لكل حضارة مفاهيم أساس تقوم عليها، وبها تتقوم مسالك أتباعها وتتكون، ومن خلالها يعيشون وينتجون حضارتهم واجتماعهم الإنساني. فالمفاهيم كما تقول هبة رؤوف بحق هي المرآة التي تعكس النسق الفكري بعد تشكله، وهي مدخل تغيير الواقع واعادة تشكيله، وهي الأدوات الضرورية لفهم الواقع وتصوره ثم التفاعل مع العالم وفق هذا البناء الفكري بمحاولة الحفاظ على استقراره أو تغييره، أو تحديد الثابت والمتغير والعلاقة بينهما.

وعلى الرغم من كون الإسلام قد رسم أفضل مباديء الحياة الإجتماعية. إلا أن  مسلم اليوم- لا يسعه أن ينكر شيوع حالة فقد الإطمئنان في نفسه وعجزه عن مصارعة مشكلات حياته الاقتصادية، بالرغم من تحسن الأحوال المعيشية لغالبية البلدان المسلمة في العقود الماضية.

ويرجع جانب كبير وأساسي من جوانب هذه المشكلات الى “تعضية القرآن” التي أنتجت مفاهيم جزأت الإسلام، فأظهرت البعض، وأخفت الكثير، وشوهت المهم، وأخرت الأهم. مما يجعل الحاجة ماسة وملحة لمراجعات ومعاناة فكرية عميقة تعيد للمفاهيم  القرآنية روحها حتى تسترد الأمة مسارها الذي انحرفت عنه كثيرا.

ومفهوم المال في الإسلام، باعتباره مكون أساس ومقوم رئيس من مقومات الحياة، أصابه ما أصاب كثير من المفاهيم القرآنية، فتشوه وانقلب الى مفهوم مادي يولد الطغيان والفساد، بدلا عن العمران والاستقامة.

فقد رسم القرآن الحياة الإقتصادية ووزنها بميزان الاعتدال  الذي يجلب به الرزق وينفق، فاستبدلناه بموازين السحت والربا والاسراف والبخل،  فانتقلنا من “خذ من أموالنا ما شئت واترك منها ما شئت، فإن ما أخذت أحب إلينا مما تركت”، ومن” وكلوا مما في الأرض حلالا طيبا”  الي “أصلواتك تأمر أن نفعل في أموالنا ما نشاء” و”البيع مثل الربا”.

وغالب أبناء المسلمين أمس واليوم تشوهت لديهم النظرة للمال لأسباب ثقافية واجتماعية واقتصادية ونفسية لا مجال للتفصيل فيها هنا. ونتيجة لهذا الفهم المشوه لدور ووظيفة المال في الحياة، أساءوا استخدام المال والتعامل معه في معاملاتهم اليومية، مما عاد على المسألة الحضارية بكثير من الضرر.

 والصورة التي رسمت للمال في الخطاب الديني والواقع الذي يعيشه الناس، هي صورة مشوهة للأصل القرآني، ثم زاد الصورة تشويها تلك الألوان الزاهية الزائفة التي جلبتها الرأسمالية وبرجوازيتها في حياة المسلمين، عبر خلق وظائف مخربة للمال في كل مناحي الحياة.

ولم يعد من المجدي أن نشغل أنفسنا ونخدعها بمقولات تمجيدية من نوع أن: نظام المال في الإسلام نظام فريد في بابه، أو أنه الملاذ الآمن الوحيد الذي يحمي البشرية من مفاسد الأنظمة الوضعية دون أن نطبق ذلك في واقعنا معاملات ملموسة ونظم مطبقة وقوانين محترمة وسلوكيات متبعة، لأن هذه الأنظمة الوضعية التي نقارنها بنظامنا الإسلامي، تعمل ليل نهار لتنهي الفقر، وتقلل الانقسام الاجتماعي والتفاوت بين طبقات مجتمعاتها بشتى السبل، وكذلك لأن هذا الكلام لم يعد لائقا بنا ولا يدافع عن ديننا ولا يؤثر أدنى تأثير في المسلم المعاصر. فوسط هذا التفاوت الواضح في المعيشة بين أبناء الأمة لا يجوز أن ننمق الكلمات دون معنى حقيقي لها.

من أين نبدأ ؟

بداية، أعتقد أن ما يجب أن تتوجه إليه جهودنا أفرادا ومؤسسات اليوم هو البحث عن إجابات صحيحة لأسئلة من نوعية: كيف يمكن أن تتكافأ الفرص الاقتصادية بين أبناء مجتمعاتنا؟ وكيف نتخلص من الربا والسحت والاحتكار والبخل والفقر؟ وكيف تنجو أمتنا من براثن سيطرة حفنة قليلة استولت بالتدريج على وسائل مالية هائلة، والجزء الأكبر من الأرزاق والخيرات العمومية التي يفترض أن تكون ملكا للجميع، وتركت السواد الأعظم من أبناء الامة يرتع في فقر مدقع لا نهاية له؟

 وكيف نوقف طموح جامح لأجيال جديدة من الشباب والفقراء، يسعون لنفس ما سعت اليه هذه الحفنة القليلة فتحولت حياة الأمة الى صراع ضار مضر يأكل قيمها ومفاهيمها ويهوي بها في قاع سحيق لا قرار له.وكيف نعيد بناء جيل قرآني يعيد الحياة لمفهوم المال الذي بنى عمراننا الحضاري.وكيف نعيد لأموالنا التي جعلها الله لنا قياما دورها لتكون قوة تضاف لأمتنا، لا حربا عليها واستنزافا لطاقاتها، وإفقارا لإنسانها. وكرائم اموالنا أين وكيف نضعها في أماكنها الصحيحة لتصنع بنائنا الجديد؟ وكيف تكون أموالنا قارب نجاة لكل إنسان مسلم تجعله جزءا من تيار الحياة في المجتمع، لا عالة عليه.

 وكيف يمكننا أن نكثر من أمثال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان ومن قبلهم الصديق أبوبكر وعمر بن الخطاب وقبلهم جميعا خديجة بنت خويلد، هؤلاء الذين قام الإسلام على سخائهم وعطائهم.وكيف نغلق كل منافذ الشر ومناهج التعليم القاصرة وطرق التربية الجائرة، وأنواع المعاملات المخزية التي تنتج أمثال ثعلبة أو قارون في مجتمعاتنا.فالأول، إذا انعتق من دائرة الفقر لا نرى له أثرا بين الفقراء أو من أجلهم، والثاني لايجيد سوى الخروج على أبناء أمته في زينته يضلهم ويضيع ثروات الأمة في بهرج زائف يشتريه بأي ثمن، ولو كان الثمن فناء ثروات أمته.

 ولعل المهمة الأساسية لهذا المقال، هي التأكيد على ضرورة فتح مجال البحث وتجديده في مسألة المال وعلاقته بشهودنا الحضاري ونهضتنا المأمولة، والتخلص من التشويه الكبير الذي تعرض له هذا المفهوم، والدور الخطير الذي لعبه-ومازال يلعبه- المال السائب والغائب في تأخرنا واستعمارنا فالمال مال الله وحمايته ممن يملكه ومن غير مالكه حماية للحياة ذاتها ومقصد شرعي أساسي في الإسلام.

ولن يكون ذلك إلا بدراسات جادة تحفر إلى الجذور لتحدد بدايات العطب، وأول خيوط المشكلة، ثم نعيد عرضها على القرآن والسنة الصحيحة والتطبيقات الراشدة في تاريخنا متخذين من الأفكار والمؤسسات والقدوات البارزة في زماننا، في توظيفها الحضاري للمال، نموذجا نصطحبه معنا ونحن نعيد بناء المفهوم نظريا وعمليا في نفوس أبناء الأمة وفي مؤسساتها وفي مناهج تعليمها وتوجيهات ثقافتها التي تبثها مختلف مؤسسات الأمة الحضارية.

 فهذه العودة للمنابع الأولى مع استصحاب عبرة وخبرة التاريخ، ودرس الحاضر، قادرة-إنشاء الله- على تحديد دقيق للعلاقة بين المال والحضارة، وإعادة المفهوم القرآني للمال كمكون أساس في بناء الحضارة، تلك العلاقة التي فقدت مع الزمن ارتباطها الايجابي الذي كان ركنا أصيلا في بناء حضارتنا.

 
خطوات على الطريق

المسار الذي مرت به أمتنا في رحلتها مع المال وتعرجاته وصعوده وهبوطه تركت بصماتها على تاريخنا وحاضرنا بما لا تخطئه عين ناظر. وهو الأمر الذي يوحي بإعادة التفكير في مفهوم المال في ثلاثة اتجاهات:

الأول: يرتبط بتجديد ايماننا ومفهومنا القرآني للمال، وتزويده بخبراتنا وخبرات عالمنا ليتجدد دون أن يتبدد.

الثاني: يرتبط بعمليات تشغيلية جديدة للمفهوم على أرض الواقع، يلتقطها بسهولة واقتناع الفاعلون من الأغنياء والفقراء ويتجاوبون معها بشكل خلاق يعيد للمفهوم روحه ويكسبه تجدده الحقيقي.

الثالث: أن مفهوم المال لا يمكن أن يتعزز دوره ويرسخ في القلوب والعقول والمؤسسات والتصرفات اليومية دون طليعة ملتزمة بالمبدأ القرآني في مسألة الأموال، يتحدد سلوكها ويتقوم حيثما كانت مصلحة الأمة. وهذه الطليعة هي شرط وضرورة للتحول المفهومي المنشود فيما يتعلق بوظيفة المال.

تحتاج أمتنا في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخها أن تتسع دائرة الحوارات والمناقشات حول مفاهيمها وقضاياها الرئيسة، وفي القلب منها مفهوم وقضية المال ودوره في بناء الحضارة، وصولا إلى تصحيح مفاهيمها من كل تشوهات الدهرانية.