيمان لذا ذكر الله جل وعلا ﴿كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْإِيمَٰنَ﴾ فهو محل الإيمان والاعتقاد أيضا، وقد يستقر القلب في الصدر كما قال تعالى ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى ٱلْأَبْصَٰرُ وَلَٰكِن تَعْمَى ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ﴾
الثاني: الفؤاد
ورد ذكر ( الفؤاد ) في القرآن الكريم 16 مرة في 6 صيغ هي بعدد المرات ( الفؤاد 2 ، فؤاد 1 ، فؤادك 2 ، أفئدة 3 ، الأفئدة 5 ، أفئدتهم 3 ). فالفؤاد مشتق من الفأد والذي يعني كما قاله ابن منظور في “لسان العرب” الشواء ، فيقولون فأد اللحم في النار ، أي شواه، قد استخدم الله في القرآن الكريم كلمة “الفؤاد” بالاستناد إلى السمع والبصر ﴿وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْـًٔا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ فكلمة “الفؤاد” تطلق على “إنضاج الشيء” فذكر الله الفؤاد لأنه يقوم بعملية التحليل مما يكسب الإنسان من العلوم بطريقة السمع والبصر، فحينما تعرض الفكرة على الإنسان ، فإن أول من يتعامل معها بالتفكير وبالبحث هو الفؤاد ، حتى إذا اقتنع الإنسان بها دخلت إلى القلب واستقرت فصارت عقيدة راسخة . وهذا يعني أن الفؤاد هو الذي يستقبل الواقع الجديد في كل أمر يعرض للإنسان ، وكل أمر يعرض له فإنه يدخل إلى الفؤاد من باب من أبواب الحس كالسمع والبصر حتى إذا عقله الفؤاد وقبله دخل إلى القلب وصار عقيدة راسخة ، أو إذا رفضه فلم يستقر في قلبه،
﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَٰرِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِۦ لَوْلَآ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ﴾ وهذه الآية الكريمة الوحيدة التي جمعت الفؤاد والقلب معاً ، ونجد ما قلناه عن معنى الفؤاد ومعنى القلب واضحاً جداً فيها ، فالفؤاد هو مكان التفاعل الفكري الأولي مع الواقع ، والقلب هو مكان الأفكار والعقائد التي ترسخ في العقل بعد تمحيصها بالفؤاد،
﴿وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنۢبَآءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِۦ فُؤَادَكَ﴾، والتثبيت هنا هو للفؤاد لكي يستقبل الأمور بروية وثبات لأنه معرّض للتأثر بالمعطيات المختلفة كما حدث لأم موسى فهذه الآية من سورة هود جاءت بعد أن قص الله تعالى على رسوله ﷺ قصص عديد من الأنبياء السابقين وكيف صبروا على ما عانو من المصائب والأذى من خلال دعوتهم أقوامهم ، وفي ذلك (تثبيت لفؤاده) وجعله صابرا علىمواجهة عناد الكافرين. ولم يرد التثبيت للقلوب بل ورد في شأنها الربط على ما فيها من عقيدة إيمانية لكي تظل راسخة، فأن الفؤاد ليس عضواً مستقلاً من أعضاء الجسم المعروفة ، وإنما هو تفاعلات كيميائية حيوية تحصل في الدماغ عند تفكّر الإنسان في ما تظهر له من أمور.
الثالث: الصدر
كما رصد الإمام ابن عاشور في تفسيره أن ”الصّدور“ أطلق على الضّمائر لأنّ الصّدر في كلام العرب يطلق على الإحساس الباطنيّ، وفي الحديث «الإثم ما حاك في صدرك» ، ولمعرفة الفرق بين القلب والصدر نبحث في الآية التي ذُكِرَت كلمتا “القلب” و “الصدر” معا كقوله تعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِىَ ٱللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ ۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ﴾ فهنا خص الله بذكر الابتلاء بالصدر وتفرد بذكر التمحيص بالقلب، وقال عن هذا الفرق صاحب التحرير والتنوير: “وعدّي إلى الصّدور فعل الابتلاء لأنّه اختبار الأخلاق والضّمائر: ما فيها من خيرٍ وشرٍّ، وليتميّز ما في النّفس. وعدّي إلى القلوب فعل التّمحيص لأنّ الظّنون والعقائد محتاجةٌ إلى التّمحيص لتكون مصدر كلّ خيرٍ”، فإن المعاني التي حملها تعبير “الصدر” تنحصر في معنيين اثنين هما معنى مستودع الأسرار والنيّة ، ومعنى الحالة النفسية: فنذكر بعض الآيات التي جاءت كلمة الصدر بمعنى مستودع النية والأسرار: ﴿أَوَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ ٱلْعَٰلَمِينَ﴾، وقال الله أيضا: ﴿يَعْلَمُ خَآئِنَةَ ٱلْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ٱلصُّدُورُ﴾ .
وفي موضع آخر: ﴿قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ ۗ﴾، فنسرد هنا بعضا من الآيات التي احتوت كلمة “الصدر” على معنى لحالة النفسية: فهي ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌۢ بَعْضَ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيْكَ وَضَآئِقٌۢ بِهِۦ صَدْرُكَ﴾، وفي آية أخرى ﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُۥ يَجْعَلْ صَدْرَهُۥ ضَيِّقًا﴾ وفي مكان آخر﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى ٱلصُّدُورِ﴾، وكذلك الصدر هو محل الإسلام ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُۥ يَشْرَحْ صَدْرَهُۥ لِلْإِسْلَٰمِ﴾ .
وبالاقتصار، أن القلب هو مكان استقرار العقائد الراسخة عند الإنسان والفؤاد هو مكان التفاعل الفكريّ الأوليّ مع ما يعرض للإنسان من أمور، والصدر هو مكان النوايا الخفية ومكان تفاعل الحالة النفسية عند الإنسان، فالله أعلم وهو الموفق.