يمضي الإنسان عمره متنقلاً في مسارب الحياة هنا وهناك، ساعة على جادة الحق، وساعة تميل به النفس والهوى فيأخذ ذات الشمال، فيظل سائراً على غير هدى، لا يدري إلى أين ستأخذه الطريق، وقد لا يبالي بما أمامه من مهالك.!
والموفق يروح ويغدو بين ظلال وآرفة، وأشجار مثمرة، وماء زلال، لا يكدّر خاطره همٌ، ولا يعوقه عن سيره عارض ولا غمُّ.!
فكيف يعرض له هَمٌ وهو يملك أغلى الكنوز على الإطلاق، وكيف يطرُقُ قلبه غمٌ ومعه كنـز لا يقوّم بالأثمان، كنـز لو وضعت الدنيا بما فيها مضاعفة مئة مرة لما ساوت منه أدنى مثقال!
إنه أعظم الكنوز، وأفضل شيء في الوجود! من تحلى به فقد تحلى بأجمل زينة وأغلاها، ومن أحرز منه نصيبه فهو أسعد الناس، وأهناها!
هذا الكنـز الثمين لا ينال بالكد والذكاء، ولكنه يوهب منحة وتفضلاً، وسيوفق له من أراده بصدق وطلبه بعزم وجد: إنه الإيمان والإخلاص!
فتأمل أيها الموفق قدر تلك النعمة التي منحك الله إياها بلا استحقاق منك ولا عناء، ثم انظر إلى بعض آثارها عليك:
- إن الحسنة تضاعف لك بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، قال رسول الله ﷺ: “إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها”.( البخاري:44ومسلم:129)
- يُكفِّر الله عنك ذنوبك بما يصيبك في الدنيا من المصائب والآفات، كما أخبر بذلك رسول الله ﷺ في قوله:”ما يصيب المسلم من نَصبٍ ولا وصَبٍ، ولا هَمٍّ ولا حَزَنٍ، ولا أذى ولا غَمٍّ حتى الشوكة يُشاكها إلا كفَّرَ الله بها من خطاياه”. ( البخاري:5641) فـ”التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب، فإنه يتضمن من محبة الله تعالى وإجلاله وتعظيمه وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض”. (ابن القيم إغاثة اللهفان 106/1-ط المجمع). قال الله تعالى في الحديث القدسي: “يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة. (الترمذي: 3540) قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:”هذا في حق من قالها صادقاً مخلصاً فيها وأتى حقها ولم يصر على سيئة أصلاً. وفي حق من قالها وأتى إلى الله عز وجل تائباً من خطاياه غير مُصِرٍ على سيئةٍ وقد تاب وأقلع، فخطاياه كلها مرجوحة، وكلها ساقطةٌ بسبب إخلاصه في هذه الكلمة التي تضمن توبته من جميع الذنوب، وإقلاعه من جميع الذنوب. فالتوحيد هو أعظم الحسنات وأعظم الواجبات، وهو أعظم الأعمال تكفيراً للذنوب، فهو رأس الأعمال وأهمها وأوجبها..”. ( ينظر التعليقات البازية على كتاب التوحيد ص:4) وقال ابن رجب رحمه الله:” فإن كمُل توحيد العبد وإخلاصه لله فيه وقام بشروطه كلها بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت؛ أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها، ومنعه من دخول النار بالكلية. فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبُه أخرجت منه كل ما سوى الله محبةً وتعظيماً وإجلالاً ومهابةً وخشيةً ورجاءً وتوكلاً، وحينئذ تُحرَقُ ذنُوبُه وخطاياه كلها، ولو كانت مثل زبد البحر”. (جامع العلوم والحكم: 417/٢).
- ومن آثار الإيمان: أن يعيش المؤمن في الدنيا مطمئن البال منشرح الصدر كما وعد الله بذلك في قوله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقوله سبحانه:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}.
- أن روح المؤمن بعد الموت تنعم في الجنة إلى يوم القيامة، قال رسول الله ﷺ:” نسمة المؤمن طائر يعلق – أي: يأكل- في شجر الجنة حتى يرجعه إلى جسده يوم القيامة. (مالك:ج240/2, وأحمد 455/3 وصححه ابن كثير في تفسيره: 262/3).
- يسعد المخلص في إيمانه بشفاعة النبي ﷺ. قال عليه الصلاة والسلام: “أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة, من قال: لا إله إلا الله, خالصاً من قلبه أو نفسه. (البخاري:99)
- أن الله يُحرّم المؤمنيَن على النار قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}. وقال النبي ﷺ:” ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار”. ( البخاري: 128ومسلم: 32)
- ولهم مع ذلك البشارة بالنعيم المقيم والفوز العظيم، قال الله عـز وجل:{ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُون}. وقال سبحانه: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
- أن الإيمان هو أجَلُّ النعم وأصلها، وهو السعادة بعينها، والسبب الجالب لنعم الدنيا ونعيم الآخرة، قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}.أي: بسبب إيمانهم ينالون ذلك.
- ولأهل الإيمان نعيم فوق ذلك لا تبلغه الإشارة، ولا تصفه العبارة، إذا ناله المؤمنون لا يلتفتون إلى سواه، فهو أعظم التكريم.
- إنه التمتع بالنظر إلى وجه الله عز وجل في الجنة، فعن صهيب رضي الله عنه قال : قرأ رسول الله ﷺ هذه الآية{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند ربكم موعداً يريد أن ينجزكموه، قالوا: ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار، قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فو الله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقَرَّ لأعينهم. ( مسلم: 181, والنسائي في التفسير: 254 واللفظ له , والترمذي:2552,وابن ماجه:187)
فلعلك يا من أنعم الله عليه بنعمة الإيمان، أن تدرك قيمته، وتصونه عما يناقضه أو ينقصه. لا أظن عاقلاً يفرط في هذا الكنـز الثمين، وقد عرف ما يعود عليه من الأرباح.
أخي المؤمن!
تذكر أن هنالك آفات خطيرة تعرض لكنـزك وتضعف قيمته، وقد تبطلها: فاحفظ إيمانك أن يصاب بشيء من تلك العوارض والمؤثرات، وهي:
- الأول: وهو أخطرها، يحبط العمل ويُضادّ الإيمان، ويحرم صاحبه الجنة ويوجب له الخلود في النار: إنه الشرك بالله, قال عز وجل:{ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}. وفي الحديث القدسي:” من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه”.(مسلم :2985)
- الثاني: الرياء، مرض المنافقين الذي أوردهم الدرك الأسفل من النار، قال الله عنهم:{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا}.
- الثالث: البدعة، فمن ابتدع عملاً أو تعبّد بما لم يشرعه الله فقد أتعب نفسه في الباطل، وضل عن الصراط المستقيم، وقد حذر النبي ﷺ من ذلك فقال:”من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد”.(مسلم: 459٠). وقال:”كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة . ( أبو داود:4609) فهذه الآفات الثلاث من مكائد عدوك الأول ودسائسه، فإنه يحاول جاهداً أن يسلبك كنـزك، ويسعى ليفسد عليك إيمانك، فيغويك ويرديك. وقد أقسم الخبيث على الكيد لك كما أخبر الله عنه أنه:{ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}. ولكن من فضل الله أنه لن يخلص إليك شيءٌ من شره متى استعذت بالله منه، وتفقدت كنـزك كل حين، وجعلته في حصن حصين، وأعددت له حارساً أميناً لا يغفل ولا ينام، أتدري من هذا الحارس ؟ إنه ذكر الله سبحانه وتعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}، وقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}، فجلاء القلب بذكر الله,{ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
- والرابع: سائر الذنوب والخطايا من الكبائر وما دونها، فإنها تدنس القلب وتظلِمه كما تُدنس الأوساخُ زجاجة المصباح فيضعُفُ نورُه. قال رسول الله ﷺ:”إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صُقِل قلبه. فإن زاد زادت، فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه:{كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}”. ( الترمذي: 3334, والنسائي في التفسير: 678, وابن ماجه: 4244)
فاتق الله أيها المؤمن في إيمانك، واشكر ربك على نعمة الإيمان بالاجتهاد في الأعمال الصالحة الخالصة لوجه الله تعالى ثم أبشر بنعيم لا يخطر لك على بال. وفقني الله وإياك لما يحب ويرضى.