تباركَ الذي خلقَ الإنسانَ من طينٍ لازِب، وسخّرهُ في الأرضِ عبدًا مُطيعًا وألانَ لهُ المواهِب، ورزقهُ من النعمِ والأفضالِ والطيّباتِ ما لا يُعَدُّ ولا يُحصى، وكان من أعظم نعمِ المنّانِ عليه أن جعل عليهِ شكرَ الأفضالِ
( واجب ).. فهنيئًا لمن جعل اللهَ لهُ مقصودًا، ورضاهُ مطلوبًا، وصيّرَ الوصلَ به وإليهِ من أسمى المطالب.. وبؤسًا لمن نسيَ الرحمنَ والآخرةَ، وصارَ عبدًا ذليلًا لأهوائهِ ومطامعهِ، وأضحى أسيرًا للدنيا ورِضا طلّابِها، وعبدَ النفسَ وصيّرَ السجودَ لها من أرقى المكاسِب!..
سبحانهُ ما أعظمهُ وأكرمهُ وأجلّهُ وأحكمه؛ إذ خلقَ الإنسانَ من صلصالٍ كالفخّار؛ ليعلمَ أنّهُ مهما صالَ ومهما جالَ، ومهما ارتفعَ ورقيَ وعَلا، سيظلُّ محكومًا بأمرِ الحكَم، مرتبطًا بأصلٍ واحدٍ بسيطٍ أنشأهُ منهُ وسيعيدُهُ إليه، وليتذكّر دومًا مهما نسيَ ومهما غفلَ، ومهما جهلَ أو تجاهل، وعلمَ أو تعالم، بأنّهُ { لم يكن شيئًا مذكورا }، وإن تعالى وتغطرسَ وتكبّرَ، وعلى خلقِ اللهِ تجبّر، وإن تجرّأَ بتعاليهِ على ربِّ السماء؛ ليطاولَ بهذا – واهمًا – من خلقهُ وسوّاهُ في علاه، وجعل له السمعَ والبصرَ والفؤادَ مسخّرا، وجعلهُ هو نفسه مسخّرا لأجلِ الغايةِ العظمى التي خلق اللهُ الخلق لأجلِها؛ فهو عائدٌ إلى اللهِ معروضٌ عليه لا محالة، ومقرٌّ بربوبيّتهِ عاجلًا أو آجلا.
فتعالى اللهُ عزّ وجلّ؛ إذ برأَ للإنسانِ النوايا ومقاصدَ الأعمال، وحجبَ السريرةَ وأخفاها عن الناسِ واطّلعَ عليها بعلمهِ الواسع؛ فكانت خيرَ ما تنجلي بهِ الأقوالُ وتنطقُ وتتُرجَمُ وتبين، فإن نطقت الألسنُ صادقةً أو كذبت، فلا يشفعُ شافعٌ للإنسانِ إذ ذاكَ إلاّ من بعدِ أن يأذن الرحمن ويرضى.. ولا يرضى الرحمنُ ولا يُقبَل لديه من قولٍ ولا عملٍ إلاّ ويسبقُ فيهِ صدقُ نيّةٍ وخيرُ سريرةٍ وحسنُ مقاصد، ولا تطغى إلاّ مشيئته وإرادته الغالبة على كلّ مشيئةٍ وإرادة.. فلولا رحمة اللهِ لما دخل الجنّة نبيٌّ، ولا مبعوثٌ، ولا عاملٌ بهمّتهِ وجهدهِ وعمله، إنّما هي رحمةُ اللهِ التي حفّت بالإنسان الذي توجّه بإرادته وكلّيته ومشيئته إلى الله وسلّمها لهُ وحده، وتوكّل عليه في كلّ أموره واستند إليه مسلّمًا آمنًا، مؤمنًا مطمئنّا، فاكتنفتهُ عنايةُ اللهِ ورعايتُه، وساندهُ اللهُ بمعيّتهِ ورحمته، وأدخلهُ بها الجنّة بلا حساب ولا عتاب، لأنّه اطّلع على خفايا صدرهِ المكنونةِ التي لا يطّلعُ عليها إيّاه.. فهو الأعلم بالخفايا والبواطنِ والقلوبِ والأسرار، وهو الذي لا تخفى عليه خافية، وإن خفيت عن عيونِ الناسِ أجمعين خفايا وبواطنَ سُفلى تهذّبت بخطوطِ الظواهر، وتشذبّت بخيوطِ القول، وتزيّنت بجواهرِ الصورة، وتقوّمت بظلالِ الخلُقِ الزاحفِ والزائف، في حين انعكست وتجلّت وارتسمت ظاهرةً مرئيّةً، واضحةً غير مخفيّةٍ عن أصحابِ البصيرةِ النيّرة، والأفئدةِ الطاهرةِ الناصعة، الساميةِ العالية، المرتفعةِ أبدًا إلى العلياءِ في مرقاها، الواضحةِ وضوحَ الشمسِ في رابعةِ النهار، التي استنارت بهديِ اللهِ وهديِ نبيّهِ الأكرم، المتحلّي بالنفسِ الزكيّة، والخلُقِ القويم، والنيّة الطيّبةِ الطاهرة المحبّة للخيرِ والخيّرين، التي تبتغي الخيرَ والهدايةَ، والرشدَ والفوزَ، والتقدّمَ والنجاحَ والفلاحَ لكلّ مسلمٍ على أرضِ البسيطة؛ بل ولكلّ إنسانٍ لم يتسنَّ لهُ أن يتمتّعَ بعد ويرى بنورِ الهدايةِ والإيمانِ والتقوى والرشاد.
من هنا كان الفلاحُ في الدارين لمن اختارَ الله وأقبلَ عليه، وقدّمهُ على كلّ ما يسعى إليهِ، وأعرضَ عمّا سواه، وباعَ الدنيا وطلّابها ليشتري الآخرةَ ومن أرادَ اللهَ وما يريد، عالمًا أنّه إن يرد ما أراد الله أعطاهُ الله فوق ما يريد وأطيبَ ممّا يسعى إليهِ بإرادتهِ ويريد، وحرّرهُ من أسرِ الدنيا ورباطِها وجعلهُ في نعيمٍ زاخرٍ واسع، وأنسٍ دائمٍ لا يزول.. جلّ اللهُ في علاه، وتباركَ من كريمٍ منعمٍ متفضّل، عادلٍ لا يظلمُ مثقالَ ذرّة، فإن ظُلِمَ وليُّه ومريدُهُ آنئذٍ ردّ إليه اللهُ مظالمه في الدنيا قبل الآخرة، وأرجعها لهُ عبرَ طرقاتٍ كثيرةٍ وسبلٍ هيّنة، سخّرها لهُ ومنّ بها عليه، لتكونَ لهُ خيرَ الداعمِ والصاحبِ، ومن أعظمها وأقواها سهامُ الدعاءِ التي سخّرها لهُ سلاحًا يتقوّى بهِ إذا ما بُغي عليه، ويصوّبهُ في جنحِ الليل وعندَ سكناتِ السحَر، ليكونَ رصاصةً تخترقُ قلوبَ الظالمين المجرمين، ودعاةِ الباطلِ المعقودِ في شدّةٍ وإصرارٍ وإحكام، والتفافٍ متداخلٍ متشابكٍ لا يفكُّ عقدهُ بيسرٍ ويعرّيهِ من رداءِ الحقّ الزائفِ الذي يرتديهِ؛ ليصيرِ خواءً وهباءً تذروهُ الرياح، إلاّ الأصفياءُ المصطفون المتّصلون باللهِ حقًّا وصدقًا.
سبحانهُ جلّ في عُلاه.. هل من إلهٍ غيرهُ يبرأُ الروحَ ويعلمُ أسرارها وخفاياها، ويحيطُ علمهُ بأدقّ خباياها؟ فعلمُ الروحِ لهُ ومنه، لا أحد غيره مطّلعٌ عليه، إنّما أطلعَ الإنسان على بعضِ حصادِ هذه الروحِ وطرُقِ منجاتِها، وما يصحُّ أن تتعلّقَ به وتستمسكُ به وترقى فيه، وما بإمكانهِ أن يعلوَ بها ويجعلها تسمو إلى أعلى المقاصدِ والمطالب، وتنأى بهِ عن مواقعِ أهلِ النفاقِ والكذبِ والزور، والفسقِ والفجورِ الباطنِ والمعلَن صبحًا ومساءً.. حتّى إذا ما صارَ العبدُ كما يريدُ اللهُ لهُ أن يكون، وسمت روحُهُ كما يحبُّ الله لها ويرضى، مكّنهُ اللهُ روحيًّا من استشفافِ معدنِ الأرواحِ حوله، وأمدّهُ بالقدرةِ على تمييزِ الروح النقيّةِ الطاهرةِ من الأخرى الخبيثةِ الفاسدة، وعلى تفريق الروحِ الجليّةِ الناصعةِ البيضاء عن الأخرى السوداءِ المعتمةِ الملطّخةِ بصفرةِ النفسِ وشرورِها ودنسِها وعفونتِها، وأعطاهُ العلمَ الكاشفَ والبصيرةَ النافذة التي يختارُ بها ويميّزُ عبرَها الجليسَ الصالحَ من الطالح، والصادقَ من الكاذب، والنقيَّ الطيّبَ من الخبيثِ المداهنِ المتلوّن، فيبتعدُ بذلك عن كلّ فاسدٍ ومنافقٍ، ويقرّبُ إليه كلّ من ارتاحت إليهِ نفسهُ ومالت إليهِ روحُه الطيّبة التي لا تنجذبُ إلاّ لمثيلاتِها..
وقد جعل اللهُ تعالى لهذه الروحِ الطيّبةِ التي تنسجمُ وتأتلفُ مع قريناتها من الأرواحِ الساميةِ العاليةِ، المتحرّرةِ من قيودِ المادّةِ وثقلِها، علاماتٍ لا يراها إلاّ المبصرون بقلوبهم التي لم تلامسها بقعُ العمى، وصدورِهم التي تنوّرت بنورِ الحقِّ والهدى والإيمان، فأضحت ترى بإحساسها وحدسِها وإيمانِها الصادق، وتألف قلوبًا ناصعةً نيّرةً مثلها، تماثلُها في الطهرِ وتجانسُها في الصفاءِ والقولِ والفعلِ والنيّة، وتبادلُها النور، وتنسجم معها أيّما انسجام، وأضحت بفطرتها السليمة الموزونة تميلُ إليها كلّ الميل وتألفها وتتمسّكُ بها، وتنفرُ بها ومعها عن كلّ تشوّهٍ يشوبُ أصحابَ الفطرِ الأخرى الشائهة التي أصابَها ما أصابها من شرورِ النفسِ وخبثِ الشيطان؛ فتركَها بلقعًا خاويةً من كلّ ما يميّز المسلم المتوازنَ السليم، الذي حباهُ الله بنعمةِ الخلُقِ القويم، والصدرِ السليم، والنيّةِ الصافية، والقلبِ الطيّبِ النيّر ِالحيِّ، الذي يرى بنورِ الله، ويحسنُ أن يتبيّنَ بفراسةِ المؤمنِ محبَّه من عدوِّه، والذي يدركُ تمام الإدراك أنّ كلّ مؤمنٍ هو أخٌ له في الدين، وأنّ كلّ كارهٍ للمؤمنين، معادٍ لهم، ومفرّق بينهم هو أخٌ من إخوانِ الشياطين وإن ادّعى عكسَ ذلكَ..
فصلّى اللهُ على سيّدنا وحبيبنا وشفيعنا محمّدٍ صلّى اللهُ عليه وسلّم، وبصّرنا بعظيمِ حكمتهِ في صحيحِ الحديثِ إذ يقول: (( الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة، خيارهم في الجاهليّة خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنودٌ مجنّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف )) رواه مسلم. وما جُنّدت الروحُ إلاّ بأمرٍ من الرحمن سبحانه وتعالى، وما فقهَ فقيهٌ إلاّ بإذنه وحكمته، يعلمُ بعلمهِ أنّ الأمرَ سائرٌ إلى ما يسير إليه، وأنّ النفورَ أمرٌ طبيعيُّ وسليمٌ لا بدَّ منهُ بين الأرواحِ المتناقضة، والمعادن المتضادّة، وأنّ التراكبَ بين الضدّين أمرٌ مُحال؛ بل ومفسدٌ ومضرٌّ بالنفسِ والمعدنِ والروح، فهل يألفُ الذهب إلاّ الذهب؟ وهل تألفُ الفحمةُ إلاّ فحمةً مثلَها؟ وهذا اختبارٌ يواجههُ المؤمن المخلص، الصادقُ في إيمانه إبّان رحلته الدنيويّة القصيرة، حين يتلاقى بأجناسٍ متعدّدةٍ وطبائعَ متضاربة، وليعلمَ كلّ مؤمنٍ صادقٍ أنّه لا بدّ له أن يواجه في هذه الدنيا جيوشًا من الباطلِ وأهله، يحاولون ما استطاعوا – وعبثًا يحاولون – أن يزحزحوهُ عن الحقّ ويرجعوه عنه، وأن يردّوه عن إيمانهِ من بعد ما تبيّن لهم الحقّ { حسدًا من عندِ أنفسهم }، وطغيانًا وكفرا، وما هذا عن جنودِ ( معلّمهم ) إبليس ببعيد، فهو الذي كان قد أُخرج قبلهم من الجنّة لأجلِ أنّه جاء بالكبرِ بما جاءَ، وحسدَ آدم على ما تفضّل اللهُ به عليهِ وأعطاهُ من نعيمِ العلمِ ومزايا الفتوحات، وعلّمه ما لم يعلّم أحدا غيره، وما كان هذا باختيارِ آدم ولا مشيئتهِ وفضلهِ، ولكن كان بفضلِ الله سبحانه وتعالى؛ ليعلم الإنس والجنّ كلاهما أنّ الله وحده { علّم الإنسان ما لم يعلم }، وأنّه لا يحيط ولن يحيطَ بشيءٍ من علمِ الله إلاّ بما شاء، وأنّ { كيد الشيطان كان ضعيفا }، وكذلك تلاميذه، وأنّه وإن اختلف في الأصل وارتفع وتميّز وعلا عن الإنسان في أصلِ نشأته، أو طبيعةِ معدنه، أو في ما تبيّن لهُ وانكشف من علومٍ وأسرارٍ، فإنّ اللهُ وحده هو الذي يقرّرُ من الذي يسبقُ ويتميّز، ويكون الأقوى والأفضل والأقرب، وما الفضلُ إلاّ لمن علمَ أنّ الفضل للهِ وحده، وما سجودُ الملائكةِ لآدمَ إلاّ اعترافٌ وإقرارٌ بمشيئةِ الله، وتسليمٌ له ولإرادتهِ، وإن كانت إرادتهُ أن يسجدَ العالي للذي هو أدنى منه ظاهريًّا، فإنّما الله وحده سبحانهُ هو العالم بالحقيقةِ الكاملةِ للأشياءِ ودرجاتِها، والعارف بوزنِها وقيمتِها الحقيقيّة، والمطّلعُ على الحكمةِ التي أرادَ أن تفيءَ بأمرهِ إليها.
فهو سبحانهُ الذي خلقَ الإنسان في أحسنِ تقويم، خلْقًا وخلُقًا، وشكلًا وجسمًا، وروحًا وطبيعةً، وزيّنهُ وحلّاهُ بأكرمِ الأخلاقِ والسجايا والمشاعرِ والطباع، وميّزهُ بفطرةٍ سليمةٍ متوازنة، فمن الناسِ من حافظَ على هذه الفطرة وحفظها بحفظ الله؛ إذ أوكلَ إليهِ شأنَ رعايتها، وسلّمها إليه لتُصنَع على عينه، ومن الناس من شوّهها وأفسدها وأخلّ بتوازنها بما مالَ إليهِ من سوءٍ وفسادٍ وخبثِ طويّة، ومن طمعٍ وشحِّ نفسٍ وأنانيّةٍ عمياء، ومن حقدٍ وحسدٍ أعمى لا يرى إلاّ بعيونِ الشيطان ولا يتحرّكُ إلاّ بأوامرهِ وتوجيهاته، فردّ اللهُ هذا الأخير
{ أسفل سافلين } لأنّهُ اختار أن يكون من إخوان الشياطين، الذين يعادون أولياء الله وأحبابه، ولأنّهُ قدّمَ رضا العبادِ على رضا الله، وتفاخرَ بالإقبال على الدنيا دون الآخرة، وتقرّبَ وتدانى من كلّ روحٍ شرّيرةٍ وخبيثةٍ تلائمُ طبعه وطبيعته، وإن كرهها في العمقِ وعلمَ بديهيًّا بخبثها وشرّها، إلاّ أنّه فضّلَ التمسّكَ بها وخشي التفريط بها وبصحبتها الظاهريّة إيمانًا منهُ بوهنهِ دونها، وبوهنها دونه، لأنّ في اجتماعه بقوّتِها قوّتُه، وفي اجتماعِها بهِ قوّتُها، وبتعلّقِه بها ارتفاعُه، وبتعلّقها بهِ تأكيدٌ على ارتفاعهِ وبقائه ووجودهِ المهدّدِ الزائل يومًا دون ريب، عاجلًا أم آجلًا.
فالباطلُ ضعيفٌ بذاته، متضعضعٌ بانفراده، من هنا لا ترى أبناء الباطل أقوياء إلاّ حين يتماسكون ويتعاونون على الإثم والعدوان، وحين ينتفشون على أهلِ الحقِّ انتفاشَ الديكِ في عرينِ الأسد، وهم من كلِّ قوّةٍ خواء؛ لأنّهم من رحمةِ اللهِ طُردوا كما طُردَ إبليس من الجنّة قبل هذا. فالواحدُ منهم للواحدِ كالماءِ الآسنِ للماءِ الآسن، يخفي شوائبه بمياهِ قرينه، وهو يحسبُ أنّهُ يخفيهِ، في حين يزيدُه القرينُ دنسًا على دنسه وأسنًا على أسنه.. أو هو كالليلِ المتّشح سوادًا حين يداري عتمتهُ بسوادِ غيرهِ، وهو يظنُّ بذاكَ أنّهُ قد صارَ ضياءً، وهو الظلامُ الذي لا يضيءُ ولا يُمحى.
وأمّا الأوّلون السابقون، فأولئك الذين صدقوا مع الله فصدقهم الله وعده، وهم الذين تمسّكوا بنقاء الفطرةِ، وطيبِ النوايا، وحسنِ السجايا والخلُق، وتميّزوا بصفاءِ قلوبهم وجلاء صدورهم وطيبِ أصلهم ومعدنهم، فكانت ظواهرهم تمامًا كبواطنهم، لا تكادُ تميّزُ بين هذه وتلك، من شدّةِ التشابه والتباين والتلاؤم، وكانَ التطابق لزامَ الاثنين، وكان من الطبيعيّ أن يتوافقوا ويتلاءموا ويتآلفوا وينسجموا مع من تشابهت بهم أرواحهم السامية، وتلاءمت معهم فطرهم الصحيحة السليمة والموزونة، من خيرةِ عباد الله الصالحين، المتحابّين فيه، السائرين به ومعه وإليه، العاملين لوجههِ ولأجله، ممّن يحبّونه ويحبّون من يحبّه، ويبغضون من يكرهه أو يكرهُ عباده الصالحين؛ لأنّهم جسدٌ واحد وإن تفرّقوا في البلادِ أو اختلفوا في الألوانِ واللهجاتِ والانتماءات، فإنّما انتماؤهم لله، واجتماعهم عليه وعلى قرآنه وشرعته ودينه، وسنّةِ نبيّه وهديهِ القويمِ المختار.
فهم للواحد منهم كصورةِ الماء للماءِ، ترى نفسها وقرينَها بعينِ وضوحِها وبعينِها، ويراها قرينُها ومثيلُها بعينهِ التي هي عينُها، ولا يراها غيرُها إلاّ ممّن امتلأت أرواحهم بالنظافةِ والوضوح، فهي كمن مالت إليه، شفّافةٌ بلا حدود، ووضوحُها لا يستقرُّ ويجري ويتجسّدُ إلاّ باختلاطِها بماءٍ نقيٍّ دافقٍ سيّال، يلائمُ صفوها ونقاءها الذي تنجلي به وتبين، وهي لذلك لا طعمَ لها ولا روائح آسنة؛ فطعمها يُستشفُّ بريِّها للقلوب العطشى، وتبريدِها الرحيمِ على القلوب، وكلماتِها الرقيقةِ المقرونةِ برهافةِ الحسِّ والفعلِ لمن يستحقُّ رهافةَ الحسِّ والفعل.. ولونُها الأبيض الناصع ينعكسُ كصفحةٍ شفّافةٍ لا تُرى إلاّ بعينٍ مبصرة، قرينُها من جنسِها ونوعِها، وهي في اندماجِها كاندماجِ الماءِ النقيِّ معَ الماءِ النقيّ، هيّنةٌ ليّنةٌ بيّنة، لا تكادُ تفرّقُ بينها أو ترى أيًّا من الشوائب فوقها وعليها وما بين يديها؛ إذ أنّها منسابةٌ أبدًا كالنورِ ونحو النور، ونورُها لا ينطفئُ وميضه أبدًا ولا يزولُ منه الشعاع، إلاّ إن اختلطَ واندمج مع غيرهِ من الأضواءِ الزائفة، والشموعِ المنطفئة، ولهذا فإنّه لا يندمج، ولا يختلط، ولا ينخدعُ أبدًا بأضواءِ الباطلِ الخادعةِ عندَ طرقاتِ العبور، ولا يتعرّج ويسيحُ في كلّ السبل والطرقات، ولا يركبُ كلّ مراكب الدنيا للوصول؛ بل يسيرُ في خطٍّ واحدٍ مستقيم لا ثاني له، وموكبٍ واحدٍ آمنٍ مستقرٍّ يوصلهُ إلى بغيتهِ الواحدةِ السامية، ووجهتهِ الأبديّةِ التي لا يسعى إلاّ بها وإليها، ولا يسيرُ إلّا في سبيلِها الأوحد، وإن قلّ الراكبون والسالكون في ذلك الدربِ القويم، الذي لا يسلكه إلاّ الصادقون، وهم قلّةٌ نادرةٌ خالصة لا تُعوّض ولا تُستبدَل ولا يُقنعُ بغيرِها، فما أثمن القلّةَ الصالحةَ وأعظمها، وما أمتنَ حبالَ محبّتِها الدائمة، وتآلفِها الروحيِّ الآسر، وما أصدقهُ وأنقاهُ أمامَ عصبةِ الباطلِ المتّحدة في تفكّكٍ قلبيٍّ، وتشرذمٍ باطنيٍّ، واعتلالٍ نفسيٍّ خلُقيٍّ مشاعريّ، وتشوّهٍ روحيٍّ فطريٍّ، وإن تكاثرت أعدادهم وتبخترَ وازدهى اجتماعُهم الظاهريِّ الزائف.
فهؤلاء هم المؤمنون الخلّص، الأنقياء الأصفياء، الصادقون المتواضعون، المتحابّون في الله، القاصدون وجهه، الطالبون الآخرة، المتحرّرون من الدنيا ومظاهرِها، الصالحون العاملون قولًا وفعلًا ونيّةً، وهؤلاء فقط هم الذين فازوا في امتحان الدنيا، وسيكون الفوزُ حليفَهم في الآخرة، وهم الذين بشّرهم اللهُ تعالى في كتابهِ الكريم بالفوزِ والفلاحِ حين قال: { إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجرٌ غيرُ ممنون }، فلهم في الدنيا أجرٌ، وفي الآخرة أجرٌ أعلى وأعظم إن شاء اللهُ تعالى؛ وإن لاقوا ما لاقوهُ من بغيٍ وظلمٍ وكرهٍ واعتداء، ومن اجتماعِ الأعداءِ وكيدِ الفجّارِ والكفّارِ، ومن تربّصِ المنافقين ودعاةِ الباطلِ في الحياةِ الدنيا، { وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ }، وإنّ لهم فوقَ هذا حياةً طيّبةً هانئةً في الدنيا قبل الآخرة، يستلذّون بنعيمها، ويتنعّمون بخيراتها، ويذوقون رغد عيشِها وحلاوةَ جنّتِها المملوءةِ بحبِّ الله وحبّ أحبابه وأوليائه، ولهم رفاقُ حقٍّ وإخوان صدقٍ كرام، يحفّون بهم كما تحفّ الملائكةُ بمجالسِ القرآنِ وأهلِ الذكرِ والعلمِ والتقوى؛ وإن تفرّقت الأبدانُ وتباعدت بينهم المسافات، فالأرواحُ تلتقي.. وإن شحّت مواردُ الصدقِ وجفّت آبارُ الأخوّةِ الحقيقيّة والصحبةِ الصالحةِ والمودّةِ المتجرّدة الخالصة، فإنّهم يبقون لهم وبهم ومعهم كما الشامّة تزيّنُ وجهَ الحسنِ البرّاقِ الصافي الذي لا يبلى ولا يتجعّد؛ لأنّهُ موصولٌ بالله ومتّجهٌ إليه، ومَن كانَ حسنهُ من الله وبالله ومع الله، فإنّ الحسنَ فيهِ باقٍ ودائمٌ أبدًا وفي أحسنِ تقويم…