وُصف الشاعر العربي (ابن الرومي) في التاريخ بالشاعر الذي قتله لسانه! حيث قام بشتم أحد وزراء المعتضد في إحدى قصائده، فدعاه الوزير إلى بيته، ودسّ له السم في كعكة، ولما أكلها وشعر بدنو الموت، قام وهو يتلوّى من الألم، فسأله الوزير: إلى أين؟ فأجابه ابن الرومي: إلى حيث بعثتني، فقال الوزير: سلِّم لي على والدي، فأجاب ابن الرومي: ليس طريقي إلى النار!
وهذا ابن الرومي الذي أخذه لسانه إلى الهلاك، إلا أنه لم يترك سخريته ولم يقصر لسانه حتى وهو يقترب من القبر، وقد قال المؤرخون إنه لو قصّر لسانه قليلاً لربما نجا! فاللسان؛ قطعة من اللحم عجيبة التركيب، ولا يكون طوله أكثر من تسعة سنتيميتر! وليس له عظم، إلا أن له دورًا يفوق ما يقوم به جميع أعضاء الجسم! وهو العضو الوحيد الصغير الذي يتسبب في هلاك الشخص وذهاب حياته!
ولربما أخطأ زهير بن أبي سلمى حين قال “لسان الفتى نصف ونصف فؤاده”، بل اللسان هو الكل؛ أي هو الإنسان بأكمله، ولذلك قال الإمام الماوردي “اللسان عنوان الإنسان”!
وقد جاء مرّةً شخصٌ إلى الفيلسوف اليوناني سقراط، فقال له: “تكلم حتى أراك”، لأن اللسان مع ما يخرج منه من الكلمات هو الذي يعيّن شخصية الإنسان وحاضره ومستقبله، كما أشار إليه النبي ﷺ بقوله [وهل يكبُّ الناسَ في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم]!
لماذا يُعرف الإنسان بلسانه، مع أن له الحواس الخمسة، وكلها يتلقّى بها المعارف والعلوم والأخبار؟! لأن الإنسان الذي يقبل المعارف بالحواس الخمسة جعل واحدا منها –اللسان- لينقلها إلى الآخرين!
لماذا خمس حواس للإدراك، وحاسة واحدة – اللسان- للإعلام؟! إن هذا النظام الإلهي يعطي رسالة عظيمة، تقول إن عليك ألا تنقل كل ما تسمع وترى وتحس! بل خُمسَ ما تقبله ربما يناسب أن يُنقل إلى الآخرين!
ربما أنت تسمع وترى أشياء عَرَضاً، فعليك ألا تقف معها، ﴿ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾، فلا يليق بك أن تتحدث عن كل ما تحسه وتسمعه! كما قال النبي ﷺ [كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ] لأنه سيأتي يوم يتحدث فيه ما لا يتحدث الآن ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾.
ولكل عضو مكانه ودوره، فمثلاً نأخذ الأذن التي هي إحدى محلات الإدراك، أنظروا إليها كيف صنعها الله! لها صورة غربال، أي فمها كبير ولكنها تبدأ تصغر حين تصل إلى الداخل، لأن الأذن تؤدي مهمّة الغربال، لا تصغي إلى كل ما يحدث حول الإنسان! كقول الله تعالى في ثنائه على المؤمن ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾؛ لماذا يُعرِضُ المؤمن عن سماع اللغو؟ لأنه قد ثبت علمياً أن هناك تلازم بين الأذن واللسان؛ والذي لا يسمع لا يتكلم! ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾! والذي يسمع كثيراً يتثرثر كثيراً! فاللسان يثرثر حين تكون له آذان صاغية! ﴿ لوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ﴾، فإن الإصغاء إلى غير ما يحتاج إليه المرءُ ظلم مثل عدم الإصغاء إلى ما يحتاج إليه!
أنظروا إلى مواضع الأذن واللسان! فإن الله جعل بينهما بعدًا ومسافةً، وإذا فقد هذا البعد سيَهلك الإنسانُ، ويُهلك المجتمعَ! ومعنا حادثة تعرضت لها الأمة في عصر النبي ﷺ، ألا وهي حادثة الإفك الذي رمى به الأعداء أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فسببه كان -كما يقول القرآن- تلقي الأخبار باللسان ﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ. وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾.
فالتلقي يجب أن يكون بالأذن، ولكن بعض الناس يلغون المسافة بين الأذن واللسان، ويتلقون الأخبار بألستنهم ويروجونها بأفواهم! اللسان لا يجوز له أن يقبل ما في اللسان مباشرة، بل الأذن تقبله وتغربله وبعده تبدأ مهمة اللسان، لأن اللسان عضو ليس له عظم، يتلوى كما يشاء، وهو وعاء يخرج منه الصدق والكذب والغيبة والنميمة والبهتان والقذف وغيره!!
والمؤمن له أذن كما له لسان، ولكن على صفة حددها القرآن، فحين سمى المنافقون النبي ﷺ بالأذن؛ أي الذي يصغي إلى جميع ما حوله، أضاف الله عز وجل إليه صفة ﴿ أُذُنُ خَيْرٍ﴾. هذا هو المؤمن، أي أذنُ خير للآخرين! لأن “أذن خير” هي التي تصنع “لسان صدق” أثنى به القرآن على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ﴿ وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ﴾.